إن أهم مشهد نتلقاه من الفضاء الشعري للشاعرة فليحة حسن هو محاولة تعويض الفقدان الذي لا يمكن استبداله بأي جهد، عبر استحضار صورة المرأة المشدودة الوثاق لأثر الرجل الغائب وبالتالي إعادة توجيه النظرة إلى ما يترتب عن تشغيل وظيفة الاستحضار للبنية المتنحية، فيتحول الشعر إلى تمثيل إنتاجي لشيء مستبعد، لاسيما وأن حضور الرجل يتخذ منزلة الحب الأسروي المفقود. إن ما تولده الحروب من توتر وتغير يتحول بالنتيجة إلى اغتراب وشعور بالوحدة، خاصة وأن الحروب هي بالدرجة الأساس عقاب جسدي جماعي تتسع مراميه لخلق ضروب من اضطرابات النفس واختلالات العقل، الأمر الذي يدعو المرأة الشاعرة لسد هذه المنزلة الفارغة بالشعر، ولعل هذا الأمر يمثل ميداناً حقيقياً لحلول الشعر بديلاً عن الجسد الغائب، فلا مناص للمرأة الشاعرة من الغوص في بواطن الشعر المنشغل بالجسد الغائب، طالما ظل الرجل من ممتلكات مشعلي الحروب، وهكذا تتشكل اشتغالات الشاعرة فليحة حسن من أحاسيس تهرع وأخرى تنتظر الكارثة، لتقف بمواجهة نسخ مكررة من أصل المأساة التي تفرض منطقاً غريباً وهو الإصرار على إدامة الحياة ببدن واحد، وتلك هي أهم مكونات الاغتراب في شعر فليحة حسن، فالرجل لا يمثل في شعرية الشاعرة سوى صورة الحياة القصيرة القاسية، وانطلاقاً من ذلك يتحتم على الشاعرة مواجهة التحديات ومن بينها مليء الفراغ بالجسد الشعري الأنثوي، وأمام حياة الرجل هذه والتي لا تكون إلاّ ذكرى وانعكاساً آفلاً، تتجه المرأة الشاعرة إلى إعادة اكتشاف الفضاءات الفارغة ونحت الأجساد الإنسانية فيها اعتماداً على شاعرية تعتمد البرهان المظلل لأثر الحضور، ومواصلة الاشتغال الشعري الذي من شأنه ان يحوّل الشعر إلى كثافة جسدية وإنتاج مكان إضافي للنمو الأنثوي في عالم فارغ من جسدية الرجل، لذا تكون صورة الغربة حاضرة بالضرورة في الاشتغالات الشعرية للشاعرة (فليحة) وهي تنتج هذا الضرب من الشعر الكامن وراء معنى الانتظار. إن الاشتغال الشعري يثير الانتباه إلى ما نستطيع تسميته بـ(الظاهرة الفراغية) في الشعر، وهي ظاهرة لها لسان شعري من نوع آخر، منشغل بمعالجة تبديد القوة الجسدية للرجل بأفعال تقترب من العبث واللعب مع الأقدار، وهو معطى شعري فارغ من أية حميمية، لكنه واقع في صورة الجسد الرجولي الذي تمزقه الحروب فلا تتلقى المرأة من شظاياه المتناثرة سوى الانطواء والعزلة بعد إمحاء موجوديته التي يتملكها سواه، حيث تبرز الهيئة الجسدية التي تنتج شبحاً حاملاً لسجل الأجيال الدامي ومرغماً المرأة على الترقب واجتذاب هواجس الفزع الموصولة بجذور التصورات الكارثية:
تلك علامات صبح آفل
تقول التي
لم تزل للآن
تسوي غطاء السرير
وتحلم ان سيجيء
بواحدة من ليالي الحنين
تشعل عود ثقاب
تطفئه
تلك بقايا سنين ذوت
————-
————-
————-
تقول أخته: قبل حربين
كنت أوسد رأسي لصدر حنون
ما عدت أذكر
كيف وجدنا عظام القتيل
وكان أبي
يدافع عن بعض أرض سراب
ويسأل ظله،
لمن هي في الأصل؟
يلتقط الشعر صورة تخمينية للرجل الشبح في محاولة لترسيخ مناعة الأنثوي في الرجولي الذي يسمح للأنثى بإدارة ذات الذكر، هذا التعاقد الأنثوي الذكوري المنحوت في الفراغ هو سمة لشعرية المرأة التي استوفت شروط الشعرية بغياب الرجل وجسده بوصفه مشروع غياب تتبناه الحروب، ولكن تواري الجسد الذكوري يسمح بحلول الجسد الأنثوي الذي يعمل على إيقاظ الحواس الأنثوية بدلاً من إماتتها، لذا تصبح مسألة الإنصياع لمحنة الرجل بمثابة تحرر من تبعيته، لكنه التحرر الذي يسمح بالاتصال الجسدي مع الروح الهائمة، هذا الاستمرار الشعري الذي تحتمه العلاقة مع الغائب، وان كان غياباً، لكنه يشكل حصوراً لبنية الشعر، التي تستجيب لغياب الوظائف الجسدية، وتكوين الأواصر معها، حيث يتحقق المعنى في غير صورته المألوفة:
