السياسة فن الممكن، والعراق يمر بمرحلة عصيبة من التمزق بعد اعلان البارازاني إقامة الاستفتاء وفرض سياسة الامر الواقع على المناطق المتنازع عليها، ووهن الحكومة العراقية لما بعد دخول داعش واحتلالها لثلث مساحة العراق، والازمة المالية الخانقة نتيجة العبث الصبياني لحكومات المالكي المتعاقبة واخرها الانكسار العسكري امام توغّل داعش من الموصل حتى تخوم بغداد، وما قامت به الحكومة اللاحقة بقيادة العبادي هو ترقيع ما هتكت استاره حكومة المالكي، وعلى الرغم من الإنجازات العسكرية العراقية بمساعدة المجتمع الدولي، لكن استفحال الظواهر تحت مسمّيات الحشد الشعبي الذي سارع البرلمان لغطائها القانوني بقانون الحشد الشعبي، كان اغلب تلك الفصائل أعلنت مرجعيتها السياسية لولاية الفقيه في طهران، خلافا لثوابت دعوة الجهاد الكفائي التي اصدرها الامام السيستاني بوجوب التطوع الشعبي ضمن قيادة الجيش العراقي لدحر الزمر الظلامية لتنظيمات داعش على أعقابها وفق فلسفة الجهاد الكفائي.
وبعد الانتصارات المتلاحقة للجيش العراقي بالدعم الدولي توضحت بوصلة القوى المشاركة متمثلة بثلاث اتجاهات:
اولا: قطعات الجيش العراقي بكافة صنوفه ومكافحة الاٍرهاب ومساندة الدعم الدولي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية وبقيادة الرئيس العبادي القائد العام للقوات المسلحة، تعد مسارا وطنيا يقاتل تحت لواء العلم العراقي لدحر الدواعش والحفاظ على وحدة العراق، ويلحق بها القطعات التي تشكلت بفتوى الامام السيستاني وفق دعوة الجهاد الكفائي.
ثانيا: قطعات الحشد الشعبي من الفصائل العراقية المرتبطة عقائديا بولاية الفقيه تقاتل داعش وفق توجيهات واجندة فيلق القدس الايراني، تروم تحقيق المصالح الايرانية ببسط النفوذ وتحقيق منافذ الإمدادات الايرانية وصولا لسوريا وحزب الله اللبناني.
ثالثا: البيشمرگة وهي قوات كردية عقائدية تقاتل الدواعش بدفع المخاطر عن حدود اقليم كردستان وتبيّن فيما بعد اندفاعها في المناطق المتنازع عليها وخاصة كركوك وسهل نينوى بغية فرض سياسة الامر الواقع لضمّها الى اقليم كردستان، وذلك ما أثبتته نتائج الاستفتاء والمناداة بالاستقلال لإقليم كردستان وفرض سياسة الامر الواقع بالاستحواذ على مناطق النزاع بغية ضمّها للدولة الكردية المنشودة بزعامة برزاني.
بعد اعلان الاستفتاء من قبل البارازاني في ظروف حرجة يمر بها العراق، ومعارضة الدول الفاعلة في المشهد العراقي ( أمريكا وبريطانيا والكثير من دول الاتحاد الأوربي وكذلك الدول الإقليمية تركيا وإيران) ماعدى الدعم الذي تلقاه البارازاني من اسرائيل، ولو اخذنا بنظر الاعتبار الدعم الاسرائيلي للبارازاني نجده مقترن بالرؤية الإسرائيلية ومخاوفها من التوغل الايراني في المنطقة سواء بالعراق وسوريا ولبنان وما طبيعة انعكاساته على الأمن القومي الاسرائيلي.
لجوء السيد العبادي للاستقواء بدول الجوار تركيا وإيران بالضغط على أربيل بهدف الحصار الاقتصادي ومحاصرة الأكراد اقتصاديا دون التمعن بالمصالح العليا للامن القومي الايراني والتركي، كان اندفاعا هزيلا في عالم السياسة، للاسباب التالية:
اولا: ليس بمقدور تركيا وإيران إذعان المد الشعبي الكردي داخل أراضيها، علما ان الأكراد الإيرانيين والاتراك يشكلون كثافة بشرية لا يستهان بها، وان تلك الدول تعيش صراعات أمنية داخلية لكبح جماح الامال الكردية بالانفصال.
ثانيا: ان التبادل التجاري الايراني عبر كردستان العراق يشكل مصدرا مهما في ديمومة فك الحصار الاقتصادي التي تعاني منه ايران، وكذلك التبادل التجاري التركي عبر بوابة ابراهيم الخليل، اضافة لوصول النفط العراقي لتركيا عبر انابيب النفط التي تمر بكردستان العراق من حقول نفط كركوك، ونعلم ان تركيا بلد صناعي تشكل له إمدادات الطاقة ركن مهم في ديمومة الصناعة التركية.
