يقولُ أدونيس إنَّ الشعرَ ليس مجردَ تعبيرٍ عَنْ الانفعالاتِ وَحدها، إنَّمَا هو رؤية متكاملة للإنسانِ وَالعَالم وَالأشياء، وَكُلِّ شاعرٍ كبير هو مفكرٌ كبير. وَلا أخفي سراً أَنَّ تمعّني فِي الرؤيةِ المذكورةِ آنفاً، كان مِنْ بَيْنِ أهمِ الأسباب المَوْضُوعِيَّة الَّتِي حفزتني للخوضِ فِي غمارٍ – مَا أتيح لي – مِنْ تجربةِ الشاعر الكبير يحيى السماوي بأبعادِها الإنسانيَّة، بعد أنْ تيقنتُ مِنْ سموِ منجزه الشعري المغمس بثراءٍ فكري وَحس وَطني وَوَعى عقلاني يعبرُ عَنْ إيمانٍ بسلامةِ الخطى وَوضوح الرؤية، فلا غرابةَ فِي أنْ يكونَ للإنسانِ وَالحبِ والجمالِ حضورٌ وجدانيٌّ فِي مَا تباينَ مِنْ أجناسِ نصوصِه الشعريةِ الرشيقةِ الأنيقة، والمؤطرةِ بذوقٍ عالٍ وحسٍ مرهف، بالإضافةِ إلى توشيمِ بعض فضاءات نصوصه الشعرية بمفرداتٍ منتخبةٍ بعنايةٍ وَدرايةٍ مِنْ مَوْرُوثنا الثَّقَافِيّ والاجْتِمَاعِيّ؛ مُوظِفاً مَا تكتنزه ذاكرته المتقدة المتوهجة مِنْ صورٍ مَا بَيْنَ طياتها، وَالَّتِي ظلت ملتصقة بوجدانِه وَلَمْ تفارقه، فثمَّةَ مفردات مِن التراثِ الشَعْبِيِّ مَا يَزال لها صدى فِي بعضِ نتاجاته الشعريَّة.
أَمْرٌ مُسَلَّمٌ بِهِ أَنَّ هناكَ الكثير مِن الوقائعِ الَّتِي مَا تَزالُ تفاصيلها، وَرُبَّما لحظاتها عالقة فِي ذهنِ السَمَاويُّ عَلَى الرغمِ مِنْ تباينِ تواريخِ حدوثها وَتفاوتِ تأثيرها، إلا أَنَّ رغبتي فِي المرورِ بما أتيح مِنهَا تنبع مِنْ عاملينِ أساسيين، أولهما إدراك أهميتها – مَعَ حكاياتِ غيره مِن المبدعين – فِي تعزيزِ حزمةِ التدابير والإجراءاتِ الساعيةِ إلى توثيقِ الأنْشِطَة الخاصة بالمَوْرُوثِ المَحَلّيّ، وَالَّذِي أرخى الليل سدوله عَلَى الكثيرِ مِنْ فعالياتِه؛ جراء تعذر مسايرتها لمعطياتِ الحياة المعاصرة، حتى أصبح الإحصاء بشأنِ المندثر مِنْ تلك المَوْرُوثات أو الَّذِي فِي طريقِه إلى الاضمحلالِ أمراً غير يسير. فِي حين يقوم الأمر الآخر عَلَى أهمية المكان فِي تشكيلِ الإِبْداعِ الأَدَبيّ بمختلفِ ضروبه، وَلعلَّ خير مصداق عَلَى مَا تقدم هو كثرة مَا تكتنزه الذاكرة الإنسانيَّة مِنْ تجاربٍ شعرية وَروائية وَفَنِّيَّة، وَالَّتِي ارتكز بناءها عَلَى استبعادِ الخيال وَنبذ آليات الكتابة المرتكزة عَلَى اختراعِ الأحداث، معتمدة عَلَى صورٍ واقعية أو وَقائع حقيقية أو ذاتاً مَوْضُوعِيَّة؛ بغية تدوين الأحداث والوقائع التاريخية الَّتِي شهدت فصولها الأمكنة، فَعَلَى سبيلِ المثَالِ لا الحصر كانَ الجسرُ الحجريّ الشهير الَّذِي أُقيمَ عَلَى نهرِ درينا بمدينةِ فيشيغراد محور رواية جسر عَلَى نهرِ درينا الَّتِي أوصلت مؤلفها البوسني (ايفواندرتيش) إلى بلوغِ جائزةِ نوبل عام 1961م، فَمَا بالك بِمَا نزفه قلب السَمَاويِ يحيى شعراً أصيلاً صادقاً عَنْ العراق وَأرضه وَبَغْدَاده وَفراتيه وَنخيله وسَمَاوَته وَحتى باديتها الَّتِي ارتبطت بعض فصول تأريخها الحديث ببؤسِ الإنْسَان وَنفيه وَتشرده؟!.
