18 ديسمبر، 2024 11:47 م

وقفة مع عوالم شعرية طالب عبد العزيز

وقفة مع عوالم شعرية طالب عبد العزيز

سريالية الدال بين الترابط الخطابي و الإيحاء الرمزي ( 7 )
توطئة : إن الحديث حول الرمزية في القصيدة الشعرية يدفعنا نحو حسية التمثيل لها بحالة الإحالة المرتبطة بظاهرة السياق الاستبدالي .. الذي هو ليس ببعيد في الواقع عن نمطين آخرين هما الإحالة على الداخل و الإحالة على الخارج النصي .. فإذا أحيل النص المراد تأويله على معنى غير مباشر يرتبط بالنص ذاته .. فإننا نكون حينئذ إزاء ما يسميه النقاد ( الرمز الضمنصية ) . أما إذا أحيل النص على معنى بعيد عنه .. خارجه .. فإننا غدونا نتحدث انئذ حول الرمزية الخارنصية . فالرمزية على أية حال و في تشعبات آفاق نصوصها يمكن التمثيل لها بحالة الشاعر الذي يضطر قارئه إلى الاهتمام باستخلاص صفات الذوات الشعرية من خلال عوالمه .. و انطلاقا من أفعالها و مداليلها و أقوالها الاحوالية و الشيئية .. ذلك بدلا من أن يقوم الشاعر نفسه بوصفها للقارىء بصورة انطباعية و نقلية و انشائية رخيصة .. و تبعا لهذا الأمر نجد بأن جملة موجهات الوصول و العبور نحو النص تبدو ماثلة في مؤشرات معنى النص نفسه.

1ــ داخل النص أو خارجه في السيرورة التدليلية :
إن موضوعة المعنى في النص الشعري تقوم أصلا على أساس من العناصر اللغوية التي تعد الأولى في مهام تشكل بنيات المتن و أقوال دلالات النص نفسه .. لذا نلحظ إن قراءات النص تعتمد أولا و أخيرا على مجليات المعطى الخطابي الكاشف و الواصف لجل حيثيات صورة الانطباعات النواتية الأولية و الآخروية المتوالدة عنه .. ضف إلى ذلك إن النص الشعري غدا مشتملا على موجهات و مؤشرات ( داخلية / خارجية ) واضحة أو غير واضحة أحيانا ــ حيث لا يمكن سبر أغوارها أبدا دون معرفة مسببات تحولات عامليتها الرمزية والتأويلية الغير مباشرة في حقيقة ذاتها المنتجة لمقاييس الطاقة الإيحائية ــ الرمزية ، أي أن يكون ذلك المعنى المتآتي من الداخل و الخارج يشكل في ذاته امتلاكا عاليا من حيز الدقة و الأبعاد و اللاثبات و اللاخطية في أتون محددات علاقاته الإرسالية و بصورة معقدة و غامضة ومستغلقة :

أغويها ، بالمطر النازل من الليل ،
بالشمس المبذولة في الباحة كل صباح ..
بالزهر الكاذب و أصباغ جدران .

إن فعالية القراءة لجمل هذه المقاطع الشعرية لربما تقودنا نحو الاتجاه الأول الذي يمس استراتيجية المؤول الترميزي , الذي يقوم بتقييد الخطاب القصدي في النص بفعل توالد المعنى المباشر و كبحه داخل ارتباطات أفضلية الإيحاء الرمزي و لغته المتجاوزة دليلا .. فالدال القصدي يتخذ من فعالية دال ( أغويها ) مدخلا استهلاليا محفوفا بتقادم مؤشرات رمزية فاعلة : ( المطر / النازل ) الأمر الذي يتطلب من الوظيفة الارسالية في حالة نزول المطر تعليلا اتجاهيا من شأنه الاستجابة مع موضعية المسند المؤول من زمن دال ( الليل ) و لكن هل هناك في منزلة هذا المعنى من طبيعة ما تخص تقييد دلالة المؤشر الترميزي في جملة المقطع الشعري ؟ نقول بلى خصوصا وان الأسباب و الوظيفة البنائية في جملة المقطع الاستهلالي في النص قد جاءتنا بأفعال الأكثر انشغالا بمعانيها النواتية الأولية المغيبة في ضمير الخطاب .. مما جعلنا في الآن نفسه نحتاط لها بذلك الشكل المتعلق بالتأويل المتصل بالمعنى المجازي : (بالشمس المبذولة في الباحة كل صباح / بالزهر الكاذب و أصباغ جدران . ) من خلال نموذجية هذه الإرساليات اللاحقة من النص ، نلحظ ثمة فاعلية تشكيلية خاصة لدى الشاعر ، في تحويل ممكنات العلاقة المتخيلة رمزا ، إلى مستوى رسوميا متداخلا ، و حدود تشكلات دلالة القابلية السريالية الإيحائية لديه . فالشاعر أضحى لنا في مقاطع نصه ، يداخل الوحدات الترميزية ، داخل أواصر مجردة وصفا ، و طبيعة مداليل دلالات : ( الشمس المبذولة ــ في الباحة كل صباح ــ بالزهر الكاذب ــ و أصباغ جدران = ممكنات = العلاقة = الإيحاء = المؤشر ) لاشك في إن هذه الاشارات التي اكتظت بها وجوه المقاطع الشعرية ، تفضي بالمعني الداخلي و الخارجي ، من المتن الخطابي ، و باستبدالات مليئة بمستويات الإحالات الترميزية و الإيحائية ، وصولا الى مستوى ارتفاعها بمستوى التوظيف الرمزي و المجازي ، إلى فضاءات دلالية خصبة ، من السلطة السريالية في معنى منعطفات التشكيل و التماثل القصدي .

