إعداد: حسين أصلان- احمد يوسف كيطان
المقدمة
تلعفر مدينة عراقية عريقة موغلة في القدم، تحمل خصوصيتها التركمانية ميراثاً حضارياً وثقافياً خاصاً بها في محيط متنوع القوميات والطوائف والاديان من مكونات الشعب العراقي المختلفة. وكلمة (تلعـفر) كلمة مركّبة يرى أغلب المؤرخين انها جاءت من: (تل) و(عفر) وتعني (تل التراب)، وبعضهم يرى أن (تلعـفر) كلمة مركّبة من (تلاد عبرا) الآرامية والتي تعني (تل التراب) نسبةً للونه، في حين قال أخرون أن الكلمة (تل عفراء) وتعني (تل الغزلان) لكثرة الغزلان التي كانت تتردد على ماء عينها في أسفل الوادي الذي تشرف عليه القلعة. ويتميز قضاء تلعفر بكونه يجمع بين خصوصيتين مهمتين: اولهما الخصوصية التاريخية وثانيهما خصوصية تنوع ثقافات ساكنيه وانصهارها في بوتقة العادات العراقية الأصيلة.
وفي 15 حزيران العام(2014)، سقطت مدينة تلعفر ذات الموقع الاستراتيجي الحيوي بيد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الارهابي، واصبحت واحدة من أكبر معاقل التنظيم في العراق، وارتكب فيها ابشع المجازر بحق سكانها على اختلاف قومياتهم وطوائفهم، وفي تشرين الأول العام(2016)، أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي انطلاق معركة استعادة الموصل من أيدي تنظيم داعش الارهابي، واتجهت الأنظار إلى المحور الغربي للمحافظة حيث يقع قضاء تلعفر الذي يحتل أهمية استراتيجية كونه يمثل طرق إمداد تنظيم داعش القادمة من معاقله في شرقي سوريا، والذي تأجلت معركة استعادته حتى العشرين من آب العام(2017)، إذ اعلن رئيس الوزراء العراقي في ذلك اليوم عن بدء المعركة البرية لاستعادة القضاء من سيطرة تنظيم داعش، بعد أن تعرضت مواقع التنظيم فيه بصورة متكررة لغارات جوية شنتها القوة الجوية العراقية وقوات التحالف الدولي، بهدف استنزاف قدراته وإضعاف قبضته على المدينة، ويرى المراقبون أن تحرير مدينة تلعفر يشكلّ المحطة الحاسمة في القضاء على آخر معاقل التنظيم في الموصل.
إن طبيعة المدينة الديموغرافية واهميتها الاستراتيجية وموقعها القريب من الحدود السورية والتركية، ومن إقليم كردستان، جعلها إحدى نقاط الصراع الإقليمي الساخنة سواء بين القوى السياسية العراقية في الداخل أم بين القوى الاقليمية حول مستقبل هذه المدينة المهمة، الأمر الذي أثر بالنتيجة على عملية تحريرها وتأخير انطلاق هذه العملية حتى يومنا الحاضر. وأحدى اهم جوانب عملية تحرير المدينة ومستقبلها بعد التحرير؛ هو انعكاساتها على التفاعلات الداخلية بين القوى السياسية العراقية، وايضاً الخارجية سواء كانت على صعيد التنافس الاقليمي التركي-الايراني ام على صعيد الفواعل الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية، وهذا ما سنتناوله في هذا البحث مسلطين الضوء على أهمية المدينة واوضاعها وعملية تحريرها ومستقبلها بعد التحرير.
تاريخ مدينة تلعفر
يعود تاريخ مدينة تلعفر إلى قرون طويلة وبالتحديد الى العصر الحجري(6000 ق. م)، إذ اصبحت تلعفر مع سنجار منذ منتصف الألف الثاني قبل الميلاد جزءً من الدولة الميتانية، وفي العهد الآشوري نمت وتوسعت وبنت قلعتها الأثرية وكانت تعرف باسم (نمت عشتار)، أي (جنة الآلهة عشتار)، وبعد سقوط نينوى كانت منطقة تلعفر والجزيرة مسرحاً للحروب الطويلة التي جرت بين الحيثيين والرومان الذين جددوا قلعتها.
