العقل البشري .. الجوهرة الحقيقية و الطاقة المبدعة الخلاقة التي لا تقدر بثمن و التي تصنع منها بانطلاقة كل الافكار السليمة وتدرك النفس به العلوم الضرورية والنظرية و بإعمال العقل وصل الانسان اليوم لما لم يبلغه فى أى عصر . قال رسولنا الكريم (ص): “العقل نور في القلب يفرّق به بين الحقِّ والباطل”.
و اختلف تعريف العقل لغة ومصطلحاً عند الفلاسفة والمنطقيين والأُصولّيين، وفي الأحاديث الشريفة وغير ذلك، وقد ورد في الأخبار المئات من الكلمات التي تشير إلى حقيقة العقل ومن هم العقلاء؟ وما هي صفاتهم وآثارهم العقلانيّة في سلوكهم الفردي والاجتماعي تزين و تنور بهم المجتمعات ومن هنا قال احد الشعراء ابياتاً جميلة :
إذا لم يكن للمرء عقل يزيّنه *** ولم يك ذا رأي سديد ولا أدب
فما هو إلّا ذو قوائم أربعٍ *** وإن كان ذا مال كثير وذا حسب
قال الباري عز وجل:في كتابه الكريم – (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) الاسراء 70
وقد اختلف الباحثين في ماهيّة العقل ومقامه الشامخ، وتعريفه وبيان حدوده وقد عرف العقل كلّ من منطلق علمه وفنّه ،يستخدم مصطلح العقل عند البعض لوصف “نظام حركة الخلايا, والخلايا العصبية, ونقط الاشتباك العصبي, والعمليات الكيميائية التي تحدث للمخ و هي عمليات لمعالجة المعلومات ونشاطها في المخ. فالعقل هو ذلك الاسم الذي نطلقه على عملية التفاعل التي تحدث بين النفس والروح وهى عملية التفكير” ويتم بناء ذلك العالم عن طريق التعليم والتعلم المستمر حتى يصبح لديه حصيلة من المعاني التي توصله إلى القدر الذي نستطيع اعتباره فيه عاقلاً. فاختلفت التعاريف وتقسيمات .”ما يهمّنا هنا ونلاحظه من التّعاريف اللغوية أن كلمة العقل وهي اسم وصفة قيمية أو فعل متحقق في التعريف من أن العقل هو بنية معان. فبنية المعاني المتكونة تؤدّي دور الاسم والصفة والقيمية عندما تؤهل صاحبها أن يعتبر عاقلاً وراشداً أو حكيماً. فمن وجدت فيه بنية وقدر معين من المعاني سمّي عاقلاً ووصف بالعقل وهي صفة حميدة قيمة ،فبنية المعاني المتكوّنة هي العقل، ولكن كونها بنية يدل على أنها لم تتكون عشوائياً أو بالجمع غير المنتظم بل عن طريق الجمع المنتظم والربط المنسق والإمساك والحجر للمعاني بتقدير واتقان،”.
اما في الحقيقة ان العقل هو نور روحاني أودعه الله عَزَّ و جَلَّ في الإنسان ، و هو آلة التفكير و القوةٌ المدركةٌ و المُميِّزة التي أنعم الله بها على الإنسان .
قال الله جَلَّ جَلالُه : ﴿ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ﴾زمر، الآية : 17 و 18
ورد فِعلُ العقل في القرآن الكريم في تسعةٍ وأربعين موضعًا، ولم يَرِدْ بشكلِ مصدر مطلقًا، وكل أفعال العقل تدلُّ على عملية الإدراك والتفكير والفهم لدى الإنسان .
نذكر البعض من هذه الايات الكريمة:
﴿ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 75].
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37].
﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴾ [المدثر: 18 – 19].
﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [الملك: 10].
