في غضون الشهرين الماضيين، إنخرط بكثافة وبقوة عدد من الكتاب والإعلاميين والأكاديميين والشخصيات السياسية العربية العراقية، ونواب في البرلمان العراقي ومسؤولين حكوميين، في عملية الهجوم على الكورد الذين يريدون ممارسة حقوقهم الدستورية والقانونية والانسانية المشروعة على أراضيهم، واشتركوا في تبني خطاب الكراهية الذي يحاكي إعلام خصوم الكورد التقليديين، فأستنسخوا المفاهيم البالية واللغة السطحية المستخدمة ضد الكوردستانيين.
تلك الفئة لم تنفصل عن الأحزاب الشوفينية، بل إنحازت إليها، وراحت ترافع من أجل معتقداتها بعيداً عن الأطر الأخلاقية والمهنية والأعراف الثقافية والدينية. والبعض منهم، وبالذات الذين يدّعون الحرص على الديمقراطية والمدنية وحقوق الإنسان ويميلون نحو التشويه وتصفية الحسابات بكل الوسائل والتمييز والعنصرية والمذهبية المقيتة، ما زالوا يرون أن الاستفتاء وبالذات في كركوك، مناورة وطموح شخصي وتكتيك حزبي، وفي حال تعرض الكوردستانيين إلى تهديدات وضغوطات قوية، أو حصولهم على وعود وضمانات، أو مكاسب معينة، يمكن أن يتم تأجيله أو حتى التراجع عنه.
الرئيس مسعود بارزاني، رئيس إقليم كوردستان، خلال زيارته الأخيرة لكركوك، وفي إجتماعه مع مسؤولي الأحزاب الكوردستانية، ومع ممثلي مكونات المدينة ورجال الدين والوجهاء والأكاديميين، بحنكته السياسية، وضع النقاط على الحروف ودحض تلك التوجهات، حينما أعلن بشكل قاطع إستحالة التراجع عن قرار الشعب الكوردستاني القاضي بإجراء الإستفتاء، وعدم إلغائه أو حتى تأجيله لعدم وجود أية حكمة في ذلك الأمر. وإستعرض المراحل التاريخية للإرتباط السياسي لشعب كوردستان مع الحكومات العراقية المتعاقبة، وكيفية تعامل هذه الحكومات مع شعب كوردستان، وأبدى تأسفه لتجاهل تلك الحكومات لشعب له تاريخه وجغرافيته وهويته القومية، حينما مارست سياسات التهميش والاقصاء، وإتخذت القرارات المجحفة بحق الكوردستانيين، كما تأسف لبقاء وسيطرة فكر الإستعلاء والإستبداد والإنكار لدى البعض حيال شعب كوردستان، وأوضح بأن كافة محاولات بناء دولة شراكة حقيقية مدنية ديمقراطية مع بغداد طيلة الفترة الممتدة ما بعد سقوط النظام عام 2003 باءت بالفشل، ولم نر أية ملامح لدولة ديمقراطية فدرالية، بل وقفنا أمام دولة دينية وطائفية. تلك الأمور أدت إلى وصولنا الى قناعة راسخة مفادها أننا ككورد وكوردستانيين غير مرغوب فينا ببغداد، لذلك لابد من التوجه نحو الاستقلال، لمنع العودة الى التوتر والصراع والمواجهات الدموية والنزاعات العبثية.
ومن كركوك العزيزة لدى الرئيس بارزاني وعموم الكوردستانيين التي تعرضت مع غيرها من المناطق الكوردستانية، على أيدي الحكومات العراقية المتعاقبة، ولاسيما في عهد البعث، الى حملات تعريب ظالمة تصاعدت في بداية السبعينيات من القرن الماضي بقفزات متتالية. وجه الرئيس بارزاني رسالة محبة وسلام للذين يحملون الفكر الناضج والرأي السديد والكلمة الطيبة وأهدافاً إنسانية نبيلة تتجسد في الوقوف ضد المتآمرين الذين فقدوا عقلهم ورشدهم، والذين يعيثون تدميرًا وتخريباً في الأرض، ويتحالفون مع الشيطان ضدنا، ويحاولون بتصريحاتهم الصبيانية توريط الجميع وإشعال فتيل الحرب والنزاع المسلح الخاطىء والخطير دون الإلتفات الى النتائج، مع إنهم على يقين بأن الكورد لا ينوون التحارب والاقتتال، ولكن اذا تعرضوا لأية مخاطر فإن حق الدفاع عن النفس مكفول لهم، وأنهم لم يتوقفوا يوماً عن التضحية في أي وقت يشعرون فيه بأنهم يتعرضون للتهديد، ولن يتوانون عن أية خطوات يدافعون بها عن وجودهم وهويتهم القومية والوطنية. كما طمأن سيادته ممثلي المكونات القومية والدينية في كركوك، أن كركوك وحدها من تملك حق تقرير مصيرها، وسيكون لها خصوصية تنسجم مع تعدد مكوناتها بما يضمن حقوق الجميع، وأبلغهم بأن حياتهم وحقوقهم وإمتيازاتهم ستكون محفوظة في دستور ودولة كوردستان التي ستكون حاضنة للجميع، وسيتم فيها تطبيق أحكام المساواة والعدالة وفق صيغة فدرالية تعطي الحق لكل محافظة بأن تدير نفسها بنفسها، وبأن قوات البيشمركه تحمي جميع المواطنين في كركوك، والمدينة ستبقى رمزاً للعيش المشترك ونموذجاً للمحبة والتآخي الديني والقومي.
وأخيراً، يمكن القول أن الأكثرية المطلقة في كركوك متفقة على المشاركة في الاستفتاء، وإن المتابع لشؤون تلك المدينة يلاحظ نشوء نسق فكري مشترك بين الكوردي والتركماني والعربي والمسيحي، نسق يمثل تغليباً للثقافة الواقعية المواكبة للتغيرات، نسق مهم ومعلم مبكر على التحاق الخريطة السياسية للمحافظة بخريطة الدولة الكوردستانية، وفق الإتفاق الجمعي على التصويت بنعم في يوم الإستفتاء، ودحض مهاترات خصومهم من الشوفينيين الذين لايرون إبعد من أنوفهم.