16 نوفمبر، 2024 10:32 م
Search
Close this search box.

آراء جديدة في العلمانية والدين

آراء جديدة في العلمانية والدين

تأليف: د. رفيق عبدالسلام

يعد هذا الكتاب في أصله عبارة عن أطروحة لنيل الدكتوراه من الجامعة البريطانية في موضوع “الإسلام والعلمانية والحداثة”، تقدم بها الباحث رفيق عبد السلام، وقد أعاد صياغتها ونشر جزءها الأول في سنة (2011) عن مركز صناعة الفكر للدراسات والتدريب بتوزيع من مؤسسة الانتشار العربي اللبنانية.

ينقسم هذا الكتاب إلى ثلاثة أبواب، يتناول الباب الأول مبحث العلمانية من خلال تعميق النظر في محورين أساسين؛ المحور الأول اهتم بمعالجة العلمانية في أبعادها النظرية من خلال التنقيب في دلالتها اللغوية والفكرية، مستحضرا أهم مصادرها وألمع منظريها في العصر الحديث، مشيرا إلى حالة الالتباس الدلالي الذي يطبع كلمة “علماني” في أصل الاستخدام الأجنبي نفسه، إذ بقيت العلمانية من بين أكثر المفاهيم اضطرابا والتباسا في الخطاب العربي والغربي، ولم تكن موضع تنقيب تاريخي ومعرفي جاد إلا فيما ندر، مما جعلها عرضة لتجاذبات تعريفية لا حصر لها.

لفت الانتباه الكاتب إلى أن هنالك ثلاثة حقول دلالية متباعدة ومتباينة لابد من التمييز بينها في موضوع “العلمانية”، تجنبا لآفتي الخلط والتعميم؛ أولها الحقل الدلالي اللغوي المرتبط أساسا بالأصل الاشتقاقي للكلمة على نحو ما تجليه القواميس اللغوية المتخصصة، وثانيها تتعلق بالدلالة المضمونية القديمة المستخدمة في العصر المسيحي الكنسي الوسيط، أما ثالثها، فترتبط بالدلالة النظرية الحديثة للعلمانية.

وهكذا تتعدد تعريفات العلمانية بتعدد زوايا النظر والخلفيات الفكرية والثقافية، وأيضا بتنوع الحقول المعرفية التخصصية، فالفلاسفة يركزون في قراءتهم للعلمانية على أبعادها النظرية ومستتبعاتها الأخلاقية، في حين يتناول حقل علم الاجتماع أبعادها الاجتماعية والسياسية، كما ينظر علم السياسة للعلمانية من زاوية ثنائية الديني والسياسي.

وقد أشار الكاتب رفيق عبد السلام أن العلمانية بوصفها نظرية هي مولود حديث العهد لا يزيد عمره على قرنين من الزمن، تُقَدم بوصفها قراءة شاملة ونسقية ترتكز إلى حتميات كونية وتاريخية، فهي عند كبار منظريها ليست مجرد ممكن من الممكنات التاريخية، ولا هي مجرد علاج محدد لأوضاع تاريخية مخصوصة بقدر ما هي أشبه ما تكون بالتعبير”الباطني” عن صوت التاريخ ومآلات الوعي الإنساني، ليتجه التاريخ الكوني نحو رؤية دهرية علمانية والتخلص النهائي من التصورات والمسالك الدينية الموصوفة بالسحرية والخرافية، إذ تأثرت نظريات العلمنة بدرجات متفاوتة بالتوجهات الوضعية والنزعات الإلحادية الجذرية للقرنيين التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.

غير أن الكتاب ينبه بنوع من الدقة المنهجية والعمق المعرفي على أن نظريات العلمنة الحديثة استندت على تصور جديد للدين والسياسة والأخلاق يرتكز على إعادة بناءها على أسس المحايثة الدنيوية بدل استدعاء فكرة التجاوز والتعالي. كما تطرق إلى أن العلمانية لم تكن نتاج مطارحات فكرية هادئة أو مجرد تعبير عن رغبة مزاجية لبعض النخب الفكرية والسياسية أو خيارا إيديولوجيا، بل كانت عبارة عن حل عملي وتسوية تاريخية وإجراءات براغماتية للسيطرة على أجواء الحروب الدينية التي شقت عموم القارة الأوروبية في القرنيين السادس والسابع عشر، مؤكدا على أن الحركة الإصلاحية البروتستانية دون وعي منها زرعت بذور العلمنة السياسية في عموم القارة الأوروبية، من خلال توفيرها للشروط التاريخية والمسوغات الدينية والكلامية التي ساعدت على تعظيم سلطة الدولة ثم الكيانات القومية، التي عملت بدورها على افتكاك العديد من الوظائف السياسية والاجتماعية التي كانت تستأثر بها الكنيسة، كما قامت بصهر الموروثات المسيحية ضمن وعاء المشاعر القومية المتمركزة حول فكرتي الأمة والمجد القومي المطبوعتين بروح دنيوية معلمنة.