وبدأت هجرة القبائل من الجزيرة العربية قبل الإسلام إلى العراق والشام سكنت قسم منها في منطقة الجزيرة وجوار الموصل كبني الربيعة الذين سكنوا بجوار تلعفر وسنجار وسميت المنطقة بـ(ربيعة)، وفي صدر الإسلام فتحت منطقة تلعفر كسائر ديار ربيعة ومنطقة الجزيرة في سنة(18ه)ـ، ثم أصبحت في العهد الأموي موطناً للخوارج ومسرحاً للحروب التي جرت بينهم وبين الأمويين، وقد توسعت المدينة وازدهرت وازداد سكانها في العهد العباسي ومن بعدهم السلاجقة في زمن الامير(طغرل بك) أحد أمراء السلاجقة وثم استولى عليها السلطان (بدر الدين لؤلؤ)، حيث سكنتها بعض العشائر التركمانية، وبعد سقوط بغداد على يد المغول في العام(656ه)، توجه احد قادتهم(سميداغو) إلى منطقة الموصل وتلعفر وضمها الى الدولة الاليخانية (المغولية)، وفي العام 738ه أصبحت جزءً من الدولة الجلائرية حتى جاء القائد (تيمورلنك) ودخل الموصل العام(796ه) ومرّ من مدينة تلـعفر ولا يزال هناك طريق في جنوبها يسمى (تيمور يولي) أي (طريق تيمور)، وفي العام(814هـ) ضمت تلعفر الى دولة (الخروف الأسود) التركمانية في عهد أميرها(محمد قرة يوسف)، وفي العام(874هـ) أصبحت جزءً من دولة (الخروف الأبيض) التركمانية بقيادة الأمير(حسن بك الطويل) وتوجد حالياً بعض العشائر في تلعفر تعود اصولها الى هاتين الدولتين([1]).
وفي العام(914هـ) أصبحت تلعفر جزءً من الدولة الصفوية، وفي العام(941هـ/1534م) أصبحت المدينة تحت الحكم العثماني في عهد السلطان (سليمان باشا) وبقيت حتى العام(1917م) عند احتلال الانكليز العراق وانسحاب الجيش العثماني، إذ تمكن الانكليز من السيطرة على مدينة الموصل وتلعفر في العام(1920) بعد ثلاث سنوات من القتال، وكانت مدينة تلعفر في عهد الدولة العثمانية مركز لناحية تابعة إلى قضاء سنجار، ثم أصبحت قضاءً في نهاية العام(1917)، وقد دخلت تلعفر التاريخ بملحمتها الشهيرة التي تدعى باسم حركة (قاج قاج) والتي بدأت بها الثورة ضد القوات الإنكليزية المحتلة في العام(1920)، لذا فإن أول شرارة لثورة العشرين في الشمال انطلقت من مدينة تلعفر([2]).
وقد عاشت المدينة طيلة سنوات القرن الماضي حالة من التعايش والتسامح والتصاهر بين ابنائها من مختلف الاعراق والطوائف، حتى دخول قوات الاحتلال الامريكي المدينة في العام(2003)، لتدخل تلعفر في دوامة عنف بشعة طالت المدنيين العُزّل بعشرات التفجيرات، استخدمت فيها الهاونات والسيارات المفخخة والاحزمة والعبوات الناسفة، خلّفت ورائها عشرات الآلاف من الشهداء والايتام والارامل والمعاقين والمهجرين من كلتا الطائفتين(السٌنية والشيعية) لتتصدر المدينة المناطق الساخنة في البلاد .
اهمية مدينة تلعفر
يُعد قضاء تلعفر الذي تم استحداثه بموجب فرمان عثماني في (1/1/1918) من أكبر الأقضية في العراق بمساحة تقدر بنحو (4461)كم2 اي تشكّل نسبة(12%) من المساحة الادارية لمحافظة نينوى، أما عدد سكان القضاء فيقارب (450)الف نسمة، وتشكل نسبة (14%) من سكان المحافظة، ويقع هذا القضاء ذو الاغلبية التركمانية والمتنوع بتركيبته السكانية في محافظة نينوى الى الشمال الغربي من العراق(خريطة رقم1)، تحده من الشمال محافظة دهوك ومن الشرق مدينة الموصل، من الغرب قضاء سنجار ومن الجنوب قضاء الحضر.
