لكل شيء نهاية. وإذا كانت حظوة نوري المالكي لدى الولي الفقيه أهم نقاط قوته فهي أخطر نقاط ضعفه أيضا، لأنها تضع رأسه بين السندان الإيراني االذي لا يؤتمن والمطرقة الأمريكية التي لا ترحم. وبقدر قربه من طهران يكون بعده عن واشنطن وعن حلفائها وأصدقائها الكثيرين.
من الممكن تجاوز المساويء العديدة والمزالق المتتابعة التي ارتكبها المالكي بحق شعبه وأهله وإخوته العراقيين، ولكن من غير الممكن أن ينسى حلفاؤه الأمريكان خطيئتين كبريين بحق راعيته وحاضنته الأولى أمريكا التي جاءت به من آخر الصفوف ورفعته على رؤوس كثيرين، بقوة السلاح والمال والسياسة والمخابرات.
فقد ظن أنه يستطيع أن يستغفلها ويفعل ما يؤلمها، دون أن تمسكه وهو متلبس. فقد اندفع لنجدة إيران وخيانة الأمريكان في مسألتين، الأولى دعم الاقتصاد الإيراني المترنح بفعل العقوبات الدولية المشددة، والتي هي أمريكية بامتياز، والثانية جعلُ العراق، أرضا وجوا، ممرا آمنا لأيران إلى سوريا ولبنان لتوصيل الرجال والسلاح والمال إلى أبغض شخصين على قلب أوباما، وهما بشار الأسد وحسن نصر الله.
وهنا يبرز سؤال، هل يظن نوري المالكي أنه ضحك على أمريكا واستغباها وباعها وعودا فارغة بأنه (سـ َ….) يمنع نقل السلاح الإيراني لنظام الأسد عبر الأجواء العراقية؟ أغلب الظن أنه لم يستطع. فلأمريكا ألفَ عين وألفَ أذن في العراق والمنطقة. وهي أقدر حتى من المالكي نفسه على رؤية المخفي والممحي في دولة القانون ذاتها، وفي منزله ذاته، خصوصا وأن العراق أرض مشاعة مشرعة الأبواب لمن هب ودب.
والكل يعلم أن المالكي، حتى لو أراد، لن يستطيع، بل لن يجرؤ على أن يزعج الولي الفقيه بطلب وقف طيرانه الذي ينقل المحرمات إلى سوريا ولبنان عبر العراق.
وللتدليل على ذلك فقد راح بعض مساعديه ومستشاريه يصرحون بأن العراق لن يستطيع تفتيش جميع الطائرات التي تحلق في أجوائه، بحجة عدم توفر الإمكانات الفنية لتحقيق ذلك. ومعروف أن أيا من خدمه المستشارين لن يجرؤ على النطق بتصريح دون إذنه وترخيصه، وربما بإيعاز منه وتوجيه.
وحتى لو افترضنا أن حكومة المالكي استطاعت أن تقنع الولي الفقيه بأن يأمر بعض طائراته بالهبوط في مطار بغداد، ذرا للرماد في عيون الأمريكان، ويأذن بتفتيشها، فمن سيقوم بذلك؟ أليس هو وزير النقل، رئيس منظمة بدر، هادي العامري؟ فبأية جدية وشفافية ووطنية سيقوم بهذه المهمة؟ وهل ستعجز أمريكا عن كشف هذه اللعبة الساذجة؟
هذه واحدة فقط من النقاط السود الكثيرة التي علقت بسجل نوري المالكي لدى إدارة أوباما.
والآن تخيلوا أن بشار الأسد قد سقط، وتبعثرت أحذية المقاتلين الإيرانيين ومجندي حسن نصر الله، وتسلم السلطة في سوريا حكامٌ جدد، من أي فصيل أو أي حزب أو أي تجمع معارض سوري تستبيح إيران وحزب الله دماء رفاقهم منذ أكثر من عام. فماذا سيفعل نوري المالكي؟ خصوصا وأن أمريكا رفعت مجاهدي خلق من قائمة الإرهاب، ثم اعلنت السيدة رجوي، إثر ذلك على الفور، أن المعارضة الإيرانية ستشعل الربيع الإيراني عما قريب؟ هذا مع التذكير بما فعله المالكي بمجاهدي خلق إرضاءً لطهران.
