خاص : قراءة – سماح عادل :
رواية (المكان) للكاتبة الفرنسية “آني أرنو”، ترجمة “د. فاطمة رشيد، ود. سيد البحراوي”، إصدار دار “شرقيات”.. تتناول علاقة الإبنة بأبيها، لكنها علاقة معقدة تتداخل فيها هموم طبقية واجتماعية بجانب العلاقة الإنسانية.. فالكاتبة تعترف بدءً من المقدمة أنها كانت تتعالى على أبيها وعلى أسرتها؛ بعد أن صعدت طبقياً وانتقلت من طبقة العمال والكادحين إلى طبقة البرجوازية الصغيرة.
الشخصيات..
البطلة: ليس لها اسم.. يتضح أن الكاتبة والراوية والبطلة هم شخصية واحدة، وهي: “آني أرنو”، تحكي عن والدها وتتذكر تفاصيل علاقتها به وتقاطعها معه في الحياة.
الأب: مزارع بسيط ولد في قرية، ينتمي لأسرة فقيرة.. كان أبوه مزارعاً أجيراً ثم التحق بالجيش، وبعد ذلك أصبح عامل مصنع، وترك قريته وتزوج بعاملة، وحاول طوال حياته أن يكون له بيته الخاص واستطاع أن يكون له مقهى وبقالة.
الأم: عاملة مصنع.. تركت عملها بعد إنجابها الطفلة الأولى، والتي ماتت بمرض التيفود، ثم أنجبت البطلة فقط، شاركت مع زوجها في تجارته البسيطة وعاشت معه طوال حياته.
الراوي..
الراوي يتعمد إظهار نفسه بين وقت وآخر، فالكاتبة تظهر بوضوح في ثنايا الرواية، تقول أنها تكتب عن أبيها وأنها جربت أكثر من صيغة للكتابة واستقرت على هذه الصيغة النهائية، الشخصيات الأخرى محكومة بانطباعاتها عنهم ورؤيتها لهم، فهي تخنق أبطالها ولا تترك لهم مساحة للتنفس أو للتحرك بحرية.
السرد..
السرد جاف بطيء.. يتخلله ملاحظات من الكاتبة ومداخلات، وكأن القاريء يتابع الكاتبة وهي تكتب محتارة ومشوشة ومهمومة، الحزن يتخلل ثنايا النص القصير، الذي يبلغ 80 صفحة من القطع المتوسط، يشعر القارئ طوال الوقت بفتاة نادمة تحكي بإحساس عميق بالذنب أو ربما عجز عن تجاوز عقدتها نحو أبيها.
الحياة القاسية للكادحين..
تحكي الكاتبة عن حياة الكادحين قبل الأربعينيات في قرى فرنسا، من خلال حكيها عن جدها وأبيها، وكيف كانت حياتهم قاسية ومليئة بالفقر.. كانوا مزارعين أجراء في أراضي الآخرين، ليس لهم أملاك، وحين أصبح أبوها عاملاً في المصانع تحكي عنه ويتبين من حكيها أن حياة العامل قبيل الحرب العالمية الثانية وأثنائها بائسة.. فالعمال يعيشون في فقر وعوز ويتنقلون بسبب الحرب، وتبين كيف أن القيم التي كانت سائدة في ذلك الوقت هي تمجيد العمل اليدوي والعمال الناشطين والتنكيل بالكسالى.
وقد استطاع أبوها أن يمتلك منزلاً مع تقدم السنوات بالكفاح والعمل، حيث بدأ في شراء بضائع صغيرة وكان بقالاً متواضع الحال ثم نجح في النهاية أن يحقق حلمه، وأن يكون لديه مقهى، وتروي كيف كان أبوها خشن الطباع لا يكترث بها أو بتعليمها، وكان يبتعد عنها لأنه كان يشعر أنها ليست مثله؛ وأن حياتها رسمت بشكل مغاير نتيجة لمواظبتها على التعليم والتفوق فيه.
الصعود الطبقي..
تحكي “أرنو” كذلك، أنها منذ مراهقتها أصبحت تبتعد عن أبيها أكثر، ليس فقط لخشونة طباعه، ولكن لأنها أصبحت تتطلع إلى حياة أفضل، حياة البرجوازية الصغيرة، وكانت تعتبر أبيها فلاحاً، وكانت هذه وصمة في المجتمع أن يكون المرء فلاحاً أو يتصرف كفلاح.. كانت تقترب من أمها أكثر، والتي أبدت مرونة في التأقلم مع عالم ابنتها الجديد، لكن أبوها كان يصر على التمسك بعالمه، وكان لا يفهم إصرار ابنته على المذاكرة وعلى القراءة والكتابة وقضاء ساعات طويلة فيهما، كان بالنسبة له العمل هو العمل اليدوي.. من جانبها تبدي الكاتبة أسفاً على تعاليها على أبيها؛ وتبدأ الرواية بحدث موته ودفنه، ثم تظل تتذكره من خلال الصور ومن خلال ذاكرتها، لكنها مع ذلك في أثناء حكيها لم تبد تعاطفاً كبيراً أيضاً، تقول بشكل صريح أنها نادمة لكن لا تفعل شيء حيال ذلك، وإنما تحكي عن أبيها في برود ومن الخارج، لا تظهر أية ملامح إنسانية فيه، وإنما تتذكر كل الأمور التي كانت تسبب النفور بينهما، كقارئة لم أتعرف على أبيها عن قرب، وإنما كان ملامح لشخص باهت، قدمت الكاتبة انطباعاتها وانفعالاتها تجاهه أكثر من كونه شخصية حية تتحرك أمام القارئ.