يتكون قضاء تلعفر من النواحي الادارية الآتية:
مدينة تلعفر(مركز القضاء): ويبلغ مساحته نحو(940)كم2، ويضم(68) منطقة سكنية، أما عدد نفوسه فيبلغ نحو(230)الف نسمة، غالبيتهم من التركمان.
ناحيةربيعة: تبلغ مساحتها نحو(1381)كم2، وتضم (78) منطقة سكنية، أما عدد نفوسها فيبلغ نحو(85) الف نسمة، وتسكنها اغلبية عربية تنتمي الى عشائر شمر.
ناحيةزمار: تبلغ مساحتها نحو(791)كم2، وتضم (85) منطقة سكنية، أما عدد نفوس الناحية فيبلغ نحو(110) الف نسمة، وتتكون من نحو(78) قرية، منها(49) قرية عربية، و(29) قرية كردية.
ناحيةالعياضية: تبلغ مساحتها نحو(750)كم2، وتضم (50) منطقة سكنية يبلغ عدد نفوسها نحو(53) الف نسمة، ويسكنها خليط من التركمان والعرب وقلة من الأكراد في القرى التابعة لها.
ويبلغ عدد المؤسسات والدوائر الحكومية في مركز قضاء تلعفر قبل احتلال داعش (146) دائرة، اما في النواحي التابعة للقضاء فيبلغ عدد هذه الدوائر(16) دائرة، ويضم القضاء عدد من الاحزاب السياسية ومقراتها يصل الى(19) حزباً، اما دور العبادة فيصل عددها الى (46) جامعاً وحسينية، وهناك مستشفى واحدة و(29)مركز صحي و(5)قيد الانشاء ومركز للتدرن ومركز تخصصي للأسنان، و(234)مدرسة ابتدائية و(70)مدرسة ثانوية واعدادية وروضتي اطفال، وجامعة واحدة هي جامعة تلعفر التي تضم كليات: (التربية الاساسية، والتمريض، والزراعة، ونظم المعلومات)، ومعهد للمعلمين ومعهد تقني.
خريطة رقم (1)
التقسيمات الإدارية لقضاء تلعفر في محافظة نينوى
تتميز مدينة تلعفر والنواحي التابعة لها بمجموعة من المقومات الأساسية من موارد طبيعية وبشرية وصناعية، الامر الذي يجعلها من المدن المهمة في العراق عموماً ومحافظة نينوى على وجه الخصوص، وعلى النحو الآتي:
الموقع الجغرافي: تمتاز المدينة بموقع استراتيجي مهم حيث تتوسط منطقة “الهلال الخصيب”، وتشكل معبراً برياً بين مدينة الموصل في الشرق ومدينة حلب السورية في الغرب، وبين مدينة كركوك جنوباً ومدينة أورفا التركية شمالاً، وتتمركز في المثلث الحدودية بين العراق وسوريا وتركيا، فهي تبعد عن الحدود بنحو(60)كم، وعن مدينة الموصل بنحو(70)كم.
التركيبة السكانية: تمتاز المدينة بتنوعها العرقي والديني والمذهبي، إذ أن غالبية سكانها من المسلمين التركمانالذين يتوزعون طائفياً إلى سنّة وشيعة، ويليهم في العدد العرب ثم الاكراد، اما بالنسبة للعشائر التي تشكل بمجموعها المجتمع التلعفري فتنقسم الى قسمين:
الاول/عشائر مركز القضاء والتي تضم نحو(68)عشيرة.
والآخر/ عشائر الاطراف وتضم نحو(18)عشيرة.
الثروة النفطية: توجد في شمال المدينة حقول عين زالة النفطية، وكان العمل جارٍ مع الجهات المختصة لاستثمار حقول النفط في شمال غرب تلعفر في منطقة (جبلة سوسان) الموجودة من ضمن الرقعة الجغرافية للقضاء واستخراجه مما يسهل القضاء على البطالة ورفع المستوى المعاشي، بالإضافة الى ذلك وجود مصفى(الكسك) الذي يعمل بطاقة انتاجية تصل الى نحو(100) الف برميل يومياً، كما تحتوي المدينة على بعض المعادن المهمة كالكبريت والفسفور والمغنيسيوم.