والحقيقة أن إدارة أوباما لن تحتاج إلى كثير من الجهد لإشعال الحرائق بثياب المالكي، ومنعه من البقاء على كرسي الرئاسة دورة ثالثة، خصوصا وأن الساحة العراقية السياسية معبأة وكاملة التجهيز للانفجار، حتى من داخل الشارع الشيعي المحتقن والممتليء بالمرارة والضيق.
تخيلوا ماذا سوف يحدث بعد أن يتم إسقاط نوري المالكي، سواء بأدوات اللعبة السياسية ذاتها التي جاءت به، أو بربيع عراقي آخر من نوع مختلف. كم مرة سوف يقف في قفص الاتهام بتهم الفساد وإساءة استخدام السلطة والاغتيال وتلفيق التهم وبعثرة المال العام؟ وماذا سيحل بمستشاريه وأعوانه الذين أمنوا العقاب فعبثوا كثيرا ونهبوا وارتشوا وفسدوا وأفسدوايساقون إلى طاولة الحساب العسير؟
في العام 8 آب/أغسطس 20011 قلت في مقال بعنوان (أمريكا وإيران على سطح واحد) إن المصالح الواقعية المرحلية التكتيكية الأمريكية والإيرانية المرحلية اقتضت الاكتفاء بنوري المالكي رئيسا مرحليا للوزراء في العراق. ولكن هذه المصالح ذاتها قد تكون غيرَها في الغد.
وإذا كان التفاهم المقصود أو غير المقصود بين إدارة الرئيس أوباما وبين نظام الولي الفقيه هو الذي ألزمَ جميع َ الشركاء في العملية السياسية بالرضوخ والقبول به رئيسا، وعلى مضض، فهو نفسه قد يكون سبب تحريك المياه الراكدة والإطاحة بالطاووس.
نوري المالكي في هذه النقطة عديمُ بصر ٍ وبصيرة. فأمريكا لا تسكت على عملائها حين يشقون عصا طاعتها، أو حين يلعبون على حبال أخرى غير حبالها. ولو بعد حين.
حدثان آتيان بلا ريب ولا جدال، وسيشعلان الحرائق في قلاع نوري المالكي قبل غيرها. الأول فوز أوباما بالرئاسة لفترة ثانية، وثانيهما سقوط بشار الأسد. الأول يحرر إدارة أوباما من هواجس إعادة الانتخاب، فيطلق يديها في سوريا لتعجل بسقوط بشار الأسد وإنهاء حكايته المملة التي طالت أكثر مما يُحتمل. أما الثاني فربيع مخيف سيهبط في شوارع طهران.
وهاهي إيران، تتحسب لتأثيرات سقوط بشار على المالكي وحزبه، وعلى باقي أحزابها ومنظماتها العراقية الحاكمة، فتعمل بكل ما وسعها لتعزيز سلطة نوري المالكي وتقويتها، من ناحية، ومن ناحية أخرى تزيد من ضغوطها على عراق نوري المالكي لمواصلة تهريب الدعم المالي والعسكري إلى سوريا للحيلولة دون سقوط النظام الأسدي المحاصر والموشك على الانهيار.
ثم تأتي زيارة قاسم سليماني المشرف على الملف العراقي والسوري للعراق ومطالبته مسؤولين تابعين للمالكي بوضع خطط واجراءات بديلة تضمن وصول المعونات العسكرية لنظام الاسد، وإبلاغهم بضرورة عدم الانصياع للضغوط الاميركية والاستمرار بسياسة الانكار ومعالجة الثغرات التي أدت الى انكشاف طرق امداد النظام السوري بالاسلحة والمعدات العسكرية، لتزيد من الغضب الأمريكي على الحليف الذي لم يحفظ الجميل.
ترى على من نعتب هذه المرة؟ على المطرقة أم على السندان؟ شيءٌ واحد أكيد وهو أن من يضع رأسه فوق السندان وتحت رحمة المطرقة إما أحمق أو مجنون، فليس بينهما أمن ولا أمان.