23 نوفمبر، 2024 4:37 ص
Search
Close this search box.

أشباح … البريكان

أشباح … البريكان

تنشغل هذه القراءة لعدد من قصائد الشاعر الراحل (محمود البريكان) بإثارة خلاف قائم بين تعددية القراءة وما يترتب على هذه التعددية من انفتاح حر، وبين انغلاق المقروء وما يتبعه من عصيان، وبالتالي فإن هذه القراءة تقوم على إحداث نوع من العطالة للمؤديات الناجمة عن (اللعبة الماكرة للكلمات) ومحاولة إظهار ما تضمره إلى الحد الذي تكون فيه طافية فوق سطح النصوص، إيذاناً بمغادرتها والشروع بتأهيل النصوص ذاتها بهدف إعادة إصدارها من جديد، ضماناً لتأدية مهامها على الوجه الذي يجمع شبح بإنسان، وللحد الذي يصبح كل منهما بمثابة الآخر، وبناء على ذلك نرى أن الجزئية المفقودة من جسد إنسان في قصيدة (انتماءات) مثلاً من شأنها أن تبتكر قريناً خيالياً شبحياً مكملاً لجسدية الإنسان ذاته، وعلى وفق رؤية غائبة انطلاقاً من جزء مفقود من الجسد يقع في الظلمة:
 وحيداً انتمي حرّاً إلى فكره
إلى جزء من الانسان في الظلمة مفقود
  إن هذا الفقدان الجزئي يتماثل مع لغة الشاعر التي تخفي شيئاً تتحدث عنه باستمرار، الأمر الذي يؤكد أن حضور العلاقة الشبحية بالانسان هي نتيجة جهد شعري يعود بأصله إلى الاشتغالات الشعرية للبريكان بأكملها، ولا تسجل أي خروج عنها، ما يجعل من أشباح البريكان جزءاً فاعلاً من أدائه الشعري الذي يلجأ في الغالب إلى مفصل استبدالي غرضه إتاحة الصورة الأفضل لظهور مخاوف الانسان وطبيعة هذه المخاوف وخصائصها غير القارة، التي تماثل إلى حد كبير الخصائص غير القارة والموصولة بمتغيرات الاشكال المختلفة لرؤية شبح ما، هذه الرؤية التي تتغاير بدورها من قصيدة لأخرى، لتنتج في النهاية إرسالية دلالية تحمل مخاوف الإنسان من نفسه قبل مخاوفه من الشبح ذاته، وعلى الرغم من أن رؤية شبح ما، تساورها الريبة على الدوام، إلا أن هذه الريبة كان قد استعارها الشبح من الانسان ذاته ليخيفه بها قبل غيره:
وسمعت أبواق الغزاة تضج في الليل الطويل
ورأيت كيف تشوه الأرواح جيلاً بعد جيل
وفزعت من لمعان مرآتي: لعلّي كالمسوخ
مسخ تقنعه الظلالْ
وإذا كان الجزء المفقود من الجسد في ظلمة نجهلها هو أحد دواعي ظهور شبح ما، فإن هذه الحالة تفترض بالضرورة بأن أي جزء من الجسم البشري أو حالة يعيشها تنتمي لشيء آخر هو الشبح الذي تتم ملامسته بالرؤية فحسب، ولكن بغير دليل ملموس، وهنا تكمن أهمية (اشباح البريكان) إذ يمكن لمحنة ما يتعرض لها انسان أن تتحول إلى شبح – تجيد إعارة هوية الآخر والأشياء معاً، ولعلّ هذا ما يحدث في قصيدة (هواجس عيسى بن الأزرق في الطريق إلى الأشغال الشاقة):
 وساعة فساعة أنظر في وجوم
إلى البراري والمحطات. أفيّ سبات
أنا؟ أمن عالمي انتزعتْ، ما أزالْ
أراقب الأشباح. أشخاص يلوحون
يعدون، يضحكون. يصعدون. ينزلونْ
كأنهم ليس سوى أشباح ذكريات
كأنهم ليس سوى حشد من الظلال
في حلم غريب
 ومثلما يتحول كل شيء من حول (عيسى بن الأزرق) إلى رؤى شبحية استجابة لمحنة من شأنها أن ترينا الهواجس المريرة والحزن الداخلي العميق الماثل في نفسه على هيأة مرئيات تعج بالأشباح، فإنه يتماهى في ذات الوقت مع هواجسه لينتج أشباحاً لا يراها أحد سواه، لكنها قادرة على التجوال في مشاعر العدم الكامنة في نفسه وخارجها معاً، هذا الاسقاط الشبحي على مستوى (داخل النفس وخارجها) لا يمنع من اسقاط شبحي سجالي متبادل بين الانسان وأشباحه، إذ نرى بموجب ذلك إن الانسان في قصيدة (حارس الفنار) يتطلع إلى أشباح مصنوعة من مجهولية الانتظار الذي بمقدوره أن يولّد تساؤلات لا تنقطع عن هذه المجهولية التي لا علم له بمدى زمنيتها،غير إنها زمنية لا منتناهية طال أجلها أم قصر في غضون ما تستغرقه حادثة ما:
أعددت مائدتي. وهيأت الكؤوس. متى يجيء
الزائر المجهول
أوقدتُ القناديل الصغار
ببقية الزيت المضيء
فهل يطول الانتظار؟
أنا في انتظار سفينة الأشباح تحدوها الرياح
  وعلى وفق ذلك نرى أن البريكان يتوجه إلى صياغة مخاوف الانسان بمديات شبحية لامتناهية، مستعيناً بما تتسم به الأشباح من سمات ذات طبيعة تداولية لدى المتلقين، الذين هم بدورهم يتراءون كمتلقين كما هي الأشباح تماماً، إذ ليس بإمكاننا أن نمنح المتلقين تعريفاً محددا لصفاتهم وطرق تلقيهم، واستكمالاً لذلك يتسنى للشاعر (البريكان) نقل مخاوف الانسان عن طريق وسيط شبحي (تفرّ منه الكائنات) بما فيهم الانسان نفسه الذي يشكل مصدراً لإشارات شبحية هي في حقيقة الأمر انعكاس لما ينتجه الانسان نفسه إلى متلقين يكادون أن يكونوا أشباحاً هم كذلك ، وبالنتيجة فإن ما يصدر من إشارات شبحية هي في حقيقة الأمر إنعكاس لما ينتجه الإنسان نفسه وهو انتاج يرتد إلى الحاضنة المكانية لتعيد انتاجه من جهتها، وليس أدلّ على ذلك ما يتولد عن قصيدة (النهر تحت الأرض) من غرائبية شبحية إنه (شبح مائي) يحيلنا إلى افتراض لا يمكن إثباته:
النهر الغامض
لا اسم له
لا أثر له
في أي خارطة
في أي دليل سياحة
النهر الغامض تحت الأرض
يجري أبداً
يجري يجري..
 ينبغي القول إذن بأن (أشباح البريكان) تسمح لنا برؤية شيء بوجوه متعددة، وجه يخيفنا ووجه آخر ناجم عن مخاوفنا، ثم وجوه تتكاثر عبر الأشياء والموجودات من حولنا، الأمر الذي يجعلنا ندرك أن البشر والأشياء من جهة قصائد البريكان هما سيرورة شبحية، بل أن أغلب البشر إن لم نقل جميعهم يسيرون وهم نيام، وبالتالي فهم ينتجون من خلال نومهم ضرباً من الرؤية الشبحية المتحركة والمستغرقة في نومها بآن معاً:
أروي لكم عن كائن يعرفه الظلام
يسير في المنام أحياناً. ولا يفيق
اصغوا إليّ اصدقائي: وهو قد يكون
اي امرئ يسير في الطريق
في وسط الزحام
وقد يكون بيننا الآن وقد يكون
في الغرفة الأخرى يمط حلمه العتيق
…………………
يمرّ بالناس الكثيرين وبالأشجار
فلا يرى شيئاً. وقد يبتاع في الطريق
جريدة يقرأ فيها آخر الأخبار
وهو غريق بعد في سباته العميق
