يحتل موضوع الأقليات في الشرق الأوسط أهمية قصوى هذه الأيام ولغايات مختلفة لعل الأغلب منها غير مبرئ من النوايا السيئة.ويتصل الحديث عن هذا الموضوع بآخر أشكال صور التدخل الخارجي الذي مرت على المنطقة.
منذ نيسان 2003 والحديث عن مسيحي العراق يتكرر بمناحي مختلفة ،ومن أطراف متعددة ،مرة من المسيحيين أنفسهم ،ومرات من آخرين داخل العراق وخارجه ،ولعل جوهر الحديث في هذا الموضوع يتصل بأمن وسلامة المسيحيين ،وإيقاف هجرتهم إلى خارج البلاد ،وموضوع مشاركتهم في الحياة العامة والسياسية في الدولة الجديدة.
أقدم في هذه الرؤية مجموعة مقاربات تتصل بهذا الموضوع الخطير والحساس ،والذي لا تقف تداعياته عند العراق فقط وإنما لها صلة بالشأن العالمي.
تستند مقاربتي إلى مجموعة مقولات اعتبرها بمشارفة اليقينيات ،وتستهدف بناء مقولات واضحة لهذا الموضوع المهم والحيوي ،والذي يحتاج إلى رؤية واضحة لصانع القرار السياسي والاجتماعي العراقي وللمسيحيين أنفسهم ولبقية العراقيين أيضا.
ليس من الموضوعي الإكثار من عبارة “إن المسيحيين مكون أصيل في العراق” بنظري إن هذه العبارة سبة لأي مجموعة سكانية عراقية أصيلة ولو أنها سكنت العراق منذ 300 سنة أو أقرب،فكيف بالأمر والمسيحيون هم أهل العراق القديم ،ومعجونون بتربته القديمة ،لذلك لا بد من تجاوز هذه المقولة إلى لغة واضحة “إن العراق هو المسيحيون والمسلمون والأقليات والأخرى ” وبدون أي جزء من هذه الأجزاء فإننا نتحدث عن عراق آخر.
لم يعرف تاريخ المسيحيين في العراق أنهم مثلوا إشكالية للأمن العراقي،بعبارة أوضح لم يكن المسيحيون في العراق يوما عامل تهديد أو إقلاقا للأمن العراقي ،ولم يعرف لهم دورا مؤثرا في الحياة السياسية في الدولة العراقية الحديثة ،إلا لبعض الأفراد ،وأعني أيضا لم يكن للمسيحيين ككتلة سكانية ذات خصوصية دينية طرفا في أي ترتيبات سياسية طيلة تاريخ العراق الحديث ،وقد فضلوا العزلة والابتعاد عن الشأن السياسي دائما.كما أن الغريب إننا لم نشهد خصوصية أو وضع مميز للمسيحيين حتى في الفترة التي كان فيها شخصيات (ولو مسيحية ظاهرا) في مواقع مهمة للسلطة ،كما هو الحال في (ميشيل عفلق) كمؤسس للحزب الحاكم في العراق آنذاك ،وطارق عزيز ،كوزير لعدة وزارات وآخرها وزيرا للخارجية وشخص مقرب من رئيس الدولة ،فلم يظهر بروز لقوة مسيحية أو خصوصية لجهة وجود هؤلاء الأشخاص في السلطة ،وبالمقابل لم يظهر من (عفلق وعزيز ) إشارات لدعم المسيحيين في العراق.
ظهرت للمسيحيين تطلعات قوية في المشاركة السياسية في العراق الجديد،وأخذت تلك الرغبة تتحرك عبر قنوات مختلفة منها ،أحزابا مسيحية خالصة أو قوائم مسيحية ،أو قوائم كردية ،أو قوائم عربية أخرى ،وتجمعات سياسية مختلفة ،ولا شك في أن هذه المشاركة لا تعكس الحجم الحقيقي للمسيحيين ،ولا تعبر عن رؤية غالبية الشعب المسيحي ،وان هناك مشكلة تتعلق بوجهات النظر داخل المكون المسيحي لغرض بلورة قوى سياسية مؤثرة وفاعلة ومعبرة.
تعرض المسيحيون كبقية العراقيين لخطر الإرهاب والموت وفقدوا ضحايا كثير في عمليات بعضها موجه لعموم العراقيين وأخرى موجهه حصرا للمسيحيين ،كما أن التهجير بسبب المعتقد طال البعض منهم ،وهو الأمر الذي وضع وجود المسيحيين في العراق في خطر ،وبرر إنشاء مناطق خاصة كما هو الأمر في منطقة سهل نينوى ،وفضل الكثير الانتقال إلى مناطق كردستان لوجود الأمان فيها.
يحمل الشعب المسيحي بكل طوائفه وتلويناته علاقات طيبة مع بقية أطياف الشعب العراق ،وخصوصا الشيعة ،ولا توجد أي حوادث تتعلق بحساسية دينية أو فكرية أو اجتماعية بين المسيحيين وغيرهم من الشعب العراقي ،ويكرر الناس مقولة “إن المسيحيين طيبون ومسالمون وليس فيهم أذى” ،لذلك لا يوجد في العقل العراقي أي ترسبات تتعلق بمواقف سلبية مسبقة بين المسيحيين والمكونات العراقية الأخرى.