الثروة الزراعية والحيوانية: تعد تلعفر من اكبر المناطق الزراعية في محافظة نينوى، حيث تبلغ مساحة الاراضي المزروعة نحو(2.5) مليون دونم من مجموع (11.5) مليون دونم من اراضيها الصالحة للزراعة، وتشتهر بزراعة الحبوب كالحنطة والشعير التي يتراوح الانتاج السنوي منها ما بين(1-1.5) مليون طن، وتعتمد هذه الزراعة على مياه الامطار(الزراعة الديمية)، كما تشتهر المنطقة بزراعة المحاصيل الصناعية كالقطن والزيتون وعبّاد الشمس التي تدخل في صناعة الزيوت النباتية، إضافة الى الخضروات والفواكه وغيرها من المحاصيل الزراعية، وقد تمّ العمل بمشروع “ري الجزيرة الشمالي” لتشجيع الزراعة المروية (السيحية) في القضاء، لكن المشروع توقف عن العمل ولم يتم انجازه، كما تعرّضت بناه التحتية للتخريب من قبل تنظيم داعش الارهابي.
المنافذ الحدودية: يضم قضاء تلعفر منفذاً حدودياً مهماً مع كل من سوريا وتركيا وهو معبر ربيعة الحدودي، يدّر على محافظة نينوى مبالغ كبيرة من واردات المرور عبر هذا المعبر، كما أن هناك مشاريع لفتح معابر حدودية اخرى لزيادة التبادل التجاري مع دول الجوار مثل (معبر سحيلة) مع تركيا، ولقضاء تلعفر حق الاستفادة من واردات هذا المعبر في اعمار المدن والنواحي التابعة له بحسب الدستور والقوانين العراقية في حال تم تحويل القضاء الى محافظة، ويعد مطلب الاغلبية التركمانية في تلعفر.
السياحة: تعد المدينة بما تحتويه من معالم تاريخية ومناطق طبيعية جميلة جاذبة للسياح من مختلف انحاء العالم، فهي تشتهر بوجود قلعة تلعفر التاريخية التي يعود تاريخها الى العهد الآشوري منذ الاف السنين، وكذلك منارة سنجار التي يعود تاريخها الى عهد الاتابكة، بالإضافة الى وجود مناطق طبيعية جميلة كالمواقع السياحية في منطقة سد الموصل في ناحية زمار، وموقع سد وبحيرة تلعفر، وموقع (خضر الياس) والذي هو عبارة عن تل اثري جنوب مركز المدينة، وتل الجول الاثري (قره تبه) وتل الرماح الكبير(بيوك صبان)، وتل كوجك صبان، وتل سنباك، وغيرها من المواقع الاثرية التي يزيد عددها عن عشرين موقعاً.
الاوضاع في تلعفر منذ العام 2003 وحتى العام 2014
بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق في نيسان العام (2003) والاعلان عن سقوط النظام السابق، تعرضت بعض الدوائر الحكومية في مدينة تلعـفر إلى عمليات سلب ونهب كما هو الحال في اغلب مدن العراق، فأخذ ابناء المدينة من الوجهاء وابناء العشائر على عاتقهم حماية بعض الدوائر، وتم عقد اجتماع في مسجد الإمام الحكيم في المدينة نتج عنه اقتراح تشكيل (مجلس شورى محلي) يتولى مهمة حماية الممتلكات العامة وتنظيم إدارة المدينة، وقد ضم المجلس شيوخ عشائر ورجال دين، وتمكن من القيام بدور ممتاز في ادارة شؤون المدينة، إذ حرص المجلس على عقد ندوات جماهيرية في الجامع الكبير يحضرها المئات من أبناء المدينة على اختلاف انتماءاتهم القومية والمذهبية.
وفي العام(2004)، أصبحت تلعفر ساحة لعمليات الجماعات المسلحة ضد قوات الاحتلال الامريكي التي كانت قد دخلت المدينة بتاريخ(8/5/2003)، واتخذت من “معسكر كسك” خارج المدينة مقراً لها مع قوات البيشمركة الكردية، وبعد فترة قامت القوات الامريكية بتشكيل وحدة من الحرس الوطني بمستوى لواء مؤلفة من نحو(10)الاف جندي يؤلف الاكراد نحو(90%)منها، وقد تعرضت المدينة جراء العمليات العسكرية المتبادلة بين القوات الامريكية والجماعات المسلحة الى معاناة انسانية وأمنية كبيرة لاسيما في الفترة التي نشط فيها (تنظيم القاعدة الارهابي) في المنطقة، فكثرت فيها التفجيرات وعمليات الاشتباك المسلح بين هذه المجموعات من جهة وقوات الاحتلال الامريكي والقوات الامنية العراقية من جهة أخرى. ففي ايلول العام (2004)، قامت القوات الامريكية بعملية عسكرية اطلقت عليها تسمية (الاعصار الاسود)، قصفت خلالها كل من حييّ حسنكوي والسراي وسط مدينة تلعفر استمر لمدة (13)ساعة، واسفر القصف عن سقوط (45)قتيلاً واصابة أكثر من (80)شخصاً، وذلك بعد أن تعرضت القوات الأميركية لهجمات متعددة بقذائف الهاون والقذائف المضادة للدبابات والعبوات الناسفة والاسلحة الرشاشة، اثناء قيامها بعملية لاستعادة السيطرة على المدينة من قبضة المسلحين.
وفي أيلول العام(2005)، شنت القوات الامريكية عملية عسكرية كبيرة أخرى على المدينة اطلقت عليها تسمية(استعادة الحقوق) استمرت ثلاثة اسابيع، شارك فيها نحو(5000) جندي أميركي تساندهم طائرات (الأباتشي)، حيث قامت بمحاصرة المدينة وقصفت احياء السراي وحسنكوي وشارع الثمانين وحي الوحدة وحي القادسية وحي السلام والعروبة وحي الربيع وبعض الأحياء الأخرى، واستخدمت مختلف الأسلحة لاقتحام المدينة الامر الذي أدى إلى سقوط أكثر من(200)قتيل وتدمير(9)مساجد و(5)مدارس ومحطات لتصفية المياه وهدم نحو(140)منزلاً سكنياً ونزوح عشرات الآلاف من السكان.
وظلت مدينة تلعفر والمناطق التابعة لها على مدى سنوات الاحتلال الامريكي للعراق، تشهد عمليات عسكرية وهجمات متبادلة بين القوات الأميركية والعراقية من جهة والجماعات المسلحة من جهة أخرى، الامر الذي زاد من حصيلة خسائرها البشرية والمادية بشكل كبير، وكانت ابرز ملامح تلك الفترة هي الاغتيالات على الهوية الطائفية التي كانت تقوم بها التنظيمات الارهابية، إذ وصلت المدينة إلى مرحلة لا يستطيع فيها المواطن “الشيعي” العبور إلى المناطق ذات الغالبية “السُنية”، وكذلك “السُني” لا يستطيع العبور فيها إلى المناطق ذات الغالبية “الشيعية”، وكان للسياسات الخاطئة من قبل القوات الاحتلال الامريكي دوراً مهماً في تغذية هذا النزاع الطائفي وتأجيج الحرب الطائفية بشكل دموي([3])، فعرفت القوات الأميركية منذ دخولها المدينة سطوة مقاتليها، وكثيراً ما كانت تقوم هذه القوات بسحب ما تبقى من حطام آلياتها المدمرة بفعل الكمائن والعبوات الناسفة، كما عرفت المدينة الكثير من الأعمال الإرهابية، والكثير من نشاط الفصائل المسلحة، وعرفت تنظيم “القاعدة” الارهابي في مختلف مراحله العمرية؛ ابتداءً من ما كان يعرف بـتنظيم “التوحيد والجهاد”، مروراً بتنظيم “القاعدة في بلاد الرافدين”، وتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق”، وصولاً إلى تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” في العام 2014.
ظهور داعش وسقوط تلعفر العام 2014
بعد سقوط مدينة الموصل بيد تنظيم داعش الارهابي في التاسع من حزيران العام(2014)، وانهيار القوات الامنية، انهارت القوات المكلفة بمسك الطوق الخارجي لمدينة تلعفر والتابعة للواء المشاة العاشر/الجيش العراقي (قوة حماية تلعفر) والتي كانت متمركزة في اطراف المدينة، وقامت بترك مواقعها واسلحتها، حيث تسللت الجماعات الارهابية من الجهة الشرقية للمدينة والتي كانت ضمن قاطع مسؤولية اللواء المذكور، وتمركزت في قرية العلو احدى قرى الضاحية الشرقية لتلعفر، وبدأت بقصف المدينة بالمدفعية والهاونات وصواريخ الكاتيوشا منذ منتصف ليلة 14/15 حزيران واستمر القصف حتى اليوم التالي، وبدأت اشتباكات عنيفة في البوابة الشرقية للمدينة بين القوات المدافعة عن المدينة والمتمثلة بلواء الجزيرة/ شرطة اتحادية وعصابات داعش الارهابية، إذ تم قتل الكثير من العناصر الارهابية وتكبدهم خسائر فادحة، لكن استمرار القصف المدفعي والصاروخي العنيف على المدينة، ووصول تعزيزات وامدادات عسكرية الى قوات داعش، في مقابل عدم حصول المدينة على اي دعم اللوجستي من الغذاء والوقود والادوية، مع العلم ان المدينة كانت تعاني من حصار محكم من قبل الجماعات الارهابية، بالإضافة الى عدم وصول اي تعزيزات لوجستية من اقليم كردستان الى مدينة تلعفر عبر منفذ سد الموصل وفيشخابور.
وبدأت اعداد كبيرة من المدنيين بترك المدينة والنزوح باتجاه قضاء سنجار، وفي تلك الاثناء انتشرت شائعات بأن قوات البيشمركة الكردية ستدخل المدينة وتشارك في عمليات الدفاع عنها، وقامت بعض العناصر المندسة بإبلاغ النقاط الامنية والسيطرات بترك مواقعها واسلحتها وتركها لقوات البيشمركة والتوجه نحو قضاء سنجار، فانسحب امراء افواج الشرطة الاتحادية من المدينة الامر الذي سبب خللاً كبيراً واضعافاً لمعنويات المقاتلين، فانسحبت على اثر ذلك افواج الشرطة الاتحادية وقوات الشرطة المحلية الى مطار تلعفر، وفي اليوم التالي تجمعت القوات المتبقية من افواج الشرطة الاتحادية وقوات الشرطة المحلية، وبعد وصول فوج من قوات مكافحة الارهاب وعدد من المتطوعين من ابناء العشائر الى المطار، تمركزت هذه القوات (مكافحة الارهاب) ومقاتلي العشائر في بعض المناطق القريبة من المطار(سايلو تلعفر، وحي الكفاح الشمالي، وحي الكفاح الجنوبي، وحي المعلمين، ومنطقة العلوة)، وخاضت اشتباكات عنيفة مع قوات داعش استمرت عدة ايام تمكنت على اثرها من استعادة بعض المناطق من سيطرة داعش، لكن بسبب عدم تلقيهم تعزيزات عسكرية وامدادات لوجستية كافية من القوات المتمركزة في مطار تلعفر، والتي انسحبت من المطار باتجاه معسكرات البيشمركة في سنجار، الامر الذي أثر على القدرات القتالية لهذه القوات، بالمقابل تلقت قوات داعش تعزيزات عسكرية كبيرة من مدينة الموصل واستقدمت المدرعات وعجلات المشاة القتالية وكثفت من قصفها على القوات المدافعة (قوات مكافحة الارهاب ومتطوعي العشائر)، الامر الذي اضطر هذه القوات الى التقهقر وترك المدينة والانسحاب الى المطار، وفي يوم(23) حزيران قامت القوات المتمركزة في المطار والمكونة من ما تبقى من قوات الشرطة الاتحادية والشرطة المحلية وقوات مكافحة الارهاب ومقاتلي العشائر بالانسحاب من مطار تلعفر والتوجه الى معسكر لقوات البيشمركة في سنجار، الامر الذي ادى الى سقوط المطار بيد داعش، إذ اعلن التنظيم عن سيطرته على قضاء تلعفر بالكامل.