لا مفاجأة فِي القولِ إنّ السَمَاويَّ يحيى تأبط الشعر منذ وقت مبكر مِنْ حياته؛ إذ أَنّ شغفَه بالتحليقِ بعيداً فِي عوالمٍ لا يؤثر فِي صفاءِ ألوانها سوى فضاءاتٍ لا حدود لها مِنْ قناديلِ أحلامِ اليقظة، ألزمه الجهد الحثيث فِي تسخيرِ الحرية لأقلامِ الرصاص الَّتِي اعتاد عَلَى ابتياعها مِنْ دكانٍ متواضع لا يبعد كثيراً عَنْ أطرافِ زقاقِ محلته فِي ترتيبِ كلماتِ جمله وَمحاولة رصفها بعنايةٍ وَأناقة مثلما ترصف الدوائر الهندسية الطرق وتغرسها بالنباتاتِ وَالزهور؛ لأجلِ رسمِ مَا تكتنزهُ ذاكرتَهُ الغضَّةَ مِنْ أحلامٍ بريئة عَلَى أوراقِ دفاتره المدرسيَّة العتيقَة بصورٍ شعريّةٍ تنسجم مَعَ قدراتِه الذهنية حينئذ وكأنه يلج عوالم إِبْداع البوح – ومَا ابتعد عَنْ غيره مِنْ آفاقه – بمثابةِ سنبلةٍ تتمسك فِي الإصرارِ عَلَى النُمُوِّ وَهي تصارع بخطى واثقة آثار سبخ الأَرْض؛ لأجلِ تحويل عتمة فضاءات حقول قمح الأدب الإنسانيّ إلى مروجٍ خضراء تزينها أصوات العصافير، حتى أزهرت بعد سنوات أغصان موهبته الأدبية الفائقة وَتذوق الناس طعمِ ثمارها الإنسانيَّة، وَالَّتِي أفصحت عَنْ نضجِ أسلوبه الفني والسعيِّ الحثيث لتطويرِ أدواته فِي الكتابةِ الشعرية القائمة عَلَى جمالِ اللغةِ وَفنون البلاغة وسعة المخيلة وَتوظيف الرموز التراثية، وَلاسيَّما فِي مرحلةِ اغترابه القسري، وَالَّذِي لم يكن بقصدِ البحثِ عَنْ رغيفِ عافية أو خيمة أكثر ظلالاً، بل خوفاً مِنْ حبلِ مشنقةٍ كان عَلَى مبعدةِ أشبارٍ منه فِي عهدِ النظام السابق؛ إذ أصبحَ – بحسبِ مَا ظهر مِنْ كتبِ النقاد العراقيين وَالعرب النقدية الَّتِي تناولت تجربته الشعرية، إلى جانبِ مَا حظيت بِه تلك التجربة مِنْ دراساتٍ وَبحوث أكَادِيمِيَّة – أحدُ أبرزَ رموزنا الشعرية وَالإنسانيَّة السامقة، فضلاً عَنْ كونه أحد عباقرة الشعر العربي الأصيل الَّذِي وظف أدواته بإتقانٍ فِي مهمةِ نحتِ أبجديةٍ حَضاريَّة ساهمت فِي تعزيزِ الأصواتِ المدافعة عَنْ قضَايَا الإنْسَان، فكانّ أنْ ألزمته صعوبة الظروف وَقساوة الأيام الركون إلى البوحِ بوصفِه المُتاح مِنْ سُّبُلِ التعبير عَنْ خلجاتِ النفس واحساسها بعذاباتِ الإنْسَان المضطهد والمظلوم؛ إذ أصبحَ الشعرُ لغته فِي التعاملِ مَعَ الإنْسَان والمؤلم مِنْ أَزْمَاته، إلى جانب تفاعله مَعَ البِيئَةِ الَّتِي – عاش – وَمَا يَزال يعيش فِيهَا. وَضمن هَذَا المنحى تحضرني عبارةٌ عميقةٌ وَرائعة للأديبِ المصري شعبان البنا الَّتِي نصها ” لِمَنْ لا يعلمون، فأنَ الشاعرَ يحيى السَمَاوي نجح باقتدار فِي حفرِ اسمه فِي ضميرِ القصيدة العربية لأجيالٍ كثيرة مقبلة “.
المذهلُ فِي الأمرِ – وَلا أعني الأديب البنا – أَنَّ لا أحد بوسعِه إغواء السومري الأصيل بمدحٍ قد يجعله يحيد بنفسِه عَنْ نهجِه الإنْسَانيّ القائم عَلَى البساطةِ والتواضع الَّذِي تربي وَنشأ عليه؛ إذ عَلَى الرغمِ مِنْ شهادةِ المُتَخَصِّصين بتكاملِ تجربة السَمَاويِّ الشعرية وَتَمَيَّزها وَتفرد بعض خصالها، فإنَّه يردد عَلَى الدوام ” مَا حلمتُ يوماً فِي حفرِ اسمي حتى وَلو عَلَى جدارِ بيتي – وأظنني لَنْ أحلم بذلك – لَكنني كنت – وَسأبقى – حَالماً فِي أنْ أكون جملة مفيدة فِي كتابِ المحبةِ الإنسانيَّة “.
المتوجبُ إدراكه أَنَّ ذاكرةَ شاعرنا السَمَاويّ المثقلة بأوجاعِ الماضي وَالمتخمة بِمَا يدور حولها، مَا تَزالُ غنيةً بالكثيرِ ممَا غفى ردحاً مِن الزمنِ أو مَا استقر عميقاً فِي مشاربِها، وحفر فِي تشعباتِها أخاديداً لا تقل أثراً عَمَا حفرته الدموع عَلَى أوداجِ عراقيةٍ أصيلة تبحث عَنْ وَطَنْ. وَلَعَل مِنْ جملةِ مَا حاولت إيقاظه مِنْ تلافيفِ ذاكرةِ المفتون بطينِ السَماوة وَجمال نخيلها وَعَذب فراتها، ثمَّةَ حكاية تُعَدّ بمثابةِ ومضةٍ وهاجة مِنْ أيامِ الصبا، وَالَّتِي رُبَّما تنفع مِنْ وجهةِ نظرٍ شخصية فِي أنْ تكونَ ملاذاً لصاحبِها مِنْ أوجاعِ اللحظةِ الراهنة أو محاولة نافعة لِتجاوزِ متاعبها. وَالْمُلْفِتُ أَنَّ الحكايةَ المنوه عَنْها آنفاً تكشفُ عَنْ تميزِ السَمَاويّ بنبوغِه الشعري مبكراً، بوصفِه موهبة شعرية أصيلة، بالإضافةِ إلى ذكائِه المتقد ومهارته العاليَّة فِي معالجةِ مَا قد يتعرض له مِنْ مواقفٍ فِي حياتِه، وَالَّذِي اتضحت ملامحه لاحقاً مِنْ خلالِ صمودِه أمام عاديات الزمن وَمواجهة أقسى الظروف وَأكثرها صعوبة.
أيـهــا الـحـزنُ : لا تـحـزنْ
فـأنـا ســأتـشـبَّـثُ بـالـحـيـاةِ
كـيْ لا تـعـيـشَ يـتـيـمـاً بـعـدي !
الحكايةُ الَّتِي تُشعر السَمَاويّ بمتعةٍ – لا تخلو مِن الحياء – حين يعود بذاكرتهِ إلى أيامِ زمانٍ مضى مِنْ أجلِ أنْ يسترجعَ تدريجياً بعضاً مِنْ مشاغباتِ الصبا البريئة، وَالَّتِي رُبَّما تُعَدّ امتداداً لحكاياتِ الحب العذري التاريخيَّة أو قد تَبْدُو- فِي حالِ إخضاعِ مضامينها إلى معاييرِ الحاضر – مِن قصصِ العشق الاسطورية. وَعَلَى الرغمِ مِنْ البساطةِ فِي شكلِها، إلا أَنَّهَا عميقة فِي بعدِهَا الإِنْسَانيّ، وهو الأمر الَّذِي زادني شغفاً للتطلعِ عَلَى مَا أتيحَ لِي مِنْ مجرياتِها.
ترجع وقائع تلك الحكاية الَّتِي يحفظها السَمَاويّ فِي ذاكرةِ الروح إلى مرحلةِ الدراسة المتوسطة؛ إذ كانَ حينئذ يبكّر فِي الخروجِ مِن البيتِ صباح كُلَّ يوم مستبقاً بقية طلاب مدرسته، بَيْدَ أنَّ المثيرَ للاهتمامِ أَنَّ الفتى السومري كان يتوجب عليه فعل ذلك لا لأجلِ الدخول إلى المدرسةِ قبل أقرانه، بوصفِه آخر مَنْ يدخل المدرسة؛ إذ كان يحرص عَلَى التبكيرِ فِي الخروجِ مِنْ البيت؛ لأجلِ أنْ يقفَ مثل شرطي مرور عند منتصف جسر السَمَاوة الحديدي؛ منتظراً انبلاج الأمل بقدوم صبيّة حسناء، وَالَّتِي لا سبيل لبعثِ لواعجِ اشواقه إليها حينئذ سوى لغة العيون الَّتِي تتيح لَهُ نظرةَ حب وَحنان خاطفة، إلا أَنَّ قلبه المعلق مَا بين فضاءات الجسرِ وهو يخفق وتزداد سرعة نبضه كلما اقتربت صبيته – الَّتِي كتب عنها لاحقاً قصيدة ” غادة القشلة ” فِي مجموعتِه الشعرية الأولى الموسومة ” عيناك دنيا ” – يبقى يحلم بيدٍ طاهرةٍ تمتد إلى شرايينِ قلبها قبل أنْ تأخذهما معاً إلى عوالمٍ شوقٍ بعيدة.
