ظل العراق يعيش أوضاعاً تنعدم فيها ابسط الشروط الصحية.. فقد عاشت الولايات العراقية.. وضعاً بيئياً غير صالحٍ للحياة.. إذ اتسمت المدن العراقية بندرة نظافتها.. وانعدام أبسط الشروط الصحية.. ناهيك عن كثرة البرك والمستنقعات ذات المياه الراكدة والملوثة.. والمياه الثقيلة القذرة.. التي تنتشر فيها وبمحيطها أنواع الحشرات الضارة والناقلة للأمراض.. ولم تبذل السلطات العثمانية أية جهود ملموسة في ردمها..
ـ وافتقرت المدينة العراقية في العهد العثماني إلى نظام لإسالة المياه.. فمياه الشرب كانت تنقل على ظهور الحيوانات من الأنهار ومصادر المياه القريبة.. ومن الآبار الملوثة داخل البيوت.. ولا وجود لأية وسائل تعقيم لهذه المياه.. حتى ولو كانت بدائية..
ـ كذلك انعدام نظام تصريف المياه التي كان لها الأثر الكبير في انتشار الجراثيم ومختلف الإمراض.. فتخزين المياه القذرة مدة طويلة.. وضعف اهتمام الأهالي بتنظيف أماكنها بصورة مستمرة.. سببت الروائح الكريهة التي أفسدت هواء البيوت.. وفي بعض الأحيان تتسرب هذه المياه القذرة إلى مياه النهر مختلطة مع مياه الشرب.. ناقلة جميع الأمراض السارية..
ـ ولم تقتصر هذه الحالة على البيوت.. بل تعداها إلى الأماكن العامة كالخانات (أي الفنادق).. والحمامات العامة.. فضلاً عن المدابغ المنتشرة قرب الأنهار التي كانت ترمي فضلاتها فيها.. فكانت سبباً إضافياً في انتشار الكثير من الأمراض….. (الحالة الآن يا مسؤولينا أسوأ من العهد العثماني.. فمشاريع نقل المياه من المجاري لا يجري تدويرها.. بل ترمى مباشرة بالأنهر.. والأسوأ من ذلك مشاريع المياه القذرة.. الى جوار مشاريع تصفية المياه في الأنهر)..
ـ ومما زاد في انتشار الأمراض كثرة المقاهي والمطاعم.. المفتقدة إلى ابسط الشروط الصحية.. إضافة الى عدم وجود فحص طبي للداخلين للبلاد.. ولا لوجود أماكن حجر صحي..
ـ إذن لا مياه صالحة للشرب.. لا مجاري.. فكانت المياه الثقيلة تجري في حفر مكشوفة.. ولا من معالجة للقضاء على الحشرات المنتشرة في كل مكان.. ولا معالجة للنفايات والقمامة.. ولا لرفع ومعالجة لجثث الحيوانات المنتشرة في المدن.. ولا معالجة حقيقية للأمراض المختلفة التي كانت تنتشر بين الناس.. مما تتحول الأمراض الى أوبئة فتتوقف الحياة.. وتقضي على الكثير من البشر….. (تماماً الصورة تتكرر في كل محافظات عراق اليوم..أي بعد أكثر من 200سنة من التطور.. هلهوله لمسؤولي الصحة والبيئة والبلدية في عراق اليوم)..
ـ ولم يهتم الولاة العثمانيون بنظافة المدن والأطعمة والمأكولات.. وتعد مبادرة الوالي احمد توفيق باشا العام 1860 في ولاية الموصل إحدى المبادرات الفريدة من نوعها.. عندما أمر القصابين وأصحاب المأكولات بوضع ستر من الخام على موادهم للمحافظة عليها من الغبار والذباب…. (واليوم الكثير من قصابينا ومحلات المأكولات مكشوفة في كل مكان من العراق.. وأضاف إليها التطور العالمي.. دخان عوادم السيارات)..
المستشفيات في الولايات العراقية:
حتى سبعينيات القرن التاسع عشر.. لم تكن في الولايات العراقية الثلاث: (بغداد.. والموصل.. والبصرة).. لا مستشفيات.. ولا حتى مراكز صحية..
ـ فقد اقتصرت ممارسة مهنة الطب على بعض المشعوذين والدجالين.. وبعض المتطببين الذين لم تتجاوز معرفتهم الحقائق التي تلقوها شفاها.. إذ توسع بعضهم في معلوماته من خلال قراءته بعض الكتب القديمة.. أما بالنسبة للقرى والأرياف فكانت المصيبة أكبر وأنكى.. فقد مارس المهنة أشخاص لا علاقة لهم بالطب.. بعضهم توارثوها عن آبائهم وأجدادهم.. الذين أيضا هم ليسوا أطباء البتة.. أما بالنسبة لأطباء الأسنان.. فلم يكن في العراق عموماً أطباء بهذا الاختصاص.. حيث أسندت هذه المهمة الى الحلاقين.. ويندر وجود الأطباء في الولايات العراقية..
