في زمن “العنتريات” كما يقال، لا بد من بديل آخر يدعو الى السلام وإحلاله في ربوع الرافدين والعمل من أجله بكل الوسائل والسبل في هذا الوطن الذي عبر الخمسين عاماً الماضية خاض ابنائه الحروب والدمار والارهاب وعاش الحصار والجوع والحرمان، فلا بد لنا من النظر الى آليات أخرى لحل النزاعات وإطفاء روح الانتقام والوعيد والمقابلة بالمِثل. فالقصاص بطريقة “العين بالعين والسن بالسن” تكاد تكون عادلة في بعض الحالات الشخصية، ولكنها لا تصلح أن تكون سياسة عامة في العلاقات بين الأمم والشعوب وبين المذاهب والطوائف والتجمعات الإنسانية. وهنا أطرح البديل المعاكس لكل ما يقال هذه الأيام حول قضية كردستان والاستفتاء على موضوع الإستقلال وما هو سائد في النفوس التي تنظر الى أن الحل لا بد أن يكون بالمجابهة الصارمة والحازمة والصاعقة، ، والتي يرجي منها إلا تخويف وترهيب الطرف المقابل وإجباره على الإذعان والخضوع. فالكتاب الكريم يرى أن الغاية من العلاقات بين الأمم والشعوب قائمة على التعارف والتعاون: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ. وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ ، وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
وهنا يكمن البديل في السياسة العامة بين مكونات المجتمع في الوطن الواحد، فإما استعمال القوة أو التهديد واللجوء اليها لحل النزاعات، أو الى سياسة التهدئة وعدم التصعيد، وهو الطريق الذي يمكن أن يخفف من حدة الأزمة ويتجنب العواقب الوخيمة التي قد تتجنب مجابهة التصريح الناري بتصريح مقابل يكون أكثر حدة وإنفعالاً، فتستمر الحدة الى ما لايحمد عقباه أو لا يمكن التنبوء بنهايته ونتائجه. فحالة التصعيد أمر طبيعي على المستوى الفردي والمستوى الإجتماعي، فهي نابعة من غريزية البقاء والديمومة النفسية أو حفظ المصالح العامة للمجوعة والأمة. في داخل الدولة والوطن الواحد الذي يشمل العديد من الشعوب والطوائف والأمم، تقوم العلاقات على مبدأ تقاسم المصالح الاقتصادية والسياسية، والانفصال يُعد من الشؤون المعنوية التي تتصل بمبدأ السيادة وتطبيق الدستور وعدم التفريط بوحدة التراب والوطن. ولكن مثل هذه الأمور المعنوية التي تعتبر أساسية في بناء الدول والأوطان لكنها في الوقت نفسه هي أقل في المستوى الذي يؤدي الى الدمار والحرب الأهلية وحرق الحرث والنسل. وأمام أعيننا التجربة في سوريا، وما آلت اليه الحرب الداخلية هناك الى نتائج رهيبة سُفكت فيها الدماء وهُجرت جراءها الملايين وقضت على العمران المدني لأجيال قادمة. ولهذا يصف لنا التراث النبوي عظيم هول سفك الدماء بأن قتل أمرء واحد هو أهون على الله من هدم الكعبة سبعين مرة.
ومن هذا المنطلق، فإن الخيار الآخر والذي أطلقت عليه تسمية “بديل الجبناء” هو الذي قد يكون الأصوب في حل النزاعات الداخلية بين المكونات المجتمعية في الوطن الواحد، أو هو الأساس في التعاملات بين الأمم، أو ما يطلق عليه في العلاقات الدولية بـ “الدبلوماسية”. قد يعد البعض أن مثل هذه الوسائل السلمية إنما هي تراجعاً وخنوعاً أو حتى إنها توصف بعملية الإنبطاح في أوقات التحدي وحفظ الكرامة والسيادة والوحدة. فكأن السلم يوازي في تلك الفترات حالة “التسليم” الذي تقابل الهزيمة والخنوع. ولكن الدبلوماسية والطرق السلمية هي في جميع الظروف أهون في نتائجها من استعمال القوة. في الصراع الكوني بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في القرن الماضي مثلاً ، لجأت الدولتان الى “الحرب الباردة” في علاقاتهما لأن تكاليف الحرب الطاحنة سوف تؤدي الى خسارة وهزيمة الإثنيين معاً. فالحروب الفاعلة إنما تؤدي الى الدمار والدماء، ولكن الحرب الباردة إنما تخل معنوياً بعض الشيء في السيادة الوطنية والكرامة المجتمعية والمكانة الدولية. فإلى أي الطريقين نلجأ!
نرى القرآن يدفع في مثل تلك الصراعات المجتمعية الى حل “الجبناء”، فنراه يرشد أنبيائه عليهم السلام لا الى التحدي والتصعيد، وإنما الى التهدئة وإيجاد القواسم المشتركة مع المقابل المتجبر القهار الذي بيده مقاليد الأمور وإدارة شؤون العباد والبلاد: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى. ومع هذا كان النبيان موسى وهرون في حالة من الخوف والهلع في اللجوء هذا الإسلوب الدبلوماسي المسامح، وكانت حالة الخوف والهلع تدب في نفوسهم: قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى. فكان الجواب الإلهي: قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى. وفي آية أخرى يحدد لهم الله نوع الرسالة التي على موسى ابلاغها الى الطرف المتعنت الظالم لحقوق الناس: فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى. فليس هنالك من حديث تصعيد أو تهديد أو وعيد، وإنما استمالة بإسلوب هادئ يواجه التحدي بعرض المصالح والفوائد للطرف الآخر للوصول للحل والقواسم المشتركة.
على الحكماء من أبناء وطننا اللجوء الى هذا الحل “الجبان” في تهدئة الأمور حتى لا تتفاقم نتيجة الفعل وردة الفعل التي عادة ما تكون أكبر أضعافاً مضاعفة لإثباء الشجاعة والثبات على المواقف التي اتخذت سابقاً وعدم التراجع مهما تغيرت الظروف وكلفت النتائج. فهنا ليس الموضوع هو الشجاعة على المستوى الفردي، ولكن عندما تتعلق الأمور على مستوى الساحة الاجتماعية فإن الكلفة عادة ما تكون عالية وحتماً ما تكون باهضة تخسر فيها الأوطان الدماء وينهدم العمران وتؤدي بالأمم الى التخلف والهوان لعقود وأجيال.
فالسؤال هو هل هنالك من الحكماء الذي يقودون هذا الوطن ويسيرون دفة الأمور الى “الحل الجبان”. أتمنى أن تقود المرجعية مثل هذا الدور في حفظ البلاد والعباد.