ثالثا: لو افترضنا ان العراق استبدل المنفذ الحدودي لابراهيم الخليل، يتبادر لنا سؤال، هل بالإمكان للحكومة العراقية تأمين الطرق الداخلية التي تمر بمحافظة نينوى أمنيا؟ .. ولو كان بمقدورها فعل ذلك لكان تأمين طريق منفذ طريبيل الحدودي المار بمحافظة الانبار وتوقفه منذ سنوات بعدم فاعلية القوات الأمنية على تأمينه بسبب هجمات الدواعش، وبذلك بقي معطلا لعدم توفر الإمكانيات الأمنية حتى تم الاستعانة بشركات أمنية والتي تراجعت عن ممارسة أعمالها بتأمينه.
لتلك الأسباب الرئيسة وما يرافقها من اسباب اخرى، فان الحصار الاقتصادي بغية إذعان البارازاني لا يمكن له الصمود مثلما تمناه السيد العبادي وصبّية العمل السياسي في بغداد.
اذاً علينا ان نجد البدائل الداخلية والخارجية لمعالجة الأزمة الوطنية العراقية كالاتي:
داخليا: حل البرلمان واللجوء لتشكيل حكومة للانقاذ الوطني للاسباب التي يمر بها البلد وتتلخص ب ( تعرض البلد لخطر التقسيم، وجود خلايا الاٍرهاب رغم الانتصار عليها في مراكز تجمعها ولكن لها الفاعلية على تنفيذ مخططاتها مثلما حدث اخيرا في العمق الجنوبي بالناصرية، الأزمة المالية الخانقة، رجوع النازحين وترميم البنى التحتية للمدن ولو بالحد الادنى لتمكين سكانها بالعودة لديارهم) والمشهد السياسي للبرلمان العراقي غير قادر على حلحلة المشكلة الكردية بالحوار، وان صوت المعركة يعلو وهي اللغة الغالبة على صوت العقل والحوار، وبذلك القرار يمكن حفظ دماء العراقيين عربا وكردا وتركمان وكافة اقلياته من الدخول في معترك الحرب الاهلية.
خارجيا: طالما تم تحديد العلة ان الاسناد للبارازاني قد جاء من الليكود الاسرائيلي بقيادة نتنياهو، علينا التمعن بالبديل لإيقاف ذلك الاسناد للبارازاني، وسحب البساط من تحت أقدامه، وبما ان اسرائيل دولة مؤسسات وكقوة إقليمية لها ثقلها العسكري والاستخباري في المنطقة، علينا ايقاف توغل أجنحتها في الشأن العراقي، بواسطة يهود العراق الوطنيين الذين ظلت وشائجهم الثقافية والروحية ملاصقة لبلدهم الام العراق منذ التهجير القسري، وحيث ان الغالبية منهم اختاروا بلدان المهجر في بريطانيا وأمريكا والهند والكثير من بقاع العالم دون الدخول بالحركة الصهيونية، وظلت ذكرياتهم مترابطة مع صالح الكويتي وناظم الغزالي وعفيفة إسكندر والمقام البغدادي والقائمة تطول، ولو تصفحت مواقع اليوتيوب تجد ان اللون العراقي حاضرا في وسط اسرائيل لليهود العراقيين في عموم الافراح.
ولو اخذنا نسبة اليهود الكرد في اسرائيل الذين شكلوا اللوبي اليهودي لمناصرة البارازاني نجده يشكل نسبة قليلة من اليهود العراقيين ممن هم من وسط وجنوب العراق حيث تتواجد مراقد أنبيائهم في الكفل والعزير والكثير من المقامات التوراتية في العراق، اضافة لممتلكاتهم الذي ظلت محصورة بدائرة الأموال المحجوزة في الدولة العراقية منذ التهجير ولحد الان.
خلاصة القول .. ان يهود العراق في اسرائيل وخارجها يمكن فتح باب الحوار معهم لعقد مؤتمر شعبي لنخبهم مع النخب العراقية للخروج بمقررات تشكيل لوبي دولي مشتركا لفاعليتهم في مفاصل الحياة الاقتصادية في المجتمع الدولي، ولوبي اخر لليهود العراقيين داخل اسرائيل لتحجيم تطلعات اليمين الاسرائيلي بقيادة نتنياهو وإيقاف دعمه للمتمرد مسعود البرزاني .. خدمة لإرساء دعائم العراق الديمقراطي الموحد الذي يتسع لكل اطيافة ومكوناته تحت بيرق المواطنة والمساواة.
[email protected]