مما تقدم، يمكن يتضح بان اسباب سقوط مدينة تلعفر بيد عصابات داعش، يمكن تلخيصها بالآتي:
انهيار معنويات القوات الامنية من قطعات الجيش والشرطة الاتحادية بعد سقوط مدينة الموصل وانهيار القوات الامنية فيها وانسحابها بدون قتال امام مقاتلي داعش، على الرغم من قلة عددهم بالمقارنة مع حجم القوات الامنية التي كانت موجودة في مدينة الموصل، وهذا الامر انعكس على معنويات القوات الامنية المسؤولة عن حماية المدينة واطرافها ودفعها بالنتيجة الى الانسحاب من مواقعها واسلحتها وتركها بدون قتال.
انعدام التنسيق بين القوات الامنية التي كانت تتولى الملف الامني للمدينة من جهة وبينها وبين مقاتلي العشائر الذين هبوا للدفاع عن المدينة، بالإضافة الى تعدد القيادات الامنية وعدم التعاون مع بعضها البعض، بالمقابل فإن العدو كان متمرس ومدرّب بشكل عالي ومزود بمختلف انواع الاسلحة على الرغم من قلة عدده إلّا انه قاد المعركة بذكاء وحنكة ادت الى استنزاف القوات المدافعة عن المدينة وتشتيتها واختراقها وانهيارها بعد ايام قليلة بعد نفاذ ما تمتلكه من عتاد وغذاء وعدم تلقيها لأي دعم لوجستي.
كان للإشاعات التي بثتها العناصر المُندسّة وخلايا داعش النائمة في المدينة دوراً كبيراً في سقوطها، فبعد التعبئة والاستنفار الكبيرين لأبناء العشائر في المدينة والقوات المدينة وتجهيزهم بالأسلحة والاعتدة من مخازن الجيش والقوات الامنية داخل المدينة، بدأت الاشاعات تفعل فعلها في معنويات هذه القوات بمرور الايام، بأن قوات داعش قادمة وانها ستهاجم المدينة وانها اعدادها هائلة واسلحتها متطورة ولا يمكن لأي قوة الصمود بوجهها والانتصار عليها، هذا بالإضافة الى الشائعات حول انسحاب بعض القوات الامنية وترك مواقعها، وشائعات اخرى بوجوب ترك الاسلحة والانسحاب من المدينة وتسليمها لقوات البيشمركة التي سوف تتحرك لنجدة المدينة، كل تلك الشائعات ادت في ظل غياب التنسيق الى انهيار معنويات القوات المدافعة وعدم استطاعتها على مواصلة القتال.
الخلافات بين الحكومة المركزية وحكومة اقليم كردستان، والتي كان لها أثر واضح في سقوط المدينة، إذ رفض (مجلس اسناد تلعفر) بشدة مقترح طلب المساعدة من قوات البيشمركة الكردية (الفرقة الثانية) والتي كانت متمركزة على الشريط الحدودي مع سوريا، والذي تقدم به وجهاء عشائر مدينة تلعفر، وذلك من أجل فرض طوق امني على اطراف المدينة على بعد (15)كم، حيث أكد مجلس الاسناد رفض الحكومة المركزية لطلب أي مساعدة من حكومة الاقليم مهما كانت النتائج.
انعدام التكافؤ في الاسلحة والمعدات بين الطرفين، وذلك نظراً لما يمتلكه عناصر داعش الارهابية من اسلحة مختلفة كالمدافع والدبابات وصواريخ الكاتيوشا وقذائف الهاون والرشاشات الرباعية والثنائية وبنادق قنص لاسيما بعد وصول تعزيزات كبيرة قادمة من مدينة الموصل من دبابات ومدرعات وراجمات صواريخ استولت عليها عصابات داعش من قوات الجيش العراقي، مقابل ما كانت تمتلكه الاجهزة الامنية ومقاتلي العشائر من اسلحة خفيفة ومتوسطة.