2ــ الدلالة السريالية و التحريض النصي :
هناك طريقة ثالثة وجدناها في تجربة طالب عبد العزيز ، و بخاصة في مجموعة ( تأريخ الأسى ) و مجموعة(تاسوعاء)و مجموعة (الخصيبي) حيث باتت هذه الطريقة و المعروفة بالوظيفة السريالية ، و التي أخذت لذاتها موضعية المنزلة الثالثة ، من بعد الوظيفة الرمزية و اللغة الإيحائية المتجاوزة لديه في القصيدة . و هذه الوظيفة السريالية المتكونة من الصورة و التشكيل ، باتت ترتكز على نص الشاعر بموجب تسميات الأشياء و المقاربات و الحالات التوصيفية ذات العلاقات الشكلية المجردة ، و المخصوصة في الآن نفسه ، باستدعاءات المعنى الغير مباشر ، و الذي جاءنا بنفس الرمزية الضمنصية ، إلا أنها ذات صفات و رؤى حاملة لتشكيلية مغايرة ، و حدود بنائية تقترب من عوالم التقاطعات النصية المتداخلة .

أخر انتظار لقطار لن يأتي ..
أفكر بليلهم الذي أنقضى قصيرا
بالشمس عارية ،
تتسلق النوافذ مع البلاب و الستائر .

من هنا نعاين بأن الخطاب القصدي بات متقاطعا ، و كأنه موجهات لوحة سريالية ، تأخذ المعاني العديدة التي يحملها ملفوظا ما ، بالقوة التركيبية من المعاني اللامتحققة في مستوى ترابطات المقاطع الإيحائية ، كمثال حال هذا القول : ( أخر انتظار ــ لقطار ــ لن يأتي / أفكر ــ بليلهم ــ الذي انقضى ــ قصيرا ) هنا من الضروري التفكير بالمعنى الآخر ، بعيدا عن اطلاقيات الرمزية القصدية في جملة ( أخر انتظار لقطار لن يأتي ) و الاهتمام بالمعنى المتصل في مستوى دلالة التوصيف في جملة ( بليلهم الذي أنقضى قصيرا ) و بالتحديد أيضا الجملة اللاحقة من النص (بالشمس عارية ــ تتسلق النوافذ ــ مع اللبلاب و الستائر .) إن القارىء لهذه الأسطر الشعرية لربما يشعر أنه إزاء لغة سريالية . فالقارىء لها كلما يفكر بشكل قصدي بشأن مشروطية هذه الجمل من التوصيف ، حيث إنه يجدها حينا تشكل رمزية توصيفية ما ، و حينا أخرى يجدها سوى شعرية تقاطعية الموجه و الاتجاه ، فيما تنحو بذاتها منحى حلميا أو لا شعوريا تماما . بل أنها ترتبط بموجهات الموضوعة السريالية المتشكلة بموجب قصديات التقاطع و الاختلاف في تكوين صور الأشياء . و هذا الأمر بدوره ما صار يذكرنا بما جاء به بروتون في قوله عن الصور السريالية : ( الصور السوريالية كمثل صورة أفيون التي لا يعود الانسان يستحضرها بل تأتيه من ذاتها تلقائية طاغية .. و أنه لا يستطيع صرفها إذ تغدوا الإرادة لا قوة فيها ولا سيطرة لها على القوة .. و ذلك نتيجة اللاشعور و اللاقصدية التي تسود عمليات التخييل المجازية . )

ــ التناظر الدلالي في فضاء النص المترابط :
النص الشعري و حالات هذه العنونة ، يقدم ألينا كأستعارة كبرى تنبني على تمظهرات أسلوبية ، و وظيفية خاصة ..يمكننا تفكيكها و تحليلها من الداخل ، ضمن حقول واسعة تتصل بين شيفرة العلامة و قابلية الرمزية ، و هذا الأمر ما ساعد نصوص الشاعر طالب عبد العزيز ، نحو خلق ظواهر متعددة في أسلوبية قصيدته . فشعر هذا الشاعر ، حالة من حالات التوتر الدلالي ، يكون فيه النص الشعري محفوفا بكثافات إيحائية و رمزية ولغة انزياحية و أبعاد تقاطعات سوريالية لا حصر لتعدد مضماراتها و اختزالاتها في النص الواحد .

