نَظرت إليه من بعيد ، كان غارقا في صمته ، مهموما كعادته بأزمات حاضره ، قلقا من مما يخبئه المستقبل المنظور، هي تُدرك جيدا عمق إنشغالاته بالشأن العام ، وعِظَم مايشعر به من مسؤولية تُجاه مواطنيه ، أما اليوم فهي تقرأ في محياه المتغضن شيئا آخر، كدلالة تشي بتبرمه وإحباطه من بطىء المسير ، وشكواه المرة من ضعف الإمكانات وغياب الكوادر، فأرادت أن تربت على همومه وتخرجه من صندوق أحزانه، وحين رآها مقبلة إنتعشت روحه ودبت بها الحياة من جديد . فبادرته تستحثه على الحوار لعله يُنفس عما يجثم على صدره من هموم ، فقالت له تخاطبه بصوتها الحنون وبرفق يشبه الهمس :
– هوّن عليك يا شهريار ، وأدفع عنك طوفان القلق الذي يحاصرك ، وأنظر الى الجانب المضيء ، ونوعية الخامات البشرية التي يختزنها عراقنا الحبيب.
– وهذا مايحزنني ياشهرزاد ، مجرد خامات ، غاب عنها الصائغ الحاذق ، فتُركت يعلوها الصدأ ويُعشش فوقها عنكبوت الخراب.
– أحست بما يحيط بكلماته من حسرة ، فإستدركت مُبررة ، ولكن لاتنس ياعزيزي ، إن الزمن جزء من العلاج.
– فأجابها بضيق ، أعرف هذا ، ولكن متى نبدأ؟ أخشى أننا الآن على وشك الدخول في متاهة جديدة ياشهرزاد.
– فلم يكن أمامها من سبيل سوى تحفيزه ، قائلة الأمل معقود بك أنت وبأمثالك من البناة ، فأنتم من ستحولون هذه الخامات الى مهارات يستند إليها الوطن في قابل أيامه.
– لا أخفي عليك ياشهرزاد ، كاد صبري أن ينفد. فمتى يبزغ فجرنا الحضاري ؟ وتشرق شمس تنميتنا ، وننعم بالسلم الذي ينعش قلوبنا التي أظمأها هجير البدائية والظلام.
– أجابته بتأنّ، وحرصت أن تفصل الكلمات عن بعضها، لمّا أحست بما يعتمل بقلبه من هموم ، لا ينبغي أن يتسلل الى جنبيك اليأس، كن على يقين أنت وأشباهك البذور لمستقبل مزدهر.
– أرجو ذلك ، ولكني أتساءل بقلق ؟ نفوسنا أكثر من ثلاثين مليون نسمة ، أخبريني ياملهمتي كم هو عدد البناة فيهم؟
– لا أكتمك عددهم قليل ، ولكن مايمدني بطاقة التفاؤل أن شبابنا بدأ مسيرة البحث عن مخرج ؟
– ماذا تعنين ؟
– ألا ترى ؟ ألا تشعر بحراكهم العلمي ، وشغفهم المعرفي ، هم يستخدمون المتاح / مواقع التواصل الإجتماعي / الفعاليات المدنية وغيرها من أجل إيقاد شمعة الأمل للغد المأمول .
– وهذا ما يمنحني بعض العزاء من نكد الواقع البائس ، فبطلعتهم البهية تقر عيني، وتسابقهم في مشاريع العطاء يبل جوانحي ، ماأسعد حدائقنا بتجمعهم ياشهرزاد ، الآن أدركت أنهم يسيرون على سكة الشروع الحضاري.
– أول الغيث قطرة ثم ينهمر.
– وأنطلقت أساريره وفكت عقدة لسانه فبدأ يهدر ، الألفة مع الكتاب وتجسيرالعلاقة معه ، هي الخطوة الأولى على طريق الألف ميل .
– أحسنت ياشهريار ، شعب لايقرأ مجموعة من القطعان يسوقها الجزارون الى حتفها ، تحت أسماء ومسّميات شتى، فالقراءة مناعة ووعي ويقظة.
– كلي أمل أن هذه الخطوة سيبتدأ بعدها عصر التنوير العراقي ، الذي ستنقشع به ظلمات الخرافة والإستبداد.
– بل كلي يقين ياشهريار ، أن شبابنا سيهضمون الأفكار بما يحقق تشخيصا أدق لواقعهم ، وتعميقا لرؤاهم وتوسيعا لخياراتهم.
– شهرزاد ، أسكبي في روحي الضمأى اليقين ، وأنبيئيني ، هل سيفعلونها ، ويعرقنون الرؤى والأفكار بما يتناسب مع واقعهم ويفتحون نوافذ الى المستقبل.
– نعم ، فأحيانا عبر تصفحي لما يكتبون وينتقون من صور ورسوم وأحلام ألمس إمكاناتهم الفكرية ومهاراتهم الإحترافية .
– شكرا لك ياشهرزاد ، فأنت ملهمتي الخالدة ، أخرجتني ببراعتك المعهودة من ضنك ماكنت فيه من قلق وإحباط .
– أجابت وهي تبتسم ،على الرحب والسعة ، فأنت شهرياري الفريد .
– تمتم بود، دمت لي ملهمة.
إنسلت شهرزاد برفق كما جاءت ، يتتبعها بعينيه وهي تغيب ، وبقيت كلماتها تطوف بين خلايا دماغه ، بصوتها المميز ، وعمق قناعتها بما تطرح من أفكار، وأصبح شهريار بعد هذا اليوم ، كلما إعتراه اليأس، إستدعى مجريات هذا اللقاء ، ويستذكر كلمات شهرزاد (الملهمة) .
إضاءة : يحب الرجل امرأتين: واحدة يراها بعين الخيال، وأخرى لم تولد.(ارسين هونساي).