انطلاقا من هذه التأسيس ترى مقاربتنا تأكيد المقولات التالية التي قد يكون البعض منها مكررا عبر مقاربات أخرى أو أنها تشترك معها في مناطق معينة ،إلا أننا نستهدف هنا صياغة تصور كلي يحكم موضوعة المسيحيين في العراق.
إن الحديث عن حقوق المسيحيين بالمواطنة والعيش الكريم لا يحتاج إلى الاستناد إلى جذور تاريخية أو مراهنات على العروق والجذور ،وإنما هو شرعي وقانوني يكفله الدستور العراقي وتضمنه منظومة الحقوق والواجبات ،فهم مواطنون على حد سواء مع أي مواطن عراقي ،لهم ما للعراقيين وعليهم ما على العراقيين.
يتصل بهذا الحق والواجب ضرورة أن يكون للمسيحيين دورا بارزا ومهما في المشاركة بالحياة العامة والسياسية للعراق الجديد،ويتطلب ذلك من المسيحيين أن :ينظموا صفوفهم ويبلوروا واجهات سياسية معبرة حقيقة عن تطلعات ورغبات عموم الشعب المسيحي ،وان ينخرطوا بالتفكير في الهم العراقي العام ،ولا تبقى أحاديثهم واهتماماتهم مقتصرة على الخصوصية المسيحية ،ويمكن لهم المشاركة في التشكيلات ذات البعد الوطني العابر للخصوصيات لغرض تعزيز روح الشراكة الحقيقية ،ولا بد لهم أن يعرفوا أن جميع العراقيين لم توهب لهم حقوقهم على طبق من الذهب ، وان الجميع يصارع ويكافح من اجل إثبات وجوده في ساحة سياسية مكتظة بالعددية والتعددية.
يتفرع على هذه النقطة موضوع مهم ويعد من مميزات هذا التقريب ،يتمثل في المسؤولية والدور الذي ينبغي أن يقوم به المكون المسيحي للقضية العراقية خارج العراق ،وخصوصا في الدول ذات الشعوب المسيحية ،وهي ذات تأثير كبير في قيادة العالم ،فهناك صورة خاطئة تتعلق بالعراق وبما يجري فيه ،وبحقيقة الو لاءات للشعب العراقي ،وقضايا أخرى تتعلق بالحرية الدينية واحترام الخصوصيات الثقافية ،وتستند أهمية هذه القضية إلى أن الحديث من مسيحي العراق يكون أكثر قبولا وإقناعا .
يجب أن تتم هذه العملية بخطين متوازيين :الأول جهد شعبي يتولاه كل الشعب المسيحي وبحسب القدرات والظروف المتاحة ،وينصب على تعزيز بناء الثقة مع العراق دولة وشعبا.والثاني حكومي منظم حيث تعمد الخارجية العراقية والجهات التي تهتم بالعلاقات الخارجية ،بترتيب حراك نخبوي منظم من الشعب المسيحي العراقي ترسم له خطة إستراتيجية وترصد له ميزانية مناسبة ،وتوضع له مؤشرات للنجاح ومقاييس للنتائج ،ويتحرك في إطار الدبلوماسية العامة.
إن تحقيق ذلك بصورة المطلوبة يقتضي مسؤولية متبادلة بين الحكومة والشعب المسيحي ،فمن جهة الحكومة ،بل كل المنخرطين بالحراك السياسي عليهم أن يرسلوا إشارات واضحة ودلائل حقيقية تشير إلى الرغبة الأكيدة بإشراك المسيحيين كطرف ومؤثر وفعال في صناعة مستقبل العراق ،ومن جهة المسيحيين ،لا بد لهم أن يظهروا اهتماما حقيقيا وواضحا بالعراق وقضاياه العامة ،ولا تقتصر نشاطاتهم على الخصوصية المسيحية فقط.
أن أي محاولة لخلق مناطق معزولة للمسيحيين ،أو استعمال تلك المناطق عبر غايات وأجندة ومقاصد مسيسة تضر بالشعب المسيحي ولا تنفعه ،وتضر بالأمن العراقي عموما ،لذلك فان تعزيز بقاء التنوع في المدن العراقية وخصوصا بغداد ،وضمان سلامة الجميع في إطار امن شامل ومتكامل هو الحل الأنسب والصحيح ،وعلى المسيحيين ألا يتنازلوا بسهولة عن وجودهم المميز في كل المدن العراقية .وفي هذه المقاربة أدعو المسيحيين ممن يجدون الرغبة والظروف المناسبة أن يفكروا في سكن مدن لم تعهد الوجود المسيحي منذ زمن طويل مثل محافظات الوسط والجنوب ،بما فيها النجف الاشرف كربلاء المقدسة.
تفترض هذه المقاربة أن تحضر الثقافة المسيحية بشكل متوازن ومقبول في المناهج الدراسية والإعلام ومجالات الثقافة، وان يظهر المسيحيون كمشاركين فاعلين في بناء العقل العراقي والثقافة العراقية.
* مدير المركز العراقي للبحوث والدراسات