منذ أن رفع الإمام الحسين بن علي راية المعارضة للنظام الأموي، ورفض بيعة رمزهم الحاكم يزيد بن معاوية (( ومثلي لايبايع مثله))؛ فإنه كرس الحد الفاصل بين المدرسة الأموية الدخيلة التي اخترقت الصف الإسلامي بقوة وتخطيط وإصرار وترصد؛ بدءاً من رزية السقيفة سيئة الذكر، وبين مدرسة الإسلام الحقيقي التي تعرضت لأبشع ألوان التآمر.
لقد طرح الإمام الحسين أهداف نهضته بكل وضوح، و وضع إصلاح الأمة وتوعيتها وإعادتها الى خط رسول الله؛ بعد أن تعرضت على يد الخط الأموي الدخيل الى الإنحراف والتضليل والإنحطاط (( إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي)). وبذلك فقد حصر أهداف نهضته بإصلاح الأمة بكل تفاصيلها؛ وانقاذها من الضلال والبدع والخرافة والإنحراف، ولم يكن يستهدف إصلاح الحكم وإدارة الدولة وحسب؛ لأن نهضته لم تكن ثورة سياسية سلطوية من أجل استعادة الحكم الذي تقمصه آل أمية؛ وإنما كان هدفه أكبر بكثير من موضوعة السلطة. إنه هدف إستعادة الإمة التي اختطفها خط الإنحراف.
لقد عمل خط الإنحراف الأموي على مسخ الأمة عبر كل وسائل التخريب النفسي والعقدي، وبث كل ألوان الضلال والخرافة والبدع والكفر؛ حتى باتت الأمة مفتونة في دينها وعقيدتها، ومنهارة نفسياً وروحياً. وأصبح التنكيل بأئمة الإسلام المتمثلين بأهل البيت، ومحاربة العقيدة، والوضع في الحديث والكذب على رسول الله، وتوريث الحكم، والإستئثار بأموال المسلمين وصرفها على المحرمات، وقتل النفس المحرمة، وانتهاك حرمات المساجد، وممارسة الرذلة والفسق والفجور، وشرب الخمر، واستحلال غيرها من المحرمات؛ ممارسات شبه عادية لاتستنكرها معظم شرائح الامة، وإن استنكرتها فلا يتجاوز ذلك حدود الحديث مع النفس أو التبرم في الغرف المغلقة أو بعض الإعتراضات العلنية المحدودة جغرافياً، والتي كانت تقمعها سلطة آل أمية بالقوة المفرطة؛ كما حدث في مكة والمدينة والكوفة.
وقد شاء الله تعالى أن يرى الحسين قتيلاً وعياله سبايا؛ لكي يعيد الأمة المختطفة الى حضن الإسلام ويصحح مساراتها جذرياً. وفي الحسابات المادية؛ فإن نهضة الإمام الحسين استطاعت إيقاد شعلة الإصلاح والوعي، وإنقاذ جزء غير قليل من الأمة؛ وإن لم تستطع إنقاذ الأمة بأجمعها؛ لكن أهم إنجاز ميداني لنهضة الحسين هو تمكنها من تحييد الجزء الأكبر من الأمة، والحيلولة دون سقوطها النهائي في شرك الدين الأموي. وبذلك منعت نهضة الحسين تحول الإسلام من دين الوحي والرسالة الى دين آل أمية، وصحت مقولة ((لولا الحسين لاستحال الدين أموياً))؛ ليتجذر بذلك الفصل بين شرائح الأمة وانقسامها الى ثلاث شرائح:
الأولى: الشريحة التي اختارت التمسك عقائدياً وروحياً وسياسياً بمدرسة آل البيت، و أخذت عنوان “التشيع”، وهي مدرسة الإمامة.
الثانية: الشريحة التي اختارت الإنخراط عقائديا وسلوكياً وسياسياً بمدرسة آل أمية، وأخذت عنوان “النصب”؛ أي مناصبة الإسلام الأصيل وآل البيت العداء؛ وصولاً الى انبثاق العقيدة التيمية التكفيرية؛ والتي باتت الفرقة “السلفية الوهابية” من أبرز مصاديقها اليوم.
الثالثة: الشريحة التي اختارت الحياد بين آل أمية وآل البيت، وفضّلت العودة الى ما أسمته سيرة الخلفاء الراشدين والصحابة، وأخذت بمرور الزمن عنوان “التسنن”، وهي مدرسة “الخلافة” أو “أهل السنة”.
ولكي نكون أكثر التصاقاً بالحقيقة؛ فإن مدرسة “أهل السنة” كانت ولاتزال منحازة لآل البيت نفسياً، وأحياناً سياسياً، ولاتخفي حبها لهم؛ ولكنها عقائدياً وفقهياً لا تتبعهم؛ بل تتبع فقهاء آخرين من مدرسة “الخلافة”، وهذا هو ما يميزها عن مدرسة “التشيع” والمدرسة “الأموية”. ولذلك ينبغي الدقة الفائقة في وعي حقائق كل من مدرسة “السنة” والمدرسة “الأموية”، وعدم الخلط بينهما في النظرة والتعاطي؛ لأنهما مدرستان مختلفتان؛ بل متعارضتان في كثير في المسائل الإعتقادية، وفي النظرة لآل البيت، وفي المنهج التربوي والسلوكي، وفي تفسير التاريخ. وهذه الحقيقة تفرض على أتباع أهل البيت مهمة خطيرة؛ تتمثل في الحذر الشديد من أي كلام وممارسة تدفعان أتباع مدرسة السنة للارتماء بأحضان المدرسة الأموية وممثلتها الحالية “الوهابية التكفيرية”؛ لأن هدف المدرسة الأموية الوهابية اليوم يتلخص في استقطاب أكبر عدد ممكن من أتباع المدرسة السنية؛ لتجعل نفسها مدافعاُ عن أهل السنة وناطقاً باسمهم.