 

1ــ التناظر الدلالي / النص المترابط :
إن القدرة و الامكانية المتاحة في نصوص عوالم شعرية المبدع طالب عبد العزيز ، لا يمكن لقارئها اطلاقا ، استخلاص أهم سمات مفاصلها الدلالية و مواطنها الجمالية الكبرى ، لاسيما و أن جميع مصادر هذه التجربة و مواردها لم تكن مباشرة في دلالاتها ، و تضاريس رؤى أفكارها ، بل من المفيد لنا القول و إلى القارىء بأن هذه التجربة تشمل مساحات متينة من الأفكار و الرؤى و التصورات الإبعادية و الاستدعائية . بل أن لطالب عبد العزيز لغة ثانية ( خفية / سرانية ) زد على هذا فأن للشاعر خلايا شعرية إختلافية في القول و المقولة و القصدية و التوصيف و زوايا كاميرا الرؤية . كما أن عملية الخوض في عوالم قصيدته تقودنا بالتعريف لها ، بأنها شعرية تتصف و حدود آفاق ( النص المترابط ) الذي يشكل بدوره مجموعة من الوظائف الأسلوبية و البنائية ، كالرمزية والإيحاء المكثف و الحلمية و السوريالية و الانزياحية و المجاز المضاعف و التقاطعات الانتقالية التي تتم بين أنفصالية المحاور التشكيلية أحيانا بين محاور و بصورة يبدو الخطاب من خلالها و كأنه تصورات و علامات غير مترابطة أطلاقا . ففي كل هذه الأساليب و التداخلات الوظائفية لدى قصيدة الشاعر نجد هناك ثيماتية الضربة المضمونية في عمق حياة دوال القصيدة وصولا منها إلى اتجاهات بنية ( التناظر الدلالي ) و حديث الروح الشاعرة ، في خلق عضوية الأشياء و أحوالها القولية . فالبنية التناظرية في قصيدة الشاعر إجمالا ، نلحظ بأنها عبارة عن فضاءات مركزة الحساسية و الرؤية ، فمن خلالها يتاح للقراءة الإسقاط و الإلماح و المكتسبات النفسانية المغايرة ، و المبثوثة في مركبات المحاور الشعرية . و من أمثلة هذا النمط قول الشاعر في قصيدته ( صورة العائلة ) :

الذي أبحر من الفاو إلى سومطرة ، قبل
ثلاثمائة سنة ، جدي لأبي
والذي تمزقت غيمته في عدم ،
و مات عقابه هناك
هو عمي الثالث عشر
أمي التي حملها أبي في سفينته ،
من لاهور ،
هي التي فقدت قرطها على الطريق
قبل أن تموت في عبادان ..

فالناتج المدلولي هنا هو ( النص المترابط ) حيث نتج عن إضاءة مسارات بنى التدليل الميتاشعرية في الأسطر الشعرية ، بوساطة الإسقاط و الألماح و الأخبار و التوصيف و الأسطرة و تلك اللغة المفعولية المتقادمة نحو طرف (التناظر الدلالي / الأختلاف الدلالي / التقاطعات المرجعية ) . فالشاعر هنا راح ينقل حالات صوره الشعرية بوساطة مواقف ذاكراتية ، أو من خلالها قد تم تحول وجه التبادل الدلالي بين الذاكراتية وصولا إلى شواهد استرجاعية مؤسطرة ما . و من اللافت للنظر هنا ما قد قاله ماكاروفسكي في مناقشته لمشكلة العلاقات بين اللغة القياسية و اللغة الشعرية ، حيث قال : ( إن الارتباط الوثيق بين هذين المستويين اللغويين يتمثل حقيقة في إن اللغة القياسية هي الخلفية التي ينعكس عليها الانحراف الجمالي المتعمد في اللغة الشعرية ) . بمعنى ما إن وجود اللغة القياسية في عمل شعري ما يساعد على إبراز ذلك الإنحراف الجمالي ، الذي وجدناه في عوالم النص المترابط و سوريالية الدال الترابطي الذي راح بدوره يغم الخطاب القصدي في النص بموجب موجهات تناظرية الدلالات الانزياحية الترميزية و المجازية الكبرى ، في بنيات النص الشعري في عوالم تجربة هذا الشاعر الفريد .