اذاً ان الله عز وجل بلطفه وحكمته وهب للإنسان العقل، وما قسّم الله بين العباد بأفضل منه، فتشرف به في خلقه، وكان العقل دعامته في حياته، وحاز الفضائل ونال المكارم، وحلّق في سماء السجايا الطيبة والصفات الحميدة بتهذيب نفسه، وصيقلة قلبه، وتزكية روحه بالعلم والتربية، فكان مظهراً لأسماء الله الحسنى، ومرآةً لصفاته العليا، ببركة مبادئه السليمة وعقله النيّر، فهو دليله ومبصره، ومفتاح أمره، وبضميره الواعي وفطرته السليمة، ونفسه اللوّامة، وبأخلاقه الحسنة، وسلوكه الطيب، وقلبه الطاهر المفعّم بالإيمان الراسخ، والمتشبّع بالعلم النافع والعمل الصالح،
وَ رُوِيَ عن الرسول المصطفى ( صلى الله عليه و آله ) أنه قال : ” مَا قَسَمَ اللَّهُ لِلْعِبَادِ شَيْئاً أَفْضَلَ مِنَ الْعَقْلِ ، فَنَوْمُ الْعَاقِلِ أَفْضَلُ مِنْ سَهَرِ الْجَاهِلِ ، وَ إِقَامَةُ الْعَاقِلِ أَفْضَلُ مِنْ شُخُوصِ الْجَاهِلِ ، وَ لَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيّاً وَ لَا رَسُولًا حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْعَقْلَ ، وَ يَكُونَ عَقْلُهُ أَفْضَلَ مِنْ جَمِيعِ عُقُولِ أُمَّتِهِ ، وَ مَا يُضْمِرُ النَّبِيُّ ( صلى الله عليه وآله ) فِي نَفْسِهِ أَفْضَلُ مِنِ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَ مَا أَدَّى الْعَبْدُ فَرَائِضَ اللَّهِ حَتَّى عَقَلَ عَنْهُ ، وَ لَا بَلَغَ جَمِيعُ الْعَابِدِينَ فِي فَضْلِ عِبَادَتِهِمْ مَا بَلَغَ الْعَاقِلُ ، وَ الْعُقَلَاءُ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَ مَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ و نعمة العقل هي من أعظم النعم التي أنعمها الله عَزَّ و جَلَّ على الإنسان ، فيما نقل عن الإمام أمير المؤمنين علي ( عليه السَّلام ) أنه قال : ” لَا غِنَى كَالْعَقْلِ وَ لَا فَقْرَ كَالْجَهْ لِ …اما العقل السوي فهوا.”هو الفطرة المدركة التي فطر الله الناس عليها التي نميز بها الأفكار و التصورات الحسنة من القبيحة و نقنن بها الغرائز و بما ان الفطرة تتشوه فإن الله أرسل الرسل ليعيدوا بناء الفطرة السليمة في النفس البشرية على الأرض فمسلمات الفطرة من خوف ورجاء وخشية من الله وايمان بوجوده وجنته وعذابه كلها أشياء لا يستطيع الذهن تصورها والوصول اليها بمعزل عن الوحي لأنها ترتبط بالله تبارك وتعالى وهو خارج نطاق الإدراك والحس لهذا فالدين إتباع وليس اقتناع لأنه لا أحد يستطيع تصور المصلحة والمفسدة الأخروية بشكل واضح قبل أن يؤمن بها فبلا إيمان واستسلام لا يخالطه شك في صحة ما جاءنا من الله تبارك وتعالى لا نستطيع التمييز بين ما هو خير وشر …”.
من خلال العقل جعل الله سبحانه الانسان خليفة في الأرض ليعمرها بإذن الله الواحد، قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]: او قوله تعالى {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26]؛
ولذلك ادرك العالم غربه وشرقه مكانة هذه الميزة فاحترموها لاحترام خالقها ومودعها في من يجب احترامه لاحترام من كرمه، وخلاف ذلك يعمل كثير من ساسة العالم الاسلامي، عربيهم وأعجميهم، مع علمهم بنصوص القرآن التي تنطق بالتحرر والتكريم لخليفة الله في أرضه، على احتقار عقل الانسان، الطاقة الجبارة، وما ذلك إلا شططا منهم وعصياناً وجحوداً وتسفيهاً للعقل مهما كان تفاوت إبداعه، ولا يرون إلا ما تراه متطلبات حياتهم، وفي سبيل تحقيق الاهواء لهم يحتقرون التحرير أوالتحرر للعقل، فيقتلون ويعذبون ويطاردون كل حر ذي عقل، لانهم في صورة سوداء مزيفة، يهربون من مواجهة اصغر فرد من افراد المجتمع تحت ظل السلطة العمياء الخاضعة لأمرهم. وروي أنّ جبرئيل (ع) هبط إلى آدم فقال: يا أبا البشر أُمرت أن أُخيّرك بين ثلاثُ فاختر منهنّ واحدة ودع اثنتين، فقال له آدم: وما هنّ؟ فقال: العقل والحياء والإيمان، فقال آدم (ع): قد اخترت العقل، قال: جبرائيل للإيمان والحياء إرحلا، فقالا: أُمرنا أن لا نفارق العقل.و الانسان العاقل يحمل الصفات الثلاث اذا ماكان مكتملاً، العقل اولاً ،والحياء ، والايمان تاتي بالدرجات التالية .
نختم الحديث بقول سبحانه وتعالى {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}[الزمر: 17-18]،
صدق الله العلي العظيم