منذ ان تطورت الدولة، ككيان سياسي ودستوري، وهي تحاول تحقيق اهدافها المختلفة المنبثقة عن منطلقاتها الفكرية، وذلك باستخدام ادواتها المالية الرئيسة- الايرادات والنفقات- وقد تطورت هذه الادوات ومنها النفقات العامة مع التطور الذي اصاب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية . فالاتجاه العام للنفقات ينحو للزيادة المستمرة وهو ما يدعى بالتزايد اللانهائي لنفقات الدولة, ولا تكاد تستثنى من هذه القاعدة دولة من الدول.
وترتبط هذه الزيادة بعوامل عديدة يقسمها البعض من المفكرين الى مسببات ظاهرية واخرى حقيقية فبينما لا يقود المسببات الاولى الا الى زيادة النفقات بما لا يقود الى زيادة متوسط حصة الفرد بها، تجد الثانية تعمل على ذلك. ولا نجد اختلافاً بين دولة واخرى قدر تعلق الامر بالاتجاه العام لتزايد النفقات العامة. ولكن الاختلاف الرئيس بينها يقع في هيكل هذه النفقات، اي كيف تنقسم بين جارية واستثمارية، وبين نفقات مخصصة للخدمات والدفاع وغير ذلك.
سأتناول في مقالي هذا: تحديد موقع الانفاق العسكري في هيكل النفقات العامة اولاً، ومناقشة الجدل الدائر بين المفكرين حول صفة هذا الانفاق فيما اذا كانت استهلاكية ام انتاجية.
وولوجاً الى جانب الاول من العرض، نقول: ان الانفاق العسكري او الدفاعي، كما يحلو للبعض تسميته، يدخل في نطاق النفقات الجارية الى جانب الانفاق على الخدمات العامة والاجتماعية وغيرها. وربما يسهل هذا الامر الانتقال الى الشق الثاني من المقال، وهو مناقشة الصفة الاستهلاكية او الانتاجية لهذا الانفاق كونه لم يدخل ضمن الانفاق الاستثماري او الانفاق المخصص للتنمية على الرغم من بعض التحفظات على هذا الطرح .
لقد تباينت اراء المفكرين في الموقف من هذا الانفاق، وسبب الجدل يرتبط بامور عديدة، منها الحجم الكبير الذي يشكل هذا الانفاق قياساً بالانفاق الجاري بخاصة والانفاق العام بعامة، اذ تشير الجداول البيانية الى تعاظم مثل هذا الانفاق لاسباب عديدة تختلف على طرفي العالم المتقدم والعالم الثاني. فالاول يسعى الى كسب عصا السبق والتفوق من خلال سباق التسلح وضمان مناطق النفوذ واستمرار تدفق النفط، والاطمئنان على مصادر الطاقة، وضمان ميزان القوى الى جانبه، والحفاظ على تقسيم العمل الدولي بما يعزز رفاهه على حساب شعوب العالم المتأخرة عنه. اما الثاني، فيسعى الى تكوين جيوش وطنية قادرة على حماية أمن شعوبها والحفاظ على مكاسبها وخبراتها دون اغفال زيادة حمى التسلح لدول هذا الطرف بسبب المشكل الاقليمية القائمة والمستجدة والمستشارة بفعل اطراف لها مصلحة في ذلك غالباً ما تكون من دول الغرب الصناعي.
اي، ان الكثير من النزاعات والحروب المحدودة والواسعة التي تندلع في العالم، ما هي الا حروب ظل،غذيت من اطراف اجنبية لها مصالح فيها تتمثل بكونها اداة للضغط او سبيلاً لتصريف سلعة الحرب، وانعاش اسواقها الراكدة او ايجاد المبررات المناسبة لتدخلها.
وتشير الجداول البيانية المتاحة عن هذا الجانب، الى ان واردات الاسلحة تحتل نسبة كبيرة من اجمالي الواردات في البلدان النامية. ولعل من الامور التي تثير الدهشة، ان الانفاق العسكري يفوق التكوين الرأسمالي الاجمالي في بعض البلدان ولا سيما العربية حيث نجد ان النفقات الحكومية على الامن والدفاع بلغت نسب مذهلة من الانفاق الجاري، سواء في الاقطار العربية النفطية او غير النفطية.
عن ذلك نقول: ان بعض المفكرين عدو الانفاق العسكري انفاقاً استهلاكياً برمته، وهم بذلك يشاطرون المواطن الغربي التقليدي الذي يجد في الانفاق الحكومي انفاقاً تبذيرياً، ويتسلح هؤلاء بتبريرات عديدة، منها – ان هذا الانفاق لا يعمل على زيادة الدخل القومي، ولا يحقق اضافة في الجانب السلعي او الخدمي، بما يقود الى تحقيق اشباع مماثل لما توفره السلع او الخدمات الاخرى، فضلاً عن ذلك، فهو يقود الى مزاحمة من الدولة للقطاع الخاص على الموارد المحدودة، ويعمل على تبديد المدخرات الوطنية التي يكون البلد ولا سيما النامي في اشد الحاجة اليها. ولعل اوضح الدلائل على اتهام الانفاق العسكري بالصفة الاستهلاكية هو معاملة هذا الانفاق من قبل الحسابات الوطنية كانفاق استهلاكي.
هذه احدى وجهات النظر، فماذا عن وجهات النظر الاخرى؟
نرى في الانفاق العسكري جامعاً للصنفين في آن واحد، طبقاً لتبويب الانفاق ذاته وآثاره على الاقتصاد الوطني. والسؤال المطروح هنا: كيف يفسر هذه الرؤيا؟
1- ان جزء من الانفاق الذي يمكن ان يطور ابداعات معينة او انجازات علمية يمكن ان تطور الصناعة المدنية من خلال انتاج سلعة جديدة او تطوير سلعة قائمة او تقليص التكاليف او تقليل وحدة الخدمة المستخدمة، يعد انفاقاً انتاجياً. ولا شك في ان مراكز البحث العسكرية طورت كثيراً من الصناعات المدنية، ولا ادل على ذلك من استخدام ثمار المنجزات الباهرة في مراكز البحث والتطوير خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها في تطوير بعض الصناعات المدنية، كالصناعات الالكترونية ووسائل الاتصال والاستشعار عن بعد وغير ذلك.
2- ان الانفاق العسكري الذي يمكن ان يخلق طلباً على بعض السلع يقود الى توسيع حجم السوق وتطوير الصناعة الوطنية وزيادة التكوين الرأسمالي، يعد انفاقاً منتجاً.
3- اما الجزء الاخير من الانفاق والذي يصرف على رواتب الجنود ومستلزماتهم الاخرى، فيعد نفقات استهلاكية.
4- يعد جزء النفقات الذي يساهم في تطوير البنى التحتية التي يمكن ان يستفيد منها الاقتصاد الوطني، نفقة منتجة.
يعتقد بعض المفكرين ان التفصيلات المذكورة في اعلاه، لا يمكن تطبيقها على البلدان النامية لجملة اسباب منها: ان هذه الاخيرة تلجأ الى سد حاجتها من الاسلحة والاعتدة وملابس الجند والمركبات وغير ذلك، من الخارج، الامر الذي لا يمكن ان ينعكس ايجابياً على الاقتصاد الوطني لا بل حتى ان الآثار غير المباشرة المترتبة على الانفاق الحكومي تكون ضئيلة لتسربها الى الخارج بفعل عظم حجم الاستيرادات، هذا فضلاً عن ان زيادة الانفاق العسكري يقود الى ارتفاع الاسعار وتغذية معدلات التضخم لمحدودية الموارد في البلدان النامية بمواجهة الطلب الاضافي عليها للاغراض العسكرية، الامر الذي يعمق من حجم المشكلة الاقتصادية.
وتأسيساً على ما تقدم: يعد الانفاق العسكري في البلدان الآخذة في النمو، ذو صفة استهلاكية, ولعل الامثلة التي يمكن سوقها على حالة البلدان المتقدمة ما حصل في الولايات المتحدة الامريكية مثل دخولها الحرب العالمية الثانية، حيث كانت تسود بطالة كبيرة عام 1939… ولكن الانفاق العكسري الذي تزايد بفعل الحرب عمل على تحقيق التشغيل الكامل وزيادة الناتج القومي الاجمالي للولايات المتحدة بما يزيد 100% فضلاً عن العمل على زيادة الناتج الصناعي واحداث سلسلة كبيرة ومتنوعة من الاختراعات والابتكارات التي اعطت الصناعة المدنية دفعة كبيرة. وارجو ان لا يفهم اني اروج للحرب او لزيادة الانفاق العسكري. ولكن حقيقة الحال تشير الى ان الكثير من المخترعات خرجت من رحم المختبرات العسكرية.
ان التسلح وخيارات الحرب والسلام والظروف الاقليمية والدولية تجعل من الانفاق العسكري امراً لاخيار فيه، لذا فان الدول النامية مدعوة لمحاولة كسب التكنولوجيا وتطويعها بما يمكنها من الاستفادة من الانفاق العسكري لاغراض تحفيز وتعزيز القطاعات المدنية ومن ثم الاقتصاد الوطني ككل.
[email protected]