  وهكذا يتحول كل بيت شعري لدى (البريكان) إلى علامة تضيف دالاً إلى المشهد، الذي يشير بما فيه الكفاية إلى ظاهرة دلالية- سيمائية تنتجها طريقة التعامل مع كائن مختلف عن الانسان ومتطابق معه في آن، أي أن الرؤية الشبحية التي يقدمها شعر البريكان تدل على علاقات ذات دلالات غامضة ومتجلية في الأوان ذاته، باعتبار أن أشباح البريكان هي علامات إبلاغية قبل كل شيء تنطوي على دالات بصرية تنتمي هي الأخرى إلى السلوك المشتق من الإنسان، في حين أن الإنسان ذاته ينتمي هو الآخر إلى السلوك المشتق منها، فعلى الرغم من أن الشبح هو علامة غير لسانية في شعر البريكان، لكنه – يمارس التحديق الابلاغي بإفراط وشدة، إنه الصامت والمتكلم بغزارة.
  إن المقارنة بين قصيدتي (خطان متوازيان) و(الوجه) يدلنا على أن كلا القصيدتين لا تسمح لنا معرفة الانسان لمفرده على وجه التحديد، فالانسان لا ننتهي من معرفته من دون استكمال معرفته الشبحية اللامتناهية. إن الإنسان والشبح يقرّان بعجزهما عن شرح نفسيهما، ونستدل على ذلك بما يحدث في قصيدة (خطان متوازيان) فثمة جسد طفل يلفت نظرنا بوجهه الملتصق بالزجاج، لكنه حين يغيب في لحظة خاطفة لا يترك من جسده سوى أثر لرؤية شبحية سرعان ما تزول ولا يبقى منها سوى (رسم وجه هارب):
في المطعم الصاخب
أطلّ من خلف الزجاج عابر صغير
بوجهه الشاحب
أطلّ لحظتين
أسقط قطرتين
…………
أغمد نظرتين في الأطباق نهمتين
وحكّ أنفاً وسخاً قصير
ببارد الزجاج. لكن أعين الناس
همّتْ به فغاب
وظلّ رسم وجهه الهارب
على زجاج المطعم الصاخب
كالوسم في الضباب
  وعلى غرار ما يحدث في قصيدة (خطان متوازيان) يمكننا رؤية ما يحدث في قصيدة (الوجه) لا سيما وأن ما يجمع بين هذين الوجهين في القصيدتين هو حالة (الغياب) فثمة وجه (هارب) وآخر (غريق) وعلى هذا النحو فإنهما لا يشكلان حضوراً بقدر ما يشكلا أثراً ينتج تحويلاً لخصائصهما عبر حلول شيء محل شيء آخر استجابة لمثيرات لحظة ما:
يقذف عبر الزجاج
نظرة من عذاب ورعب
وتغيبه الريح ثانية..
نفسه. ذلك الوجه ، حين يسح المطر
عند منتصف الليل
يظهر ملتصقاً بالزجاج كوجه غريق
يتموج مشتعلاً بالبروق
وعلى وجنتيه تسيل قطرات المطر
والدموع
  وفي سياق آخر تتحول شبحية (الوجه) في قصيدة (الطارق) إلى شبحية جسد بأكمله، إذ يكون بوسعنا أن نلمس أشكالاً متنوعة لظهور الشبح في شكله الذي لا يمكن أن يكونه أبداً، طالما أنه يمثل إحالة مبهمة على شيء آخر، هي بمثابة (رؤية) تستعصي على أي تحديد، فلا اثبات لصفاتها وبالتالي فإننا نجد بها حاجة إلى الامتداد واللاتناهي الذي يمنحها القدرة على إثارة تساؤلات محيرة:
مَنْ الطارق المتخفي؟ تُرى؟
شبحٌ عائدٌ من ظلام المقابر
……………….
روح على الأفق هائمة أرهقتها جريمتها
أقبلت تنشد الصفح والمغفرة؟
رسول من الغيب يحمل لي دعوة غامضة
ومهراً لأجل الرحيل؟
 وبناء على ما سبق يتضح أن قصائد الشاعر محمود البريكان تمتلك شاشات متعددة لعرض ما يتعلق بالأجساد وما يقابلها من أشباح، وبموجب ذلك يكون بوسعنا القول أن أساس هذا العرض المتعدد هي تلك القرابة القائمة بين بعيدين متعارضين، لكنهما متوافقان وممتلئان بحركة حياة بأكملها.

أحدث المقالات

أحدث المقالات