أما المحور الثاني من الباب الأول، فقد تناول العلمانية باعتبارها ظاهرة تاريخية اجتماعية في إطار ما بات يعرف اليوم ب”العلمنة”، مشددا على تنوع تجارب العلمنة، سواء في مواطنها الأصلية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية أم في الفضاءين العربي والإسلامي، ليخلص إلى القول بتعدد العلمانيات واختلافها، مؤكدا أن العلمانية ليس تجربة واحدة ووحيدة بل علمانيات متعددة المشارب والسياقات والتوجهات. كما استحضر الكتاب في هذا السياق خصوصية التجربة الفرنسية معتبرا إياها تجربة استثنائية، مشيرا إلى أن القراءة المتأنية للحالة العلمانية تبرز أن دول أوروبا الغربية تتراوح بين ملازمة الصمت إزاء المرجعية الدينية للدولة وبين تنصيص واضح وصريح على الدين الرسمي، باستثناء فرنسا التي تظل حالة فريدة، فهي البلد الوحيد من دول الاتحاد الأوروبي الذي نص صراحة على لائكية الدولة مع الامتناع عن الإشارة إلى الديانة الرسمية، نظرا لتضافرت جملة من العوامل التاريخية والفكرية في تشكيل ملامح هذه الخصوصية على نحو ما جسدتها ثورتها العنيفة الصاخبة؛ كما عد فلاسفة الثورة الدين والكنيسة المصدر الأعظم لكل الشرور السياسية والاجتماعية، إذ استبدت بهم فكرة أن الدين والكنيسة يتطابقان ضرورة مع الخضوع والعبودية، مثلما يتطابق العقل والمعرفة مع كمال النضج ومطلق الحرية.

ومن ثم يخلص الباحث رفيق إلى أن العلاقة بين الدين والسياسة عموما، وعلاقته بالكنيسة خصوصا سواء في السياق الأوروبي عموما، أو في التجربة الفرنسية على وجه الخصوص، علاقة مركبة ومعقدة متعددة الأبعاد، الأمر الذي يجعل قراءة الوضع الديني وحركة العلمنة من خلال المنظور الفرنسي قاصرة وتبسيطية دون استحضار الحالة الدينية في مختلف مناحي المعمورة الكونية التي هي أشد تعقيدا وأكثر تشعبا. فخلافا للتجربة الفرنسية التي اتسمت بمنزع علماني مصادم للدين والكنيسة، فإن أمريكا انطبعت بروح دينية بروتستانتية واضحة المعالم، إلى الحد الذي لا يمكن معه فهم التاريخ الأمريكي دون استحضار دور الكنيسة البروتستانتية والرموز المسيحية الملهمة للآباء المؤسسين. وهكذا يتبين أن العلمانيات كانت في صورتها الغالبة عبارة عن حركة مساومات وتسويات بين مختلف القوى الاجتماعية والدينية المتنازعة فيما بينها حينا والمتوافقة حينا آخر، وهذا ما يفسر اختلافها من بلد لآخر ومن حقبة تاريخية إلى أخرى باختلاف الأوضاع الداخلية وملابسات العلاقة التي حكمت بين الكنيسة والدولة.

وتوقفت الدراسة عند عالم الاجتماع الألماني “ماكس فيبر”، لما تتسم به قراءته للعلمانية والحداثة من طرافة وعمق على حد قول الكاتب، ولما له من تأثير ملموس في قطاعات واسعة من الباحثين والأكاديميين، بل من السياسيين والإعلاميين الغربيين على السواء. إذ تتمتع نصوصه بقدرة تحليلية قوية، ناهيك عما تصطبغ به من أبعاد نقدية تشاؤمية لبت حاجة عميقة لدى العدد الأكبر من المفكرين الاجتماعيين المعاصرين ممن عملوا على تشخيص عاهات الحداثة وكشف أعطابها. كما أورد الدكتور رفيق الدلالة الثقافية التي يمنحها ماكس فيبر للعلمانية التي يدعوها ب”نزع الطابع السحري عن العالم”، محللا ذلك بكونه يقصد تجريد العالم من جميع أشكال القداسة والعلوية، ثم تحويله في نهاية المطاف إلى مجرد معادلات رياضية قابلة للتوظيف الذرائعي والأداتي من قبل الإنسان الحديث المتعطش للسيطرة والتفوق في هذا العالم. كما عرجت الدراسة على إسهام فيبر في تحليله لدور البروتستانتية على تحفيز نشأة النظام الرأسمالي الحديث، بسبب مناداتها بالعمل المعقلن والمتقن طريقا لسلامة السلوك الديني وحسبانها مراكمة الثروة سبيلا للخلاص الديني.