ـ ولم تكن في بغداد أية مستشفى أو مركز صحي حتى سبعينيات القرن التاسع عشر.. حين قرر الوالي مدحت باشا بناء أول مستشفى في بغداد.. ولما كانت خزينة الولاية لا تكفي لبناء هذا المشروع.. ناشد الوالي الأهالي بالتبرع لبناء المستشفى.. فتبرع الأغنياء والوجهاء.. وشيدً المستشفى.. وتمً افتتاحه العام 1872 وسمي بـ “مستشفى الغرباء”.. لكن البناية بقيت خالية.. لعدم وجود كادر طبي.. فاستخدمت البناية كمدرسة إعدادية.. لسنوات عدة حتى توفر الكادر الطبي المناسب فافتتحت المستشفى وبدأت العمل.. واستمرت تقدم خدماتها حتى العام 1887.. لتتوقف ثانية لنفس السبب أعلاه .. وتتحول ثانية الى مدرسة إعدادية.. حتى العام 1909.. ليعاد افتتاحها كمستشفى العام 1909.. من قبل الوالي نامق باشا..
ـ وفي العام 1895 تأسس المستشفى العسكري.. في منطقة الميدان ببغداد.. بأمر من وزارة الداخلية العثمانية.. وأفتتح العام 1897 وسمي بـ “مستشفى المجيدية”.. تم تخصيصه لمنتسبي الجيش العثماني في العراق.. وكان يديره الأطباء العسكريون الملتحقون بالوحدات العسكرية العثمانية في العراق..
ـ وفي العام 1901 أنشأ الوالي نامق باشا الصغير مستشفى مدني ثاني في بغداد.. واشتمل على عدة أقسام (باطنية.. جراحية.. عيون.. نسائية).. وردهات خاصة للعمليات.. وقسم خاص للمجانين.. إضافة الى صيدلية ملحقة بها..
ـ وفي العام 1910 افتتح مستشفى أهلي في بغداد شيدها احد أثرياء اليهود ويدعى مستشفى (مير الياهو الياس).. حيث عُدٌت من أفخم المستشفيات وأكبرها آنذاك..
ـ وفي العام 1912 أفتتح مستشفى (دار المعلمين).. كذلك مستشفى (السبع أبكار).. التي أخذت تستقبل جرحى الحرب العالمية الأولى بشكل يومي..(أي وجود ستة مستشفيات متواضعة في بغداد حتى العام 1910)..
ـ أما ولاية الموصل فحتى ثمانينيات القرن التاسع عشر بلا مستشفيات.. حيث تم افتتاح أول مستشفى في ولاية الموصل العام 1844..
ـ وبقيت ولاية البصرة بلا مستشفى أو مركز صحي حتى أواخر القرن التاسع عشر.. حين تقرر جمع التبرعات من الميسورين لإقامة مستشفى تضم عشرين سريراً.. ودار للعجزة تكفي لإيواء (20) عاجزاً.. وجرى افتتاح المستشفى العام 1890.. وسميت بـ (مستشفى الغرباء).. في محلة عز الدين بالبصرة..
ـ وكانت في البصرة مستشفى البحرية العسكري.. في منطقة الصالحية بشط العرب.. التي اتخذت أيضاً مركزاً للحجر الصحي..
ـ كل هذه الأوضاع غير الصحية في العراق أدت لانتشار كثير من الجراثيم والمكروبات التي تسبب الأمراض.. وهكذا ينطبق على العراقيين آنذاك المثل القائل: (الطايح.. رايح)……(تماماً كما هي الحال الآن.. فقط نختلف في الأخلاق.. فكان أجدادنا يحترمون الطبيب لدرجة التقديس.. أما نحن اليوم فأبسط الأمور نشتم الطبيب.. ونضربه.. ونختطفه.. ونأخذ منه فدية لنطلق سرحه.. بل قد نقتله بلا أي سبب)..
ـ لقد أصبح انتشار الأمراض الوبائية في كل الولايات العراقية ليس مستغرباً.. تلك الأمراض التي كانت تفتك بالسكان فتكاً ذريعاً.. فعلى سبيل المثال لا الحصر.. تفشى في بغداد وباء الكوليرا (الهواء الأصفر) في الأعوام : 1820 و1830 و1865 و 1870 و1871 و 1881 و 1889 و1893 و 1916 و 1917..
ـ فيما تفش الطاعون في بغداد أيضاً وبشكل وبائي في الأعوام : 1783 و 1802 و 1831 و1867 و1874 و 1875 و 1877 و 1881 و 1882..
ـ ناهيك عن الأمراض المعدية الأخرى: كالجدري.. والتيفوئيد.. والدزنتري..
ـ أما الأمراض الجلدية فانتشرت هي الأخرى.. خاصة أيام الشتاء الباردة..
ـ هذه الأوبئة تفشت بشكل أكثر في ولايتي الموصل والبصرة أيضاً..
ـ ولم يكن أمام السكان للوقاية من هذه الأوبئة سوى الهروب من المدن الموبوءة إلى أماكن أخرى خالية من المرض.. فعلى سبيل المثال: عندما تفشى مرض الطاعون في بغداد العام 1876 اضطر أهلها إلى ترك المدينة.. والإقامة في مخيمات في الصحراء وخارجها..
بقيً أن نقول: إذا كانت الحروب.. والغزو.. والطائفية.. والإرهاب.. والاختطاف.. وداعش.. تقتل العراقيين الآن.. ففي العراق العثماني كان يقتل العراقيين المجاعة.. والقحط.. والأمراض والأوبئة.. والفيضانات المدمرة .. (إلك الله يا عراق)..
ملاحظة: انتظرونا: قصة وطن.. الحلقة الرابعة: (الفيضانات في عراق العهد العثماني)..