23 ديسمبر، 2024 9:00 م

الطبيب….والادارة!

الطبيب….والادارة!

بالرغم من التطور الكبير الحاصل في تقديم الخدمات الطبية والصحية في العالم الاانه تبقى الخدمات الصحية بالعراق مع الأسف متخلفة تخلفا غير معقول ولم ترق لمستوى توقعات المواطنين بل لم تحقق الحد الأدنى من رضا هم مقارنة بالإنفاق على تلك الخدمات.
إن القضية الكبرى التي يراها مراقبو الوضع الصحي في العراق والمتخصصون في إدارة الخدمات الصحية التي تقف حائلاً أمام تقدمنا في المجال الصحي تتمثل في أن وزارة الصحة وإداراتها وأقسامها الإدارية تدار من قبل مجموعة من الأطباء المتخصصين في الطب, تركوا التخصص الذي درسوه, وقاموا بممارسة تخصص الإدارة الذي لم يدرسوه ولم يعرفوه من قبل.
ومن خلال الاطلاع على الهياكل التنظيمية الحالية للوزارة ودوائر الصحة بالمحافظات يتضح بان من قام بإعدادها هم أطباء غير متخصصين أو مدركين للإدارة وخفاياها.
إن نقطة الإصلاح الأولى والانطلاقة الهامة لإيجاد نظام إداري صحي قوي قادر على تطوير خدماتنا الصحية يبدأ من حيث انتهى الآخرون في العالم المتقدم حيث احتفلت فرنسا منذ أكثر من ثلاثون عاما بخروج آخر طبيب من إدارة منشاتها الصحية.
ورغم أن إدارة الطبيب للمنشات الصحية في بلادنا موضوع جدل لم يحسم بعد بين مؤيد لتولي الطبيب الوظائف الإدارية القيادية في المنشاة الصحية وبين من يدعوا إلى حصر عمل الطبيب في الممارسة الطبية وفقا لتخصصه الطبي وعدم اقتحام تخصص جديد كالإدارة الصحية دون علم ومعرفة لأبسط نظريات وتطبيقات ومفاهيم الإدارة الصحية الحديثة وهو القول الصحيح في اعتقادي ……
وعلى كل الأحوال لا يمكن لا احد أن ينكر أهمية الدعوة للتخصص في المجال الصحي إلا فئة الأطباء المتسلقين والمستفيدين من هذا الوضع غير الصحيح بل الذي اضر بالمواطن في كل مكان، ذلك أن الدعوة للتخصص تعتبر من ضرورات العصر الحديث ومن أهم متطلبات المرحلة الحالية لنهضتنا المباركة وسببا كافيا بإذن الله لتحسين وتطوير مستوى الخدمات الصحية في بلادنا الغالية ونقلها إلى مصاف الدول المتقدمة لا أن تبقى في مؤخرة دول العربية والبلدان النامية.
إن تسكين المتخصصين في وظائفهم التخصصية الصحيحة(كما تم تصنيفها من قبل وزارة المالية الذي لا يطبق بحجة عدم وجود متخصصين) وتفعيل واحترام التخصص مهما كان نوعه في كافة القطاعات وليس في القطاع الصحي فحسب هو الحل الأمثل والقابل للتطبيق في جميع دول العالم عدى بلادنا لعوامل وأسباب غير موضوعية وحزبية وطائفية احيانا.
إن تخصص الإدارة الصحية الحديثة (( نشا وترعرع في الدول الغربية المتقدمة منذ مطلع القرن العشرين ــ كأي علم متخصص آخر )) وله جهابذته ومفكريه، سجل التاريخ نجاحاتهم، درسوا وتخرجوا من هذا التخصص بشهادات عليا، وأبدعوا في تخصصهم، كما أبدع في الطب وغيره من التخصصات روادها.
كلما تمت الدعوة من احد المنصفين أو الغيورين بضرورة الأخذ بمبدأ التخصص نلاحظ حساسية مفرطة من قبل الأطباء الذين يشغلون المناصب الإدارية ( المحددة مبرراته وضوابطه في نظام الخدمة المدنية لكنها لا تطبق) يقابلها حساسية مساوية لها في القوة ومعاكسه لها في الاتجاه من قبل المتخصصين في الإدارة الصحية المغيبين أصلا عن ممارسة دورهم الصحيح .
وفي دوائرنا الصحية أيضا يسهل القفز من فوق أسوار التخصصات الفنية والإدارية المتخصصة خاصة من قبل بعض الأطباء غير الراغبين في ممارسة الطب والمنبهرين ببريق المناصب الإدارية والقيادية ويسعون لتحقيق طموحات ومكاسب شخصية. والغريب في الأمر بان مثل هؤلاء الأطباء يؤمنون بالتخصص الطبي الإكلينيكي فقط حيث يعتقدون بأنه لا يمكن لطبيب الباطنة التدخل في علاج حالة جراحية والعكس صحيح ويعتبرون ذلك تدخلا غير نظاميا بل وغير أخلاقيا في حقهم وحق المهنة ويرى بعضهم بأن الوظائف ( الإدارية ) المتخصصة وغير المتخصصة خاصة القيادية منها لا تخرج من كونها من الأعمال الروتينية الملحقة بمهنة الطبيب بينما يرى البعض الآخر بان إدارة المرفق الصحي حق مكتسب للطبيب لا يمكنه استيعاب قضية التنازل عنه لمن هو أحق منه ، رغم استيعابه لأهمية العمل بمبدأ التخصص ومعرفته بوجود متخصصين في إدارة الخدمات الصحية .
لقد وجد الطبيب نفسه بشكل عام في المستشفى وفي المرفق الطبي منذ أمد بعيد ومنذ أن أنشأت وزارة الصحة في بلادنا الغالية كان الطبيب هو الكاتب والإداري والمدير المشرف وذلك بسبب قلة المتعلمين وعدم وجود متخصصين في مجال إدارة الخدمات الصحية في ذلك الوقت وقد قدم اخوانناالأطباء الذين يعملون في المجال الطبي خلال الفترةالسابقة إلى وقتنا الراهن خدمات مقبولة وجيدة أحيانا في الطب والإدارة معا يشكرون عليها خاصة ما يتعلق بمكافحة الأمراض المعدية والمستوطنة من خلال برامج التحصين والوقاية وعلاج الأمراض الحادة واستخدام المضادات الحيوية.
وفي وقتنا الراهن الذي تقف فيه عراقنا الجديد على أعتاب حقبة زمنية جديدة من النهضة والتطور ومواكبة التقدم العلمي والتقني والفني والإداري والمستجدات العلمية الحديثة على كافة الأصعدة ابتداء من توفر الكوادر البشرية المؤهلة في مختلف التخصصات الطبية والإدارية المتخصصة وانتهاء بزيادة معدل النمو السكانيً, وارتفاع الوعي الصحي والاجتماعي للمواطن وتعدد وتنوع الخدمات الطبية والصحية التي يحتاجها المجتمع في هذا العصر فان الضرورة تقتضي تغيير اسلوب وطريقة الإدارة التقليدية والتحول إلى الأساليب العلمية الحديثة في إدارة الخدمات الصحية ورسم الاستراتيجيات الصحية وفق أسس علمية بحيث يمكن الإشراف عليها وقياس التقدم في تنفيذها وفق معايير جودة كمية ونوعية يمكن قياسها والاعتماد عليها، كما تقتضي الضرورة والمصلحة الوطنية تغيير أدوات واليات وأساليب التنفيذ والإشراف والرقابة وفقا للمعطيات الجديدة ومتطلبات المرحلة إذ لم يعد الأمر مجرد تقصي للأوبئة وعلاج للأمراض المعدية والحادة ولم تعد إدارة المرفق الصحي بسيطة أو تقليدية تقوم على طريقة الرد على المخاطبات وإخلاء المسؤولية بمجرد التوجيه بعبارة ( لاجراء اللازم وحسب الضوابط) وترك الأمور للاجتهادات الشخصية والفزعات الاجتماعية إلى غير ذلك من الأساليب الإدارية التقليدية، لقد تعقدت عملية وأساليب تقديم وإدارة الخدمات الصحية للمستفيدين منها وأصبحت إدارة المنشاة الصحية تقوم على مبادئ ومفاهيم وقواعد ونظريات وتطبيقات الإدارة الصحية الحديثة ونظم المعلومات الصحية ونظم التامين الصحي واحتواء التكاليف وفق معايير طبية وفنية وإدارية حديثة متخصصة تهدف إلى تحقيق رضا المستفيدين من الخدمات الصحية المقدمة، والمحافظة على سلامة المرضى ومراقبة الأخطاء الطبية ومنع سوء الممارسة الطبية والفنية والإدارية.
فمستوى الخدمات الصحية قد وصل إلى حد أصبح الطبيب أو الفني الإداري أو حتى الإداري غير المتخصص في إدارة الخدمات الصحية غير قادر على المساهمة في تحسينه أو المساعدة في تطويره أو حل مشاكله المعقدة والمتفاقمة في ظل هيمنة الأطباء وغير المتخصصين على وظائف الإدارية الصحية خاصة القيادية منها وإتباع منهج الإدارة التقليدية، إذ لا بد من اللجوء إلى المتخصصين في الادارة الصحية ليمارسوا دورهم الصحيح في تصحيح المسار وتحديد أركان وملامح النظام الصحي من خلال العمل على تخطيط وتنظيم والإشراف على تنفيذ الخدمات الصحية وفق رؤية إدارية واضحة ومعايير تنظيم وأداء مستقرة ومعتمدة يمكن قياسها وتطويرها ومن خلال تفعيل وتكامل وتناغم دور جميع التخصصات الطبية والفنية والإدارية والخدمات المساندة في النظام الصحي كفريق واحد.
إن فشل وهروب الأطباء والممرضين و المهن الصحية والفنيين من تخصصاتهم وتسابقهم لشغل المناصب الإدارية والقيادية عن طريق التكليف وتشبثهم بها ومحاربة المتخصصين في مجال الإدارة الصحية الحديثة وإقصائهم من خلال قنوات الصراع التنظيمي المستشري في الوزارة كان وما يزال السبب المباشر والأكثر تأثيرا على تدنى مستوى خدماتنا الصحية وعدم اللحاق بالركب العالمي بل والعربي في مجال تقدم الأساليب الإدارية في مجال الإدارة الصحية.
لقد فشل الأطباء الإداريون فشلا ذريعا في الانتقال بالنظام الصحي في العراق من الأسلوب التقليدي في الإدارة والتمويل إلى الأسلوب الإداري الحديث في إدارة وتمويل الخدمات الصحية اعتمادا على أساليب ونظم التامين الصحي وعلوم اقتصاديات الصحة وقواعد الاستثمار في الخدمات الصحية بالأسلوب التجاري ووفقا لمعايير الجودة وسلامة المرضى ونظم المعلومات الصحية
إن علم وفن ومفهوم الإدارة الصحية الحديثة في القطاع الصحي في العراق لم يكن واضح المعالم لحداثته بالنسبة لنا خلال السنوات الماضية حيث غالبا ما كان يتم الخلط بين الطب كممارسة وبين إدارة الخدمة الطبية نفسها، إلا انه ونتيجة للتقدم العلمي والاجتماعي برزت أهمية الأخذ بالتخصص في القطاع الصحي بصفة خاصة حيث لم يطرح الكثير من الآراء حول تلك القضية في القطاعات الأخرى ذلك أن القطاع الصحي بطبيعته كان وما يزال هو الأقرب والأكثر إلحاحا والتصاقا بالمجتمع من غيره من القطاعات.
اصبح اليوم لزاما علينا التدقيق في كيفية الاستفادة من الكوادر الطبية من الاختصاص وغيرها في المجال الطبي بدلا من السعي في استقدام الكفاءات العلمية ومن ثم استهلاكها في العملية الادارية وماتتبعه من التحول في القدرات وتنميتها الحقيقية والحاجة الماسة اليها فلوعملنا احصاء لعدد الاطباء الاختصاص الذين يعملون في غير اختصاصاتهم لاكتشفنا حجم الكارثة التي اوقعنا انفسنا فيها وحجم التعاطف الوظيفي بين طبقة الاطباء وكون صوتهم هو الاقوى والاهم في المجال الطبي وهنا سنكتشف الهدر الكبير في ممارسة العمل والقدرة على الانجاز وعملية التخفيف من العبئ الملقى على كاهل المواطن والذي لايستمع اليه احد سوى في العيادات الخاصة حيث تنفتح شهية الاطباء للعمل وجني الاموال وميلهم الى المثابرة ولكن ذلك يختفي تماما امام ابهة الادارة كونها تمثل وسيلة للتحكم في الشرق وليس وظيفة لخدمة المجتمع
ان افتقاد الرؤية الإدارية التي يتطلبها العمل مهما كان مجاله من تنظيم وتخطيط وغير ذلك من ألف باء الإدارة التي أبى بعض الأطباء إلا إغفالها فأهدرت الأموال العامة بسبب سوء التخطيط وانحدر مستوى الرضا الوظيفي بسبب سوء التنظيم والتحفيز وتقلصت ثقة المنتسبين في المؤسسات الصحية بسبب سوء التخطيط والادارة.