ورغم الدور الحيوي والمتقدم الذي لعبته المسيحية الإصلاحية في توفير الشروط الأخلاقية والتاريخية لنشأة النظام الرأسمالي الحديث، إلا أنها تبقى مجرد لحظة عابرة نحو عالم بلا إله حسب تعبير فيبر، فالنظام الرأسمالي يزيح كل العقائد والقيم الكبرى عدا قيمتي المنافسة والربح لأنه بطبيعته الذاتية لا يستطيع التعايش مع الأهداف والغايات الدينية والأخلاقية؛ إذ انتهى هذا النظام إلى ابتلاع واستخدامها لمصلحة منظومته الإكراهية الصارمة، لتتحول إلى أولى ضحايا العالم الذي كانت سببا في نشأته وظهوره.

إن العلمانية في نظر فيبر حركة تاريخية كاسحة وجامحة تربك مختلف البنيات الاجتماعية والاقتصادية السائدة؛ وتجسيد حي ومتلاحق لدهرنة هذه البنيات، فالأزمنة الحديثة لا تكتفي بتغييب فكرة الآلهة أو الله من عالم الوعي والتصورات بقدر ما تعمل على تغييب الدين على نحو منهجي ومتلاحق في مختلف مناحي المجتمع ومؤسساته الحيوية من الاقتصاد إلى السياسة ومن التشريع إلى الفن. فالعصر الحديث من وجهة نظر عالم الاجتماع الألماني فيبر في جوهره عصر علماني، لأن البنيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الحديثة لا تستطيع بطبعها أن تتعايش مع الدين أو تتساكن مع المؤسسات الدينية.

وخصص الكتاب الباب الثاني لدراسة العلاقة الرابطة بين الإسلام والعلمانية، منبها أن هدفه ليس تقصي أوجه التعارض أو التوافق بين الإسلام والعلمانية، وإنما بيان الطابع المركب للإسلام والعلمانية على السواء؛ فضلا عن جلاء الخاصية المعقدة لهذه العلاقة، سواء عند تناولنا العلمانية في بعدها النظري والنصي أم في بعدها التاريخي الاجتماعي.

كما انتقد البحث المقولات السائدة في الخطاب المعرفي والإعلامي في تأكيده على وجود الإسلام موحد وصلب يقف ضد علمانية متجانسة وموحدة، مشيرا إلى أن الإسلام ليس حالة نمطية منغلقة على نفسها، ولا العلمانية حالة مكتملة وموحدة، ولا العلاقة بينهما بسيطة؛ فالإسلام رغم كون مبادئه منضبطة بالنصوص المحكمة، إلا أنه دين تعددي على صعيد التأويل والفهم، كما أنه تعددي على مستوى الممارسة الفردية والاجتماعية. وكذلك الأمر بالنسبة للأدبيات العلمانية فهي بالغة التعدد والاختلاف، الأمر الذي يجعل دراسة هذه العلاقة يتسم بالتركيب والتشعب، ولا يمكن معالجتها بالقول القاطع بأن الإسلام والعلمانية صنوان، أو أنهما عدوان، في حين يجب إدراك محدودية النماذج النظرية الغربية المتحيزة في تحليل علاقة الديني بالعلماني مع الابتعاد عن تصور مفاهيم الإسلام والعلمانية والحداثة وكأنها مفاهيم جامدة وجاهزة وقطعية، فكما أن الإسلام حالة ديناميكية ومتحركة سواء من جهة القراءات الاجتهادية والجهود التأويلية أم من جهة الممارسة التطبيقية، فالعلمانية والحداثة هما أيضا عند التحقق علمانيات وحداثات كثيرة ومتنوعة.

وختمت الدراسة في الباب الثالث بمسألة الديمقراطية الذي ابتلي في معالجته بآفتي الأدلجة والاختزال، كأن يشاع بان الديمقراطية منظومة متكاملة ومتراصة البنيان أو أنها ثقافة شاملة لا تنفصل فيها القيم عن الإجراءات والآليات. غير أن الباحث عبد السلام أشار إلى أن الديمقراطية ما هي إلا إجراءات وظيفية قد تصلح لعلاج معضلة الاستبداد والتسلط السياسي وليست عقيدة صارمة منازعة للعقائد والأديان، ولا هي حل سحري يتجاوز سنن العمران وقوانين الاجتماع السياسي، محاولا التركيز على فكرة الوصل بين “الدين والديمقراطية” والفصل بين “الديمقراطية والعلمانية”.

المصدر/ مركز الفكر للدراسات الاستراتيجية

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة