تُعرّف السياسة في قواميسها على أنها “فن الممكن” بناءاً على أحكامها في تقديم المصلحة العامة والمصلحة الوطنية العليا على المصلحة الشخصية في تحاورالسياسيون مع الفرقاء داخلياً وخارجياً، أي بمعنى أوضح جلوس القائد السياسي الحقيقي حول طاولة المفاوضات (إن تطلب الأمر) مع قاتل أبيه للتوصل الى الحلول إذا كانت فيها مصلحة لبلده!!!.
أما في العراق فمن الممكن تعريفها على إنها: “فن اللعب بالبيضة والحجر” بناءاً على المصلحة الخاصة للمسؤول السياسي!!!.
فموقع رئيس الجمهورية في العراق الآن مثل بقية المواقع السيادية والغير سيادية الأخرى هو عبارة عن تحاصص (للبزنس) بين الأطراف المسيطرة على مقدرات البلد ومستقبله، ومن غير المعقول خسارة هذا البزنس الذي يدر الملايين من الدولارات سنوياً من الميزانية العامة للدولة على صاحبه وهو جالس فقط في مكتبه الفخم لا يفعل شيء غير مشاهدة بعض البرامج التلفزيونية التي تتخللها فترات إستراحة و(قيلولة) لمعاودة النشاط لمشاهدة برامج أخرى وهكذا!!!، وهذا ليس ذنب مَنْ يشغل هذا الموقع، لكن ذنب من وضع وصاغ الدستور الذي حدد وظائف منصب الرئيس وجعلها (تشريفية) أكثر من كونها مسؤوليات حقيقية تضعه على المحك في إدارة البلد.
فمعظم مسؤوليات رئيس الجمهورية شكلية وبروتوكولية وهي لا تتجاوز أكثر من (مباركته) بوضع توقيعه على بعض القرارات الصادرة من مجلس النوّاب أو رئاسة الوزراء أو السلطات القضائية!!!، وسأقف عند فقرة مهمة في الدستور هي محور مقالتي هذه التي ربما تستحق أن (يلغف) عليها صاحب هذا (البزنس) الملايين من الدولارات سنوياً هو وبطانته، ألا وهي مسؤوليته عن “وحدة العراق” التي تهرب منها (الرئيس) في أول إمتحان له عليها عندما جاءت لحظة المواجهة الحقيقية!!!.
فنص المادة (67) من الدستور تقول: “رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن، يمثل سيادة البلاد، ويسهر على ضمان الالتزام بالدستور، والمحافظة على استقلال العراق، وسيادته، ووحدته، وسلامة اراضيه، وفقاً لاحكام الدستور”.
وتؤكد المادة (68) التي تليها الخاصة بشروط ومؤهلات المرشح لهذا المنصب وفي فقرتها (ثالثا) تأكيدها على مَن يشغل هذا المنصب شرط “الاخلاص للوطن”!!!.
ومن الملاحظ إنّ الدستور خصص مادة كاملة لا تتجاوز السطرين لتعريف هذا المنصب دون إقحامها بفقرات أخرى لإعطاء الوضوح والرمزية لمدلولاتها الإعتبارية ـ السيادية في كل كلمة وردت في التعريف وذلك لأهميتها، وهذا يعني بالمختصر المفيد إن الملايين من الدولارات التي يتقاضاها رئيس الجمهورية وكابينته هي للمحافظة فقط على ما ورد في هذين السطرين!!!، فهل وفق سيادة الرئيس في هذا الأمر؟!، وهل يعتقد إنّ ما يتقاضاه من مردودات مادية هي “حلال” عليه إستناداً على الشرع من خلال دراسته له ولأحكامه والذي حصل بموجبه على شهاداته الدراسية العُليا الثلاث من جامعة الأزهر؟!!!.
ـ فهل نطق (سيادته) بجملة واحدة فقط إحتجاجاً على التدخل العسكري التركي الذي إنتهك (إستقلال وسيادة العراق وسلامة أراضيه)، وهل طالب بالضرب بيدٍ من حديد على رأس كل خائن (عراقي) أيد وزمّر لهذا الإحتلال؟!!، وماذا فعل للحيلولة دون ذلك الإنتهاك؟!!.
ـ وهل إحتج على التدخل الإيراني السافر بكل صغيرة وكبيرة بأمور البلد منتهكاً إستقلال القرار السياسي العراقي ومحاولة نظامه تنفيذ سياسته من خلال أخطبوطه المنتشر في معظم مؤسسات الدولة العراقية وفرض أجنداته على أراضي البلد ومواطنيه، وهل أمر بتقديم عملاء إيران المأجورين داخل الوطن الى المحاكمة ليكونوا عبرة لغيرهم؟!!.
