حينما تابعت برنامجا على قناة “الجزيرة ” حول لغز رحيل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وأصغيت الى مطالبة زوجته باعادة تشريح رفاته لشكوك تراودها بوجود آثار لمادة البولونيوم السامة في المقتنيات التي كان يستعملها عندما كان نزيلاً في المستشفى الفرنسي الذي توفى به ,أقول :ظننت أن الأمر عابرا وسيتوقف عند حدود إثارة الأسئلة لكنني فوجئت عندما أخذت المسألة منحى جديا وشكلت السلطة الفلسطينية لجنة للتحقيق في ملابسات وفاة عرفات وقررت اعادة تشريح الجثة بعد مرور نحو 8 سنوات على دفنها !
وانتقلت حمى نبش القبور الى تركيا عندما جرى نبش جثة الرئيس التركي الاسبق تورغوت اوزال لتشريحها في الأسبوع الفائت بقرار قضائي وتحديد ما اذا كان تم تسميمه، على ما اقترحت عائلته بعد وفاته عام 1993، بحسب وسائل الاعلام التركية.
وباشر عمال برفقة طبيب شرعي بنبش نعش اوزال من المزار الذي يرقد فيه في اسطنبول في دائرة زيتينبورنو
حدثان أثارا في نفسي الكثير من الإمتعاض , فللقبور حرمة ينبغي مراعاتها , وتقديرها من تقدير الميت , وبحضرتها لا نملك سوى الترحم لساكنيها , وعندما تهيج العاطفة وتستفز الذكريات من رقادها نبكي عليهم , وهنا تحضرني أبيات متمم بن نويرة الذي كان ملازما قبر أخيه مالك حتى لامه الناس على فعله فأنشد يقول:
لقد لامني عند القبور على البكى
رفيقي لتذراف الدموع السوافك
يقول :أتبكي كل قبر رأيته
لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك
فقلت له ان الشجى يبعث الشجى
دعوني فهذا كله قبر مالك
وقد اتفقت كل السنن والطبيعة البشرية على أن تحترم جثث الموتى وتدفن بشكل لائق , لذا كان نادرا ماتنتهك تلك الحرمة الا في الحروب الإنتقامية وقد حدث في تاريخ الاسلام حالتان شاذتان عندما نبش العباسيون قبور الأمويين والثانية نبش الأيوبيون قبور الفاطميين والتي رادفتها جريمة ثقافية بحرق مكتبة بيت الحكمة في القاهرة وتعادل هذه الجريمة خسارة مكتبات بغداد عندما هاجمها المغول عام 2058م
,وفي شريعتنا الإسلامية نجد تقديار للقبور وساكنيها حيث يرد في القرآن الكريم: (إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ،وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ،وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ،وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) فبعثرة القبور أمر جلل من الأعمال المرفوضة وهو ماتؤكده الآية الكريمة (أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ)
وبما أن الميت منزوع الإرادة لذا وجب على الأحياء مراعاة ذلك مهما كان الهدف والغاية المنشودة , لكن لرجال السياسة والقانون والتحقيقات الجنائية كلمة تختلف عن كلماتنا وتوجهات تختلف عن توجهاتنا ,لذا سنظل نتابع مايحصل في عالمنا المضطرب بأرواح حزينة لاملاذ لها سوى الصمت والترحم على أرواح من ماتوا والدعاء بأن لايقلق رقدتهم الأبدية أي معول متطفل يبحث عن سر مدفون في ظلام القبر .