من تضحية الإمام الحسين عليه السلام وعزة نفسه، إلى صبر السيدة زينب عليها السلام وعفّتها ورباطة جأشها، وصولاً إلى إيثار العباس عليه السلام ووفائه، كلّها دروس تعلمناها من عاشوراء، تربينا عليها وغيرت الكثير من سلوكياتنا الحياتية. فمدرسة عاشوراء التي نحيي مجالسها كل عام هي التي تربى عليها المجاهدون، وتخرج منها الشهداء، واقتدى بها آباؤهم وأمهاتهم, يوم واحد كان كفيلا بإعطاء العالم أجمع، وليس محبي أهل البيت فحسب، بل أعدائهم أيضاً أو من كان يجهلهم، منظومةً متكاملةً من القيم والدروس والعبر يحكيها أبناء كل جيل لأبناء الجيل التالي.
أما عن القيم التي أوصلتها إلينا مدرسة عاشوراء فهي منظومة إنسانية متكاملة, بما تنطوي عليه من دلائل ومؤشرات، على رأسها رفض الظلم ومقارعة الطغيان بما جسده الإمام الحسين عليه السلام في ثورته العظيمة، إلى جانب حرية الرأي والفكر التي يجب على الإنسان أن يدافع عنها كي لا يتحول إلى آلة لا رأي لها. هذه الحرية ومقارعة الطغيان لم يكونا يوماً محصورَين بأتباع الإمام الحسين عليه السلام، فهذا غاندي يقول قوله المشهور: “تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر”. كذلك، فإن الصبر والتمسك بطريق الحق ونبذ الخوف والتردد، والمضي قدماً في مواجهة الظلم والطغيان هي أعظم دروس نتعلّمها من عاشوراء القيم والعبر، حيث تمتد إلى الأفراد أنفسهم، فيتعلّمون كيف يعيشون الحق في وجودهم، وكيف يحاربون الظلم في نفوسهم وكيانهم كي لا يصبحوا هم أنفسهم ظالمين ومفسدين، بل أن يكونوا متعاطفين متوادين متحابين فيما بينهم كالإخوة وكالجسد الواحد، كما كان الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه في كربلاء.
قبل سنواتٍ، حين عاد بعض المهجرين المتدينين من لندن، حملوا معهم دعوةً للمشي على الجمر في محرم، بدل أن يعودوا مشبعين بالدعوة إلى العدل وحكم القانون والمساواة واحترام حقوق البشر. عادوا دعاًة لتطبيق أبشع ما أنتجته الديانة الهندوسية من ممارسات شاذة، وهذا العام نشرت إعلانات للمشاركة فيها. لقد أصبح المشي على الجمر المستوردة من الهندوس، شعيرة مقدسةً عند بعضنا، وعلى الجميع أن يسكت، فالحسين هو الجدار الذي يقبل أن تلصق به كل الإهانات, مدرسة عاشوراء المدرسة الإسلامية العريقة التي كانت تتفاخر بأصالتها واجتهادها، وقدم علماؤها أطروحة «البنك اللارِبَوي في الإسلام» في السبعينيات، فيما أغلقت المدارس الأخرى أبواب الاجتهاد منذ ألف عام، تصاب في آخر أيامها بمرض التقليد القاتل، بعد غياب جيل المراجع والخطباء الكبار، فتبرز هذه الظواهر التي تسيء لأكبر ثورة بيضاء في التاريخ، ولأكبر ثائر على الظلم والاستبداد, في كتاباته، درس منظّر الثورة الإسلامية علي شريعتي، مصدر «ضرب القامة»، كعالم اجتماع، وأعاده إلى جذوره أيام الدولة الصفوية، حين عينت وزيراً خاصاً للشعائر الدينية، لأسباب سياسية بحتة، في خضم صراعها مع الدولة العثمانية, وكان الوزير يزور أرمينيا شمال إيران، واكتشف هذه الممارسة لدى المسيحيين، فأدخلها في موسم عاشوراء، لتتحول إلى «شعيرةٍ» دينية، لها من القداسة والرسوخ ما يجعل كتّاباً وخطباء ورجال دين يدافعون عنها حتى اليوم، بكل حماسة وإيمان.
هل تعرفون الآن لماذا يُبدع المفكرون المسيحيون, ويجلون حين يكتبون عن الحسين، فيأتون بالمعجز من البيان نثراً وشعراً؟ أما حين نكتب نحن عن الحسين فنصوره في هيئة رجل منهار يبكي في كل موقف، واختلق شعراؤنا أطناناً من الأبيات الركيكة التي لا تليق بمقام رجلٍ هو أول من قال: «هيهات منا الذلة», إنه نداءٌ لكلّ من يهمه أمر الدين والعقل: قبل أن تتحوّل ملابس منظمة «كلوكس كلان» العنصرية إلى شعيرة مقدّسة، خصوصاً علماء الدين المكلّفين بقول كلمة الحق، في وجه هذه الفوضى التي تعبث باسم الحسين.