16 نوفمبر، 2024 3:53 م
Search
Close this search box.

تشظي الزمن والدولة والتاريخ في رواية مواسم الثلج والنار

تشظي الزمن والدولة والتاريخ في رواية مواسم الثلج والنار

خاص: قراءة- أمين غانم

كاتب يمني

عندما انتشل التلميذ “يوري بونداريف” من المدرسة، ليضم إلى جبهة القتال في “ستاليننغراد”، لم يكن يعلم الفتى ذي الثمانية عشر ربيعا بأن عليه أن يتفحص كل ما تبثه مقل المقاتلين من حب للحياة، و ما يعتلج في أرواحهم من خوف وثبات، وسيغدو عليه أن يصف أطنانا من القنابل وهي تحرق كل معالم المدينة بوحشية غير مسبوقة، فبعد عقدين من انقضاء الحرب، أصدر روايته (الثلج الحار) ليسبر نفوس المقاتلين مجددا، ويدون وقائع حرب وضعت أوزارها منذ زمن، ليضعه النقاد في روسيا كواحد من رواد الإنتلجنسيا الوطنية وأبرز كتاب أدب الحرب.

أمين غانم

تذكرت “يوري فاسيليفيتش” وأنا أقرأ رواية “مواسم الثلج والنار” للروائي العراقي “كاظم الشويلي”، عن معركة “ماوت” في مدينة السليمانية بين الجيشين العراقي والإيراني، كان “كاظم” يحكي بؤس المفارقة بين صعود الإيديولوجيا وهوانها، فمن ذاكرتي تلميذين (كاظم وبونداريف) أخذا إلى الجبهة قسرا، تتفاوت معاني الكتابة لاسترجاع كل ما يغفله المقاتل في المعركة أشبه باستغلال الفن للوخزات الكليمة لوقائع الأمس، لاسيما حين تؤازر أوجاعها بخلجات الاستئثار المتأخر للحق، عقب انقضاء ضرب من يقينيات القومية، تبقى الحقيقة بالكيفية التي يتحول معها الخارجين من معركة ما، لشخوص رمزية أينما ولوا، لن يجدوا من يدير لهم الظهر، كلما يشرعوا بسرد حكايتهم، ليبق الأثر بالقدر الذي نحتاجه من الزمن للذود عن نقائص الإنسان بغية إذكاء مداركه بمكامن الكمال.

كان “كاظم الشويلي” يكتب سيرة مبسطة لنتف من اللحظات الخاطفة، قبل وقوعه ضمن ثلة من الجنود والضباط العراقيين كأسرى في أيدي الجيش الإيراني، هكذا تسير الحكاية على إيقاع “المهندسة وداد”، كحديث يومي مقتضب، يغيب الزمن الداخلي للسرد وتحضر “وداد” بمواعيد، تتداخل كالمواقيت بحركة النص وبنائه، سيرة مزدوجة لنعت الماضي والحاضر برجل أربعيني لا يكترث للمآلات، حين تجيء كمقارنة بائسة تضيع بينهما المحاولة، ليبدو الأمل إيغالا بالمكان بحب وجودي لأفراد الأسرة لرجل بات عليه أن يكتف بدفء عالمه الصغير، مقايضة تشي باختزال تبدو رؤيته الجديدة مجرد صور باهتة للقتال في الجبهة، فثمة ما يفقد الخارجين من الحرب، التوق مجددا للمغامرة، فالآتي لا يعدو عن خدع جديدة للقومية تهمد أفكارها بتعدد أزمنة الدفاع عنها.

عاطفة غريزية تعكس ارتدادات الحرب بفتور الرغبة للفعل والكلام عند البعض، هكذا يستدرج “كاظم” في لامبالاة لحظية، يبدو معها نبش خيبات الحرب أشجانا مسلية بحضرة فتاة جميلة تقابل كل المتناقضات والأحداث بتحريك العلكة أكثر في فمها.

كان فتح المذياع لسماع أغنية ما، وطلب “وداد” لإكمال واقعة الأسر، جزءا أساسيا من مشهد سردي حدد فضائه اليومي بذهاب “وداد” ومجيئها، لتتوزع فصول الحكاية كمتواليات صباحية بمعية ذاكرة مثقلة بتفاصيل لم تجد سبيلا لمن يرهف لها أو يتعلم، وكأن التعويل على عظات الحروب العبثية ليس أحسن حالا من التضحية بالنفس إيمانا بقدسيتها.

هكذا تقاس العلاقة داخل العالم السردي بخارجه، كشمعة تحترق بين مرآتين متقابلتين، مولدة مصفوفات لانهائية من الشموع المضيئة، وكأن خلود الفعل يبدو مسألة مصاحبة لحرق أفكاره بالنار، أما جماله يظل في مدى إحساسنا بذلك الفيض من الحب الذي يولده ذلك الاحتراق.

هكذا بدت لي روايتين من العراق، “مواسم الثلج والنار” لكاظم الشويلي، و”الباب الخلفي للجنة” لهيثم الشويلي، كمرآتين متوازيتين وضعتا بساحة عدن الشهيرة ببغداد، عام 2006 حيث كان محورا زمنيا للسرد وللعراق على السواء، يعيش الناس، ويعايشوا تشظي الزمن والدولة والتاريخ ضمن مصفوفتين متعاكستين الوجهة والمغزى، في تشتت وانقسام لانهائي في الحكم على الأشياء، بحيث لن تطو إلا كمحض حسرات تالية ولاحقة، فما بعد 2006 تعكسه مرآة “هيثم” كشباب تائه يبكي ماضيه التليد، يجمح للقفز فوق الأسوار طلبا للحياة والعيش خارج جغرافيا جريحة، وما قبله يبدو كجيل مثقل بتجربة قاسية تعوزه الرغبة للخروج من دوائر محيقة بالمكان، هكذا تضافرت الصدفة بالجمع بين الخيال والواقع في كتابين منفصلين، بظاهرة فريدة في عالم السرد، تتشارك أحداثهما بنفس المكان، ومن نقطة زمنية واحدة تتحرك المخيلتين لسرد الماضي والمستقبل، في نمطين سرديين كان جمالهما يتجمع في بؤبؤ الصورة المقلوبة، كأن يرمقا الإنسان من منظور واحد، أشبه بخطي ضوء متباعدين في المبدأ، متوحدين ومندمجين في المحصلة برؤية ألوان شتى من العذاب الجماعي.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة