إن أصعب ما يواجهه السياسي إثناء عمله داخل الساحة السياسية اندلاع الأزمات، وهذه الأزمة تارة تكون داخلية، وأخرى خارجية، وفي كلتا هاتين النوعين، نكون أمام عقل سياسي ينتظر منه أن يبدي الموقف الذي يراه ضروريا لتجاوز تلك الأزمة.
ولعل من أعقد المعوقات، التي تواجه إصدار القرار الحاسم للأزمة، هو ما يتبناه الشارع من موقف ينم في كثير من الأحيان عن ما يختلجه صدره من عواطف وأهواء تدفعه نحو موقف معين، دون أن يتم حساب العواقب من وراء إتخاذه على المستويين القريب والبعيد.
كما تعرف السياسة بأنها فن الممكن، فإن القرار فيها يكون مختلفا بإختلاف شخصية من هو على منصة الحكم، أو من ينتظر منه إبداء القرار، وذلك كله يرجع إلى الأيديولوجية التي يؤمن بها الشخص المتصدي، ورؤيتة لحسم الأمور، واستراتيجية المترتبة على إصدار مثل هكذا قرارات.
ويمكن أن تقسم السياسة إلى قسمين، سياسة تمتاز بتحكيم العقل والمنطق والهدوء، وأخرى تتسم بالتصعيد وإعلاء الأصوات وتوجيه الاتهامات .
إن السياسة في مفردتها الأولى، قد يتصور البعض لوهلة إنها سهلة التحقق ولكن في حقيقتها تعد صعبة المراس، لإن إتباعها يحتاج إلى تمتع الشخص المتصدي لعدة جوانب مهمة في شخصيته، منها أن يكون صبورا، وأن يتحمل كل مايصدر عن الأخرين ويواجهه بسياسة هادئة دون تصعيد للموقف، ويتمتع كذلك بمنطق الواقعية السياسية، ويتميز أيضا بوزن القرار وزنا صحيحا لايمكن الندم عليه مسستقبلا ، والأهم من ذلك كله أن لا يتعجل في إعطاء القرار.
أما النوع الثاني، فهي سياسة تصعيدية وتهديدية فقط، لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تحسم الأمر بل تزيد الطين بله كما قيل، لإن متبعها يكون بقراره قريبا جدا من ما يبغي الشعب إقراره بشكل عاطفي لاينم عن دراية بعلم السياسة، لأن الشعب لا يحسب حساب لمستقبله بل ينظر بنظر محدود للأمور .
ويمكن أن تسمى هكذا سياسة بسياسة المغفلين، لإن القرارات تتخذ فيها دون دراسة واقعية للأمور، وتمتاز بأن تعطي لصاحبها لحظات انتعاش وقتية تتصف بصفة التمجيد والتصفيق الحار له كبطل قومي، لكنه لايعلم إنها سترتد عليه عكسيا بعد ظهور النتائج ومن قبل نفس من مجده وصفق له.
وبعد ما آلت إليه الأمور في وضع كركوك، ودخول القوات العراقية إلى المدينة والسيطرة على وارداتها ونفطها، ومن ثم إسترجاع كافه المناطق التي اقتطعت من العراق منذ 27 سنة من قبل الكرد دون وجه حق، فإن القراءة لتلك القرارات تنم عن نجاح وبدرجة إمتياز للسياسة التي اتبعتها الحكومة العراقية والقيادات الشيعية على وجه الخصوص في مواجهه أزمة الإستفتاء الكردي.
إن الحكومة العراقية قد انتهجت منهج التخفيف في التصريح، والشدة في حسم الأمور من قبيل القرارات التي أصدرتها كغلق المنافذ الحدودية والجوية وغيرهن، وهذا ما أعطى للأزمة دفعة قوية لحلها من قبل الحكومة دون إراقة الدماء.
كما نثمن ما ذهبت إليه الحكومة من سياسة الابتعاد عن تهييج مشاعر الناس دون حسم للأمر، والفضل في ذلك كله يرجع إلى الفريق المنسجم الذي طوق الأزمة واتخذ القرار المناسب فيها وذلك متمثل بالحكومة والتحالف الوطني.
إن الصراخ والعويل وكيل الإنتهامات المتبع في سياسة الحكومة السابقة، لم يجني العراق منه إلا شرا وتاخرا وضياع للأراضي ، لذا لنتتخذ العبرة ولنمضي نحو سياسة تحسم الأمر دون صراخ، ولا نتمنى أن تقف تلك السياسة عند ذلك الحد بل ينبغي إتباعها كمنهج تسير عليه العلاقات السياسية العراقية مع دول الجوار والمنطقة والعالم، وأن تتعض الحكومات المستقبلية من ذلك وتتخذ ذلك المنهج كأولوية في ممارستها لأعمالها.