رغم المعارضة الشديدة من الدول المعنية مباشرة بمسألة الاستفتاء المزمع إجراؤه في إقليم كردستان العراق في الخامس والعشرين من شهر سبتمبر الجاري وهي تركيا وإيران والعراق إلى جانب سوريا، ورغم عدم «موافقة» و«تحفظ» دول أخرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية والعديد من الدول الأوروبية على هذه الخطوة الكردية، فإن قادة الإقليم ماضون قدما نحو تنفيذ هذا الاستفتاء الذي يعتبر خطوة تمهيدية على طريق انفصال إقليم كردستان عن العراق، تحقيقا لحلم قديم رفعه قادة هذا الإقليم وخاضوا من أجله صراعا دمويا مع مختلف الحكومات التي تعاقبت على حكم العراق، وكان أشدها خلال حكم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين إلى أن جاء حصار العراق الظالم بعد غزوه لدولة الكويت الشقيقة ومن ثم غزو الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها للعراق والذي مهد الطريق سالكا أمام الحلم الكردي.
فالإصرار الكردي على الاستفتاء، رغم المعارضة الشديدة والحاسمة لمسألة قيام دولة كردية مستقلة في الشمال العراقي، و«تحفظ» دول مؤثرة كالولايات المتحدة والدول الأوروبية، إنما ينم عن وجود ضوء أخضر غير «مرئي» صادر من جهة مؤثرة وقوية هو الذي يشجع أكراد العراق على المضي قدما في هذه الخطوة التي من شأنها بكل تأكيد أن تشعل صراعا جديدا، ليس في العراق فقط وإنما في أكثر من دولة من دول الجوار العراقي، حيث تتواجد أقليات كردية لا بد أن تتأثر بخطوات أشقائها أكراد العراق، وهو ما ظهرت ملامحه خلال تحركات أكراد سوريا المشغولة بحرب أهلية وتدخلات إقليمية ودولية متعددة الجنسيات منذ أكثر من ست سنوات.
فأكراد العراق يعلمون جيدا أن «التحفظ» أو «الرفض» الصادرين عن الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية لا يرقى إلى مستوى الموقف المبدئي من مسألة استفتاء وانفصال إقليم كردستان عن شمال العراق، فهذا «الرفض» أو «التحفظ» لا يعدو كونه موقفا مجاملا للأًصدقاء الأتراك والعراقيين بالدرجة الأولى إذ من الصعب على الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية المجاهرة بتأييد خطوة أكراد العراق الانفصالية، وخاصة أن هذه الخطوة إذا ما تحققت أهدافها، أي إقامة دولة مستقلة كردية شمال العراق، لن تتوقف عند هذه الحدود الجغرافية لأن حلم الدولة الكردية يمتد إلى إيران وتركيا وسوريا أيضا.
فالتوجه الكردي، وخاصة في شمال العراق، حظي بدعم غربي وأمريكي منذ زمن طويل، وأسهمت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في وضع اللبنات القوية لدولة شبه مستقلة في شمال العراق خلال سنوات الحصار الذي ضرب على العراق مدة تزيد على ثلاثة عشر عاما، حيث أخرجت جميع مؤسسات الدولة العراقية من الإٌقليم، ما حفز نزعة الاستقلال لدى أكراد شمال العراق إلى جانب ما تعانيه الدولة العراقية من ضعف وتشتت وانقسام ومواجهات للجماعات الإرهابية التي تدفقت على العراق بعد جريمة الغزو الأمريكي عام 2003.
في السياق ذاته يجب ألا ننسى دور الكيان الصهيوني في تأجيج نزعة الانفصال لدى أكراد شمال العراق، حيث قدم الكيان كل أشكال الدعم للحركات الكردية أثناء حربها ضد الحكومة المركزية في بغداد خلال سنوات حكم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين وما قبله، ذلك أن مصلحة الكيان الصهيوني تكمن في تجزئة وتقسيم العراق وإضعافه، وخاصة أن العراق وتحديدا خلال سنوات الحكم الوطني والقومي، شكل حجر زاوية في مثلث القوة العربية إلى جانب مصر عبد الناصر وسوريا للتصدي ومناهضة للمشروع الصهيوني في المنطقة العربية، وهذا الدعم لم يتوقف بل تصاعد واستمر بعد سقوط نظام صدام حسين.
إذن، فالرفض الثلاثي التركي العراقي الإيراني لتوجهات أكراد العراق نحو الاستفتاء الممهد للانفصال، لم يوقف عجلته، مع أن الدول الثلاث قادرة على شل أي دولة كردية مستقلة في الشمال العراقي إن هي صدقت وأرادت ذلك، وكما هو معلوم ومعرف، فإن الرفضين التركي والإيراني وإن اعتبرا الاستفتاء انتهاكا خطيرا للدستور العراقي وتهديدا لسلامة ووحدة الأراضي العراقية وإعلانهما رفض ذلك رفضا قاطعا، فإن موقف الدولتين ليس نابعا من حرصهما على العراق ترابا وشعبا واحدا، وإنما لدرء ومحاصرة خطر انتشار نزعة الانفصال الكردية ووصولها إلى أراضي البلدين.
هذه المخاوف التركية والإيرانية قد تشكل عائقا، ربما مؤقتا، أمام طموح الانفصال الكردي شمال العراق، لأن البلدين لن يقبلا تهديدا مباشرا لوحدة وسلامة أراضيهما، إلا في حالة واحدة وهي أن تقدم الولايات المتحدة الأمريكية وحفاؤها الغربيون والكيان الصهيوني أيضا، تعهدا بإعاقة ومقاومة أي توجه كردي لتوسيع «الدولة» الكردية في الاتجاه التركي، عندها قد تلين تركيا من موقفها المناهض والرافض لدولة كردية في شمال العراق، فمصلحتها الوطنية فوق كل الاعتبارات، ويبقى ما هو مؤكد حتى الآن أن الأكراد العراقيين يرون ضوءا أخضر ساطعا ينير طريقهم نحو تحقيق حلمهم التاريخي، بدءًا من شمال العراق كمحطة أولى تليها محطات أخرى أقربها المحطة السورية