الترجمة..
كقارئة لم أحب أن يكون الحوار بالعامية المصرية.. فقد حرص المترجمان على نقل بعض الجمل المتفرقة التي كانت تبين فيها الكاتبة كلام الشخصيات بلسانهم بالعامية المصرية، بل واستخدما مصطلحات تعد سباباً في العامية المصرية.. كقارئة حين أقرأ رواية فرنسية أحب أن أشعر أنها فرنسية تماماً، فمحاولة تمصيرها أو إسباغ طابع اللغة المترجم إليها يشوش ذهني، لا اندمج تماماً مع الشخصيات التي أشعر أنها مسخاً، ليست فرنسية وليست مصرية، اللغة الفصحى في الحوار أقرب إلى تصوير خصوصية الأبطال في رأيي.
الكاتبة..
“آني ارنو”، واسمها بالميلاد “آني دوشيسن” ولدت عام 1940، بـ”ليلوبون”، وهي كاتبة فرنسية ومدرسة أدب فرنسي.. حصلت على جائزة “رينودو الأدبية” عام 1984.. في سن الخامسة نزح أبواها إلى مدينة صغيرة بإقليم “نورماندي”، حيث أدارا مقهى وبقالة، أكملت دراستها الإبتدائية والثانوية في مدرسة للراهبات، درست الأدب في جامعة “روان”، سافرت من أجل اكتساب التجارب، تم تعينها أستاذة لتعليم اللغة والأدب في مؤسسات عمومية.
الكتابة عن الأب..
تقول “آني أرنو” عن رواية (المكان): “هذا الكتاب ولد من وجع، وجع أتاني فترة المراهقة، عندما قادتني المتابعة المستمرة للدراسة، ومعاشرة زملاء من البرجوازية إلى الابتعاد عن أبي، العامل السابق، والمالك لمقهى وبقالة. وجع بدون اسم، خليط من الشعور بالذنب والعجز والتمرد (لماذا لا يقرأ أبي، لماذا “يسلك بفظاظة “، كما يكتب الروائيون ؟). وجع مخجل، لا يستطيع الإنسان أن يصرح به أو حتى أن يشرحه لأحد. كان موت أبي المفاجئ سنة نجاحي في مسابقة الأستاذية حدثاً فاجعاً. وراء الحزن غمرني يقين (بخيانة طبقية) كنت قد انتقلت، دون شعور من عالم أصلي، شعبي، عالم أبي، إلى عالم آخر، عالم البرجوازية المثقفة. كنت قد تعلمت لغة القبيلة المهيمنة، وأن استعملها للحديث عن العالم المسود الذي أتيت منه، والذي كان أبي ينتمي إليه، كان ترسيخاً للخيانة غير أنني لم أتوقع هذه الدرجة من صعوبة المشروع. أغرقتني في اليأس محاولات متعددة، من بينها رواية من مائة صفحة لم تكتمل. كنت أفشل في الوصول إلى ما كنت أشعر به على أنه حقيقة وضع أبي ـ أسقط بين نمطين بديلين للكتابة الدارجة عن عالم العمال والفلاحين، الشعبوية والبؤسوية. يقوم الأول على وصف الثقافة الشعبية دون إشارة إلى الاستلاب الاقتصادي، ولا يرى الثاني في هذه الثقافة سوى التعاسة وتدهور الثقافة (الحقيقية)”.
وتواصل: “كانت الكتابة المحايدة، بلا حنين، بلا تواطؤ مع قارئ مثقف، كتابة تحمل (مسافة) بين عالمين، كانت هي الوحيدة التي تمتلك فرصة إعطاء صورة سليمة لحياة رجل (عادي) وانطلاقاً من هذا الاكتشاف المنتمي للتحليل والجماليات معاً، أمكنني استكمال مشروعي. بعد أن انتهيت من (المكان) شعرت بخليط من القلق والرضى. قلق كما في اختراق المحظور، أن يعطي الكاتب موقعه الاجتماعي ويذكر ثقافة يعتبرها الرأي العام دنيا، ورضى لتحقيق مهمة أخلاقية وسياسية، محاولة استبدال العزة بالمهانة الضمنية. بعد ذلك بررت لي ردود الفعل الكثيرة، المؤثرة للقراء نشر هذا الكتاب، الذي كان يسمح للآخرين بأن يعيدوا اكتشاف أشياء مدفونة موجعة معاشة في الخجل والوحدة وفي النهاية أن يفهموها”.
أعمال “آني آرنو”..
امرأة
غواية بسيطة
الحدث
المكان
البالوعة القذرة
الخزائن الفارغة
صانعة الملائكة
ما يقولونه أو لا (1977)
المرأة المتجمدة (1981)
العار(1977)
السنوات
يوميات الخارج
الحياة الخارجية2001
الضياع