كانت اصابعي تداعب الصفحات، واعيني تغازل الكلمات، وادراكي تائه بين سطور الكتاب ومعانيه، لكتاب مؤلفهُ “د.علي شريعتي” وقع بصري على عبارة “هذه شقشقة وهدرت” فعندما يهيج البعير ويهدر، يظهر انتفاخ في فمه ويسمى ب” شقشقة” ويسكن هذه الانتفاخ بعد فترة وجيزة،عندها ابحرت سفينة افكاري في بحر الذكريات، تصارع احداث ليست بالبعيدة، مستذكرة يوم الاستفتاء والاستقلال، وحلم في تأسيس دولة تطل من كوة خلف جدار الوحدة والسيادة العراقية، احداث كانت اشبه بشقشقة وهدرت، يقول “توماس ولف” الكتابة هي للنسيان وليس للذكرى، ولكني اكتب لسبب واحد هو اني لم استطع ألا اكتب.
مايسمى في ثقافتنا بث الشكوى ونفثة المصدور، التي هي عبارة عن مجموعة آلام لارواح قلقة ولصدور مرهقة لضحايا الجهل وعنف الايام، كانت الكلمات تتلو بعضها بعضا فتصطف بين سطور مقالي، معبرة عن وجع بداخلي، من ايدي ملطخة بدماء الحقيقة، وتلك الخناجر التي طعنة في ظهر اللحمة الوطنية، كان جراح العراق تقطر ألم، ولسان ابنائها تقطر بكلمة الشهادة، كانت نحور شبابنا تسيل على ارض الرافدين، فتروي ارضا اغتصبها الغزاة عزا وكرامة، كانت الذكريات تتوسل احدها بالاخرى، مجزرة سبايكر، وسقوط الموصل، وحرب داعش و .. وتلك الذكريات! والصمت الذي طال خمسة عشر سنة كاملة على القذى في العين والشجى في الحلق، هيجان الاحزان، وسعير الذكريات، جعلتني اهيم واكتب بغضب وانفعال، وقد صارت كلماتي مؤلمة ومستعرة، وكأنها تحرقني في نار “ابراهيم”.
في هذه الاثناء، حين كان مقابرنا تعج بشهداء، نهض احد هؤلاء السفهاء الذين لا يتأثرون بأي احساس ولا بأي مشهد او حداثة، فكأنه لا يمر عليه مطلقا اي معنى او احساس للوطنية. فهو اساس فاقد الشعور بالوطينة والانتماء لارض العراق، نهض من دون ان يشعر بتلك الاجواء ومن دون ان ينتبه لحال العراق، طرح مشروع الاستفتاء بكل اطمئان و ارتياح، يمني النفس بقيام دولة كردية من ارض ليست بارضه وبلاد لم يشعر يوما انها بلاده، متخذ من كركوك عاصمة لدولته، فنثر الملح على جراحنا، فاشعل احقاد هدأت بسلب ارواح في حرب التسعينيات، فأستعرت في نفوس العراقيين ألسنة نيران الالم، ووضعت المرجعية الرشيدة صمام الكظم والكتمان على زحمة الالام والمشقات والنائبات، واصفة ان لا ستفتاء للانفصال ولا مساومة على وحدة العراق وارضة.
يقال ان اصدق الرسائل هي تلك الرسائل التي نكتبها من دون ان نعنونها لأي احد، فهل كنت ايها العراقي الكردي مع ام ضد الاستفتاء، هل كنت في الرخاء تلعق خير العراق وفي الشدة تخذله؟ هل كنت تتمنى عودة “مسعود” بخفي حنين من مشروع الاستقلال ام كنت لا تتمنى؟ هل قذيت عيوننا يوما فساعدتها عينك على القذى؟ هل ذبح اخوتك على الهوية؟ هل وضعت باقة ورد على صورة لصديق استشهد بانفجار فلم يبقى من جثمانه سوى حطام السيارات ونيران هنا وهناك؟
هل استخرجت طفل ميت من كبد النهر وقد احتضن القران الكريم بعد ان رمي من جسر الائمة؟
هل تحييون ليلة عيد الاضحى بين سراديب القبور و دوارسها؟
ان محافظات شمال وديعة ولا بد يوم ان تسترد الودائع، فالعراق ذرة غير قابلة للانشطار فأن حدث فسيخسر كلا الجزئين خصائص الوطن وسيادته، وكما رددتها الشاعر يرددها العراقيين من شمال بلادهم الى اقصى الجنوب:
الشمس شمسي والعراق عراقِ
ماغير الدخلاء من أخلاقِ