ابتدأ سرمد الطائي مشواره الإعلامي والصحفي عبر شاشة قناة “الحرة – عراق” الغراء، القناة الرائدة في العمل الاعلامي الرصين من داخل العراق في اشد ظروف العراق صعوبة وخطورة. وكان سرمد الطائي احد الآباء الاوائل اللذين اسهموا في تحديد معالم القناة المذكورة، فقدموها لنا قناة مستقلة ورصينة ذات نفس علماني نقي في خضم استقطاب عرقي وطائفي مصحوب بعنف جارف.
اما محطة سرمد الثانية فهي صحيفة العالم الغراء التي لم تكن بعيدة عن قناة الحرة، حيث اكتشفنا من خلالها قدرات سرمد ككاتب صحفي مبدع متعدد الاهتمامات مع بعض الغلبة للسياسة طبعا. وأوْلى الطائي البصرةَ، ثغر العراق ومكمن رزقه، اهتماما كبيرا، فنقل لنا تطلعاتها وهمومها، وصرنا نتحسس عطش البصرة وعطش اهل الفاو بالذات وضيم صياديها ومعاناتهم. وكنتُ مع نفسي أسمّيه سندباد البصرة او سفير البصرة في بغداد.
الشيء الذي اسهم في نجاح تجربتيْ “الحرة” و”العالم” أنّ راعِيَيْ المؤسستين، على اختلافهما، كانا بعيدين تمام البعد عن تحقيق اية منفعة خاصة وما كانا مهتمّيْن بالترويج لحزب او عقيدة، بل ان جـُلَّ ما سعت له المؤسستان هو الحقيقة والوسطية، هذا ما بدا لي على الاقل. إنّ عفـّةُ الممول وتعففه عن استثمار مؤسسته الاعلامية لأغراض شخصية يمنح العاملين هامشا عاليا من الحرية والمبادرة والمصداقية.
وبعد رحلة علاجية الى بيروت في بداية السنة الحالية، عاد الطائي ليطل علينا من خلال جريدة “المدى” التي تختلف كثيرا عن المؤسستين الاعلاميتين اللتين عمل فيهما الطائي سابقا في كثير من الوجوه، فصاحب المدى، السيد فخري كريم، هو رجل اعمال احترف الاستثمار في مجال النشر والإعلام، ومؤسسة “المدى” لا تعدو عنده عن محطة استثمارية يبغي من خلالها تعزيز ثروته ومجده وطموحه الشخصي. واليوم لا يختلف اثنان على أن “المدى” رهينة إرادة اربيل لا غير، فحيثما مالت اربيل تميل “المدى”، فهكذا شاءت إرادة ولي امرها. وتبعا لذلك؛ فعلى العاملين فيها أن يروا ما تراه اربيل، وأن يتجنبوا كل ما يغضبها، وأن يعادوا من يعاديها ومـَنْ تعاديه. كل شيء في “المدى” يذكرني بجريدة الشرق الأوسط السعودية التي يخضع عاملوها لنفس الشروط، حيث لا يجوز مس الجهة الراعية بأي سوء. أي إن المدى والشرق الأوسط قد حجبتا احد الاتجاهات الاربع عن اعين الصحافة الناقدة.
لم تقتبس اربيل تجربة جريدة الشرق الأوسط فحسب، فأسلوب إدارة الحكم في كردستان يكاد يقترب من اسوأ انظمة الحكم الملكي في الشرق الأوسط، فالأب رئيس للإقليم، والابن رئيس لجهاز الأمن الرئاسي والاستخبارات، وزوج البنت رئيس للوزراء، ثالوث يذكرنا بثالوث صدام وقصي وحسين كامل. ويكاد لا يمر مشروع أو مقاولة أو عقد سواء كان طرفه الآخر محلي أو اجنبي دون أن يدفع المعلوم لنافذ في السلطة أو في الاسرة (العشيرة). وهذا ليس من عندياتي ويسهل تقصيه من خلال أي مستثمر في اربيل.
والطريف أن كل الانظمة المستبدة القائمة على أساس العائلة والعشيرة هي افضل انظمة المنطقة اداءا على صعيد البناء والاستقرار.
لن يصدق احد في عالم اليوم أن هناك مشروعا يحد من المعرفة ويخفي الحقيقة قادرٌ على الاستمرار، ولن يكتب النجاح لمؤسسة ثقافية أو اعلامية تبني ستراتيجيتها على غلق الافاق وقتل حب الاستطلاع وإرادة التعلم. وسيتكفل التقدم التكنولوجي بالحد من سطوة السلطة وتعسف راس المال. وحين سيتحقق ذلك ستتحرر الشعوب من سطوة القهر والتخلف اللذان رزحت تحتهما لدهور طويلة.
لقد كتبتُ الرسالة التالية للطائي: «لدي استفسار ارجو ان لا تستغرب منه او تستهجنه، وهو سبب تركك لوسائل اعلام حرة (نسبيا) كالعالم والحرة وانتقالك انت وكوكبة من خيرة الاقلام العلمانية النزيهة الى جريدة المدى التي يملكها السيد فخري كريم الذي عليه ما عليه». وأضفتُ «اذا سمح لك وقتك بالإجابة، فإنني سأستخدم اجابتك في مقال انوي كتابته بعد استلام ردك. وسأتقبل الامر بروح رياضية اذا لم ترد لأنني اعرف الزخم الهائل من الرسائل الذي يستلمه صحفي مشهور مثلك».
وقد اجابني بمنتهى الكرم قائلا: « نتنقل باحثين عن فرصة لقول ما لدينا. الحرة خسرتنا والعالم خربت والمدى فسحة حرية كبيرة وفخري كريم فارس جدير بالمتابعة.. شكرا لثقتك الغالية».
لقد قدم الله تعالى لآدم وحواء جنة عرضها السموات والأرض على أن لا يأكلا ثمر شجرة واحدة فحسب. إلا انهما (ادم وحواء) خالفا أمر الله، وكان أول ما اقدما عليه هو انهما تذوقا ثمر تلك الشجرة، دافعهما في ذلك هو رغبة الاكتشاف وإرادة التعلم اللتان زرعهما الله فيهما.
لم ابث أي شيء بين السطور، وأنا لست بوارد التعريض بسرمد الطائي أو النيل من يراعه النزيه الشجاع الذي يواصل بعزيمة لا تلين في كشف ضعف الاداء الحكومي. ولكني اعتقد أن شخصا مفعما برغبة الاكتشاف ومدافعا لا يلين عن الحرية كسرمد الطائي، لا يمكن أن يعمل في بيئة منحازة وتحجب احد الاتجاهات الاربع.