ـ وهل إعترض ولو من باب الإخوة (الكردية ـ الكردية) على من سمح للأحزاب الكردية ـ التركية بإتخاذهم للأراضي العراقية (التي هي تحت سيطرة إدارة الإقليم) مرتعاً لهم فراحوا يصولون ويجولون ويحكموا ويتحكموا بالأرض والعِرض فيها دون وجود من يوقفهم عند حدهم؟!!.
ـ وهل صرخ بوجه (كاكه مسعود) محذراً من إنّ إصراره على إجراء الإستفتاء يُعتبر إنتهاك صارخ للدستور الفدرالي الذي إشترك في صياغته الكُرد وإنتهاك لوحدة العراق الذي هو حاميهما؟!!.
إذاً هل تحقق (الإخلاص للوطن) الذي نصَّ عليه الدستور في نهاية الفقرة الثالثة للمادة (68) كشرط رئيسي لأهلية من يشغل هذا المنصب؟؟؟!!!.
ولا أعتقد من أن (سيادته) سيلومني لأنني طرحتُ هذه الأسئلة التي حيرّتني كمواطن بسيط حريص على (إستقلال وسيادة ووحدة وسلامة) العراق و(الإخلاص له) وحيثُ لم أختلق مفرداتها أنا، وإنما أخرجتها من بين الكلمات القليلة الموجودة في السطرين المخصصين لرئيس الجمهورية للمادتين الآنفتي الذكر في الدستور لتعطي الغطاء القانوني لمنصبه الذي هو مصدر رزقه لـ (يلغف) من خلاله هو وحاشيته جزء ليس بالقليل من ميزانية الدولة العراقية وشعب العراق بحاجة للكهرباء والماء والخدمات الضرورية الأخرى التي يتزود بها قصره الجمهوري ومنطقته الخضراء على مدار الساعة!!!، فهل هذا ما تعلمته خلال دراستك يا سيادة الرئيس؟!، ألا يتعارض هذا الموقف مع ما نهلته خلال سنوات دراستك الأكاديمية من بواطن الكتب الرصينة والأخلاقية وأمتحنت فيه (نظرياً) وحصلت من خلاله على شهادة الدكتوراه وربما بإمتياز، وعندما حانت ساعة الإمتحان (العملي) فشلت فيه وبإمتياز أيضاً!!!.
فلماذا لم تكن يا سيادة الرئيس شفافاً وواضحاً بإعلان السبب الحقيقي وراء الغاءك لرحلتك المقررة منذ زمن الى نيويورك لإلقاء كلمة (العراق الموحد) في الجمعية العمومية للإمم المتحدة وهي من صلب مسؤوليات رؤساء الدول؟!، فهل كانت هنالك حاجة ملحّة لإنابة مسؤول آخر رفيع المستوى؟، فالصدق يا سيدي الكريم صفة المؤمنين!!، وحيثُ كان عذرك بالإلغاء غير مقنعاً، فكيف ستتفرغ لمبادرة الحوار بين الزعماء السياسيين بشأن الإستفتاء وأحد أهم الأطراف فيها وهو رئيس الوزراء سيكون غائباً!!!، أياتي قرار الغاء تمثيلك للعراق الموحد في أهم محفل دولي لشعورك الآن من إنك لم تعد مؤهلاً للتكلم بإسم العراقيين جميعاً في المحافل الدولية؟!!، فإن كان الأمر كذلك فلك العذر!!، لكن عليك وضع طلب إستقالتك على مكتبك الفخم والخروج من الباب الرئيسي مزهواً بمصداقيتك، عندها سيحترم قرارك كل أبناء الشعب العراقي وستكبر شعبيتك عند أبناء شعبنا الكُردي، وربما ستداعب أحاسيس من يطالبون بالإستفتاء ليكون لك شأناً فيه!!!.
