صرخ أحمد طارق غاضباً مستنكراً خوّف الجميع عليه، وكأنه الطفل المدلل في الجبهة:ـ الرجاء لا أحد يقيد حركتي، لا أحد يفرض عليّ حرصه وحذره.. فأنا أعرف كيف أتحرك وأتنقل الى أي مكان، أعرف كيف أقاتل، أنا أكره حائط الصد هذا؛ لأنه يمنعني من مواجهتهم مواجهة مباشرة.
:- حائط الصد يحمينا من نيران العدو يا أحمد..
:- بل يحمي العدو من نيراننا..
انطلق هذا البطل بصرخته الشجاعة مؤمناً بما يمتلك من قوة حسم وإيمان، لا يريد أن تتعرض القضية بسبب روتينية المواجهة الى الذبول.
أحدهم فسر الأمر بالملل وعدم المطاولة، وأنا أشهد أن أحمد طارق مقاتل شهدت له المواقف بصبره وطول إناته وسرعة بديهيته في أغلب المواقف التي عشتها معه.. ذات مرة انقسمنا الى مجموعتين: إحداهما بقيادة أحمد، والأخرى بقيادتي، كان المسير بنفس الاتجاه، لكن الفارق انه اتخذ الجهة اليمنى ونحن الجهة اليسرى، وقعت مجموعة احمد في كمين غير محسوب، وهذه هي الجبهة أثناء القتال، لها مباغتاتها، وتم فعلاً تطويقهم وطلبوا منهم رمي السلاح ورفع ايديهم عالياً.
كنت أنا أتحين الفرصة للتدخل لإنقاذ أحمد وجماعته من الكمين، وقلبي يعتصر ألماً لإصابة أحد مجموعته شهيدا، لكن الذي باغتني هو مع لحظة رمي السلاح انبطح احمد على جثة الشهيد رافعاً بندقيته، وبنفس اللحظة قررت مشاغلتهم من الخلف، وقد أبادهم عن بكرة أبيهم.
مثل هذه المواقف الشجاعة لها جمال يتعلق بالذاكرة، فتزيد الانسان إصراراً على المواجهة، إصراراً على الابداع في جوهر المواجهة، واليوم فعلاً الحالة فيها الكثير من الروتينية، وأقصد هذا التراشق المكرور من قبل الطرفين، فلذلك كان يحاول أن يكسر روتينية هذا المواجهة بالخرق الاعتباطي، فيعبر حائط الصد ليصبح بمواجهة رماتهم، ويقدم حركات بهلوانية، ويركض باتجاه مساحة واسعة دون أن يتعرض لأي إصابة ولله الحمد.. فهو على ما يبدو يدرس كل كبيرة وصغيرة، ولا يقدم ما يقدمه من حركات بهلوانية اعتباطاً، بل هي عملية دمج التمويه الحراكي بالقنص غير المتوقع، البعض يسميها استعراضات جنونية، قلت من الممكن أن تكون حاجة الانسان حاجة نفسية لإغاظة العدو والاستهزاء بامكانياته، والجميع يرى الحزم النارية وهي ترد عليه بشكل مكثف، يدرك حجم الأذى النفسي الذي تسببه هذا البطل لهم، حاول الاعلام الفضائي والالكتروني أن يصنع لقناصي داعش سمعة خرافية، وها هي تسقط أمام مرأى العالم..
سأله آمر اللواء يوماً: لماذا تعبر جدار الصد وتعرض نفسك للموت؟
أجابه سيدي:- ما جئنا الى هنا لكي نأكل وننام، بل جئنا لنقاتل وأنا أرى الجبهة كسولة تحتاج الى من يحركها.
قلت:- سيدي هذا ملح الجبهة..
عقب أحمد:- الحرب لعبة، فدعوني ألعب لعبتي معهم.. أنا أخرجتهم من جحورهم مرعوبين غاضبين..
أجابه الآمر:- لكني خائف عليك، انهم يعرفون حتى اسمك، وهم يطلبون منك الخروج حين يتركوا كل شيء، ويحثوك على التحدي عبر مكبرات الصوت، يعني يريدون اصطياد لذتك بالنصر لعدة مرات، يريدون أن يزيدوا غرورك فاتعظ..
:- أنا صاحب القرار سيدي متى أريد أن أخرج أخرج بملء إرادتي.. أخرج متى ما أرى الوقت مناسباً لي وليس لهم، احرق اعصابهم، ولكي يتخلص من كثافة النار، صار يغير مكانه في كل طلعة ليباغتهم من جديد..
قلت له ذات ليلة:- أحمد أنا أشعر أن صدري مقبوض، صرت أخاف عليك من الخروج خارج منطقة الصد، فأنت محظوظ وإلا فالبعض يراك ساحراً تقدر أن تتجاوز كثافة النار بدون أن تصاب بأذى.. أرجوك لا تخرج..
أجابني فوراً:- وأنا أخاف عليكم أيضاً.. هذه جبهة مفتوحة نيرانها لا تترك أحداً بحاله، فالأجدى بكم أن تبقوا في بيوتكم؛ كي لا تلوحكم نيران العدو..
وفي اليوم الثاني، نهض مبكراً.. جهز نفسه للهجوم قال: اسندوا عودتي فقط، ولا تخافوا عليّ شيئاً.. وتقدم مسرعا كالضوء باتجاه مواقع العدو، واستطاع اصابة العديد من الدواعش خفت أن ينسى نفسه ويتقدم الى مواقعهم، توغل الى مسافة قلقة صرت أخشى عليه..
يا إلهي كيف سيعود، وفرنا له تغطية مناسبة أذهلت الخصم، وصل سالماً مبتهجاً وهو يضحك وتقدم ليعانقني، لكنه فجأة صرخ:- أووه.. الدم.. انت مصاب يا صديقي..
لم انتبه الى اصابتي، حيث كنت منشغلاً بنجاته.. هو مندهش للعبته المميتة التي حصدت الكثير من الدواعش، وحرك الجبهة بكاملها، وهو يودعني بقبلة حارة ويقول:- الجرح بسيط ولله الحمد.. أنا أنتظر عودتك سريعاً؛ لأني اكتشفت بأنك انت وليس انا الذي كان ملح الجبهة يا صديقي..