لا يخفى عَلَى أحدٍ أَنَّ الأجيالَ الحديثة فتحت عينها عَلَى تسارع التقدم التِقْنِي الَّذِي شهدته البَشَريَّة فِيمَا تأخر مِنْ عقودِ القرن المَاضي، وَلاسيَّما التَطَوَّر المذهل فِي وسائلِ الاتصال والمَعْلُوماتيَّة الَّذِي كان مِنْ بَيْنَ مخرجاتِه المتقدمة بلوغ مرحلةِ الاتصال التفاعلي أو مرحلة الوسائط المتعددة، وَالَّتِي يقومُ عملها عَلَى الحاسباتِ الإلكترونية وَأشعة الليزر وَالألياف البصرية – الضَوئِيَّة – وَالأقمار الصناعية؛ إذ أفضى التزاوج مَا بَيْنَ تلك التِقْنِيَّات إلى إِنْتَاجِ نظام الاتصال الرقمي، وَالَّذِي أنجب عصراً وَمجتمعاً جديداً يشَار إليه باسْمِ عصرِ أو مُجْتَمَع المَعْلُومات، إلا أَنَّ أيامَ صبا السَمَاوي كان يتعذر فِيها إجراء اتصال مثلما هو حاصل اليوم، وَهو الأمر الَّذِي دفعه إلى البحثِ عَنْ وسيلةِ اتصال مبتكرة وَغير مألوفة تتيح له تجاوز عقبة التواصل مع فتاته الحسناء، حيث عمد إلى جمعِ علب الكبريت الَّتِي يطلق عليها محلياً ( الشخّاطة )، وَالقيام بتفريغِها مِنْ أعوادِ الثقاب؛ لأجلِ حشوها بقصاصاتِ ورق تتضمن بضعة أبيات شعرية قبل الشروع برميِها إليها عند قدومها وهي تمشي ببطء، كان يلزمه المَشيّ خلفها ببطءٍ مماثل، حتى إذا وصلت بناية مدرستها وَدلفت إليها، قفل راجعاً يغذّ السير مسرعاً نحو مدرسته، غَيْرَ أَنَّ اقدامَه عَلَى تسريعِ الخطى مَا كان يجدي نفعاً فِي محاولةِ عدمِ دخوله صفه الدراسيّ متأخراً؛ إذ يفاجأ فِي كُلِّ يومٍ ببابِ مدرستِه مغلقاً؛ لِذَا كان مُلزماً بالبحثِ عَنْ تدبيرٍ يمكنه مِنْ استصلاحِ وضعه وَدخول صَفِه مَعَ أقرانِه، فلَمْ يجد بداً مِن اللجوءِ أملاً فِي النجاةِ بنفسه مِنْ غضبِ مدير المدرسة – وهو يخيل إليه أَنَّ كُلَّ مَنْ فِي المدرسةِ وَمَا جاورها يسمع صوت نبضات قلبه – سوى التسلل مثل لص نحو المدرسة عبر سياجها الخلفي الواطئ، وَالَّذِي رُبَّما يُشكل بالنسبةِ للسَمَاويِّ أحد كنوز الذكريات الَّتِي لَمْ يكن بمقدورِ مَا مضى مِنْ أيامٍ محوهَا.
سأبيعُ كُلِّي
بالقليلْ!
مَنْ يشتري قلبي بمنديلٍ
يليقُ بجُرحِ “حَلّاجٍ” جديدٍ
ناسِكِ الآثامِ…
أغواهُ السّرابُ
رآهُ في حُمّى التهجّدِ
سلسبيلْ؟
منْ يشتري بالدمعِ أجفاني؟
وعينِيْ بالعِمى؟
ونميرَ ينبوعي بجمرٍ؟
والوفاءَ بطعنةٍ نجلاءَ
تنقذني من الوجَعِ الطويلْ؟