فهل هنالك أسباب غير معلنة لإلغائك مهمتك الوطنية هذه كتجنبك الإحراج مثلاً؟!!!، وحيثُ ستكون مضطراً للتصريح أمام وسائل الإعلام ورؤساء الدول عند إجتماعك بهم على هامش إجتماع الجمعية العامة على إنك ترفض الإستفتاء المخالف للدستور العراقي الذي أنت حاميه وتماشياً مع تصريحات المسؤولين السياسيين لجميع دول العالم الذين تجرأوا على رفض الإستفتاء لكنك لم تفعل؟!!!، أو ستكون مضطراً لتمثيل العراق بهويتك العراقية وليس هويتك الإقليمية نزولاً عند رغبة الأكثرية من العراقيين وإحتراماً لمسؤولياتك القانونية التي نص عليها الدستور؟، وهل أنّ الغاء رحلتك هو نوع من أنواع المراوغة والهروب لتفادي الإحراج أمام من يطالب بالإستفتاء من الكُرد؟، وهل هذا الأمر يجنبك المواجهة المباشرة مع “كاكه” مسعود البرزاني؟، وهل هو تهرباً من لقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كونك ستكون مضطراً حينها للإتفاق معه على لجم جماح من يطالبون بالإستفتاء وستتفق معه على الآليات حتى ولو تطلب الأمر إعطاء (مباركتك) بإستخدام القوة المسلحة؟، وهل أنت محرج من أنّ وجودك في هذا اللقاء سيكون بهويتك العراقية الوطنية وليس القومية مما سيضعك في موقف صعب أنت وجميع الفرقاء على حدٍ سواء؟!!، وعندها ستكون مسؤولاً أمام جميع الدول عن كل ما سيتمخض عنه هذا اللقاء من إتفاقيات؟، أم إن الغائك لرحلتك جاء بطلب من رئيس الوزراء حيدر العبادي (ربما) لشكوكه وعدم قناعته بمقدرتك للدفاع عن العراق الموحد بصدق؟!، أو لتجنبك الإحراج في التصريح الواضح عن رفضك للإستفتاء؟!!، أو لشعورك الوطني الذي لا تريد الإفصاح عنه علانية إستيحاءاً وخجلاً أو ربما (خوفاً) من البعض من أبناء جلدتك ممن يزمرون للإنفصال!!!، لذا قررت إعطاء الفرصة لرئيس الوزراء للذهاب نيابة عنك لحشد التأييد الدولي بفاعلية أكبر ضد قرار السيد مسعود البرزاني وإفشال إستفتاءه الذي ترى ويرى فيه الكثيرون من السياسيين الكُرد وأحزابهم بأنه قرار متسرع وخاطئ لا يستطيع أحد التكهن بعواقبه، وكأنك بحركتك الدبلوماسية (الذكية) هذه حميت نفسك وأبعدت عنك تهمة إفشال الإستفتاء أو تأييده ولسان حالك يردد قول الملكة “الزبّاء” المضروب كمثل لكنك إستخدمته بصيغتة المعكوسة “بيد عمرو لا بيدي”!!!.(*)
لكنني أطمئنك يا (سيادة الرئيس) بأن الإستفتاء على الأغلب سوف لن يحدث في موعده المحدد، ليس فقط لأن هنالك معارضة دولية وإقليمية وعربية شديدة له، أولأنه ولد ميتاً، أو لأن رئيس الوزراء حيدر العبادي جاداً هذه المرّة بتهديده، وإن لم يفعله هو فهنالك مراكز قوى أخرى ستتجاوزه وتنفذ التهديد وعندها سيخسر الكُرد كل الإمتيازات التي ناضلوا للحصول عليها وسالت دماء الكثير من الأبرياء فيها لأكثر من سبعين عاماً وسيعود الوضع الى المربع الأول!!، لكن الأهم من هذا كله من أنّ ما خطط له “كاكه” مسعود من أهداف قد تحققت سواء حصل الإستفتاء أم لم يحصل وذلك بتعاطف الشعب الكردي معه بعد أن عزف على أوتار أحاسيسهم وإسترجع جزءاً كبيراً من شعبيته التي وصلت الى أدنى مستوياتها في السنوات الأخيرة، كذلك وهذا هو المهم عند السيد مسعود البرزاني فلربما سيحظى بدعم مالي من أطراف عربية لتأجيل أو الغاء الإستفتاء خاصة بعد زيارة وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج ثامر السبهان لأربيل ولقاءه به وكذلك ربما دعم مالي آخر من الدول العظمى الرافضة للإستفتاء.
لكن لو فرضنا بأن هذا الأمر سيحدث (أي تأجيل أو الغاء الإستفتاء) فكيف سيكون موقف إسرائيل من رئيس الإقليم الذي سيحرجها قراره وهي التي وقفت مؤيدة بشكل رسمي لقرار الإستفتاء ومساندتها الى حق تقرير المصير للكُرد؟!!.
وسأختم مقالتي هذه بهمسة صغيرة في إذنكم قائلاً: هل تعلمون يا سيادة رئيس الجمهورية من إنّ (المواطن العراقي الوطني الحقيقي) الجالس على كرسي هذا المنصب (يجب) وهي كلمة ملزمة أن يكون ضد مصلحة (أبيه) إذا إقتضى الأمر لصالح مصلحة (الوطن) في حالة تعارضهما، وهل تعلم إن “كاكه” مسعود ورئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي وكل الفرقاء سوف لن يكونوا سعداء جداً بفن سياستكم باللعب “بالبيضة والحجر” لمصلحتكم الشخصية وعلى طول الخط !!!.
إنتباهة:
(*) كنتُ متقصداً أن أذكر مقولة الملكة الزبّاء “بيدي لا بيد عمرو” بصيغتها العكسية تماشياً مع الغاية المقصودة، أي بمعنى لسان حال فؤاد معصوم كان يردد (ليكن تحشيد الرفض الدولي لإلغاء الإستفتاء بيد حيدر العبادي وليس بيدي).