يخطئ من يظن أن الإدارة الصحيحة السليمة يمكن اكتسابها كما يكتسب الميكانيكي مهاراته عندما يبنيها على إعطاب السيارات وتقبل الشتائم واللعنات حتى يستقيم عوده مهنيا. فالإدارة الصحيحة فن وعلم، وغياب أحد التوأمين السياميين عن الآخر يجعل الحياة حبلى بالأخطاء والخسائر القاتلة، لذلك دأبت وزارة الصحة في العراق على ادخال مدراء المؤسسات الصحية من الاطباء في دورات تدريبية إدارية لإدراكها أن هؤلاء الاطباء يجب ان يكونوا على علم ولوبقليل بالادارةالتي لايمكن اداؤها باخلاص إلا إذا تمكنوا من أدواتها وأتقنوا فنها, رغم ان علم الادارة لايكتسب في دورة امدها يومين او ثلاثة ورغم أن جنوحهم للإدارة سيكون حتما على حساب عملهم الطبي السامي في العلاج وبذل أسباب الشفاء وعلى حساب تطوير أنفسهم مهنيا فترى هنالك نقصا كبيرا في عدد الاطباء ومن اختصاصات مختلفة في اغلب المستشفيات والمراكز الصحية وتجدهم مكدسين في المواقع الادارية.فلو جمعنا اغلب مدراء المؤسسات الصحية لتجدهم غير مؤهلين لإدارة المستشفيات، وعندما تناقشهم عن الإدارة الصحية تكتشف أنهم أناس غير ملمين بمفهوم الإدارة الصحية، في الوقت الذي نجد في كندا أن نسبة مديري المستشفيات من الأطباء لا تتجاوز الربع وفي الولايات المتحدة الأمريكية 5٪ وفي انكلترا وفرنسا تدار أغلب المستشفيات من قبل رجال القانون المتخصصين في إدارة المستشفيات, ولنسال انفسنا لماذا يقوم الطبيب الناجح بهذا الدور ويخسر المجتمع والمرضى ( طبيباً لامعاً ) في مجال الطب على حساب الإداري المختص؟
فانا اعتقد بان اغلب الاطباء الذين يمارسون الادارة هم في الغالب اطباء فاشلين طبيا واداريا فما معنى طبيب يعمل في قسم التخطيط او الامور الادارية او التفتيش الاداري ويترك عمله الفني كممارس اومقيم او اختصاص والاستفادة من الخبرات التي تتراكم له بالعمل في مجال عمله ولااستثني الصيادلة والاختصاصات الصحية والتمريضية وووو مع العلم لو خيروا بين العمل الاداري ومخصصات الصنف الطبي لاختاروا المخصصات وتركوا العمل الاداري
وتشير بعض الدراسات إلى أن المدير الإداري الفعال في المستشفى يقوم بثلاثة أنواع من النشاطات هي :
1-الإدارة الداخلية
2- إدارة العمل داخل المنشأة
3 – واستطلاع البيئة المحيطة لقياس الاحتياجات والمتغيرات، والبيئة الخارجية وتتمثل في العلاقات العامة والمشاركات الخارجية مع المجتمع.
كما تؤكد بعض الدراسات العلمية أن هناك أنواعا من المهارات التي تتوفر في مدير المنشأة الصحية ( الإداري المختص ) وهي: القدرة على القيام بالوظائف الإدارية من خلال تطبيق الدراسات والنظريات العلمية في التعامل مع المرؤوسين ومعالجة الأخطاء.
والسؤال هنا هو من الخاسر والرابح في صراع حب التملك والنزعة السلطوية؟، إن الخاسر هو الوطن والمواطن الذي لا يهمه من يدير ولكن تهمه النتائج. لو آمن الأطباء أن الجميع يجب أن يكون فريق عمل واحد متكاتف هدفه تقديم الخدمة الصحية بجودة وفاعلية؛ لرضوا بأن يساهموا بما هيئوا له من علم وعمل ولكانوا – كما هم الأغلبية – عنصرا فاعلا مؤثرا في تقديم هذه الخدمةلا أن يكونوا عنصرا معطلا مثبطا يساهم في تدني جودة الخدمات. آمل ألا يكون النقاش هذه المرة جدلا بيزنطيا وأن تنتج عنه ثمار إيجابية يقطفها المواطن صحة ورضا.