صار يشدّ عليّ غطاء الدفء
فأقرر:
سأعلن حربي
واليوم
أبصرت الطفل المهووس بقربي
يرفع عني غطائي
ينظر صوب الأشياء الناضجة
ويمد يداً نحو الرأس الأتعبه الركض
في دهليز الحرب
————-
————-
————-
مذ كان لي والد
قد بيع للثكنات …. السواتر
ومذ كنت أبالغ فيك
فأرسم كفاً أصافحها
رغم شدو السياط فوق جدراننا
————-
————-
أيه (محمد):
لو كانت الأرض مربعة
لاختبأنا بإحدى الزوايا
ولكنها مدورة
لذا يجب ان نواجه العالم
ولكن هل تفلح الأقدار في تصحيح أخطائها؟، وعلى الرغم من أن الأقدار لا يقوى على بطلانها أحد، غير أن الشاعرة عاجزة عن مقاومة رغبتها في الحلول ببقايا إنسان، لعل الدور الإيهامي الذي يمارسه الاشتغال الشعري هذا والذي ينشئه الغائب في الحاضر يتعلق بملكة الحلول التي تحتوي على متضمنات، من بينها تحويل الشعر إلى سلوك اتصالي، يقوم بدور المنشط للذاكرة، مستثيراً خبايا الغائب أو شكل نهايته وهو دور إحالي وليس دوراً ختامياً انه يشير إلى ما يتلوه ويستغرق في لذة إنجاب أثر لما هو غائب، أن الشيء الغائب يكون مستحيلاً، إنه قابل للمبادلة بغيره:
يا هذا المستوحش أبداً
في غابات تمطر تيهاً
لا تعبث بتراب الصورة
أو وهج حصاها
فاللوحة لغراب هائم
أكمل تأثيث منافيه
وعلى الرغم من ان الأنوثة الحزينة المنكسرة في قصائد المجموعة لا تحصل على اعتبار إلا إذا كان موصولاً بغياب الرجل مما يولد اغتراباً في مشاعرها ويزعزع قيمة وجودها وهو تصور يتأسس على مبدأ التفاعلات الجسدية الناقصة، التي توجب إطلاق سلسلة من الاستحالات ومن بينها إعادة إنشاء الجسد الشعري في الفراغ ومحاولة حذف الأخطاء عبر هاجس التصحيح، غير ان استحالات الشاعرة المتمثلة في استحضار الغائب ما هي إلا صور ترتدي أشكالاً للذكرى، وان هذا ليعني إذن بأنها تشتغل عكس منطقها على افتراض ان لكتابة إنتاج ليس مستقلاً عن الفرد، ولكن هذا التأسيس هو في حقيقة الأمر متأسس على مهارة تحويل الدلالي إلى طيفي وهو بالنتيجة نفي لموجودية الإنسان والاشتغال على جدلية (اختفاء الظهور) والتي لا تفترض أناساً لا يراهم الشعر إلا بجسد كامل، بمعنى ان ظهور بدائل للأجساد هو إخفاء لها، لكنه إخفاء مضاعف وتعويض من شأنه ان يولد أملاً:
لو كان القلب شمالاً لاستمتعتم ببرودته لكن جنوبيته تأبى
إلا ان تهديكم جمراً
اختراع نهراً وأصيد الظمأ
أن أغني لفرحة قاتلي
في حداد روحي أرتدي البياض
وبالمقابل فأن ثمة طرق أنثوية في التعبير الشعبي تشف حزنه وامتثالاً للذكرى ولوعة مشبوبة بالوفاء لمن غاب، لدرجة أن المرأة قد تعامل جسدها حزناً بمنطق ما يعامل به جسد الرجل في الحرب، بوصفها الأكثر إحساساً بأهمية الجسد، ولذلك فهي التي تعيد إنشائه بعوامل التخييل على صور شتى، وأني لاعتقد ان الشعر يماثل كل ما هو قادر على إعادة الإنشاء، اما الفارق المثير للاهتمام فهو إعادة الإنشاء غير المستقلة عن ذات الفرد الغائب والتي بوسع المرأة ومن خلالها ان تمتلك أسراراً شعرية:
بين الوجه وبين الناس
فيقذفني المنفى
للمنفى
والحرب الأولى
للأخرى
وأعود أيمم وجهي
شطر المرآة
مرآتي:
هل يوجد في هذي الأرض
أكثر حزناً مني؟
فتهز الرأس
لابد من ان ينتهي المطاف الشعري بإثارة مشاعر الغربة في نمط من التعبير الشعري المنشغل بالعودة إلى شيء ضائع لكنه يشغل مساحة الأنوثة الشعرية بآليات اشتغال تعتمد الخيالي لا الوهمي. أن اشتغالات الشاعرة فليحة حسن تكمن في توجيه سلوك الشعر من سلوك يبحث عن متلق لأمنيات يتمناها إلى اشتغال يبحث عن إشكالية صادمة لدى المتلقي وهو سلوك أي كائن ينتج معنى أو دلالة فلابد له من تفكيك المواثيق والثوابت بالمعنى الذي يرفض الاستقرار والوقوف على شيء بعينه.