انسحاب القوات الامنية من البوابة الشرقية للمدينة الأمر الذي ادى الى سيطرة داعش عليها ونشر القناصة على المرتفعات المحيطة بها، وادى بالنتيجة الى شلّ حركة القوات المدافعة داخل المدينة.
عملية تحرير تلعفر واصدائها الداخلية والاقليمية والدولية
اكتسبت مدينة تلعفر التي نزح عنها أكثر من نصف سكانها اهمية خاصة في السنوات الاخيرة، إذ اثارت جدلاً كبيراً على المستوى السياسي الداخلي والمستوى الدولي والاقليمي لاسيما الولايات المتحدة ودول الجوار، فعلى الصعيد الداخلي تثير بعض القوى السياسية العراقية (القوى السياسية السُنّية والتركمانية) مخاوف من انعكاس عملية تحرير المدينة على مستقبلها وتأثير ذلك في تركيبتها السكانية والادعاء باحتمال حصول عمليات انتقام طائفية ضد سكان المدينة، والذين بقوا محتجزين لدى داعش ولم يتمكنوا من الخروج منها، إذ تشير التقارير الاستخبارية الى أن أكثر من (2000)شخص من ابناء المدينة قد انضموا الى صفوف داعش سواء بإرادتهم أم مرغمين على ذلك، هذا إذا ما علمنا أن هؤلاء المقاتلين المحليين ينتمون الى “الطائفة السُنية” بغض النظر عن انتماءاتهم القومية فيما اذا كانوا من التركمان أم العرب أم غيرهم، بالتالي تعترض هذه الجهات السياسية على مسألة مشاركة فصائل الحشد الشعبي في عملية تحرير المدينة والاكتفاء بعملية العزل والتطويق والتي بدأ بالفعل بعملية تطويقها بمساعدة قوات الجيش العراقي منذ تشرين الثاني العام(2016) وتمكن من استعادة مطار الموصل واحكام الطوق على المدينة بشكل بكامل.
اما على المستوى الدولي والاقليمي، تتخوف الولايات المتحدة وتركيا من مما تصفه نوايا ايران بالسيطرة على (تلعفر) عن طريق “حلفاؤها” من بعض فصائل الحشد الشعبي، بغية تأمين ممر بري تتمكن عن طريقه من ارسال الدعم العسكري واللوجستي إلى حلفاؤها في كل من سوريا “نظام الرئيس بشار الاسد”، ولبنان “حزب الله” حيث الجبهة اللبنانية وخطوط التماس مع اسرائيل، فقامت الولايات المتحدة في العاشر من آب العام(2017)، بإرسال تعزيزات عسكرية الى تلعفر للمشاركة في معركة تحرير المدينة، وقامت بإنشاء قاعدة عسكرية (قاعدة كهريز) في محور منطقة الكسك غربي الموصل التي تبعد نحو (22) كم عن مركز قضاء تلعفر لتقديم الدعم والاسناد للقوات العراقية التي ستتولى مهمة اقتحام المدينة، هذا وتستمر الطائرات الامريكية بتنفيذ هجمات جوية على مواقع التنظيم في المدينة في اطار “التحالف الدولي ضد داعش” لاستنزاف قدراته القتالية. ومن الجدير بالذكر، أن الولايات المتحدة لديها تحفظات كبيرة على قضية مشاركة قوات الحشد الشعبي في معركة تحرير تلعفر، كما انها امتنعت عن التعاون أو تقديم أي دعم عسكري او لوجستي الى هذه القوات وتضغط باستمرار على الحكومة العراقية بهذا الخصوص، أما بالنسبة لموقف دول الجوار(تركيا وايران) والتي تتنافس على المدينة بسبب اهميتها الاستراتيجية لكل منهما، فبالنسبة لتركيا: تضم المدينة غالبية من السكان التركمان، أما بالنسبة لإيران تسكن المدينة اقلية شيعية متنفذة سياسياً، كما أن مدينة تلعفر نفسها ذات موقع استراتيجي مهم لكلا البلدين كونها قريبة من الحدود مع سوريا، الامر الذي يجعل منها قاعدة انطلاق استراتيجية ومرتكزاً لأي عمليات عسكرية عبر الحدود.
وتبدي تركيا اهتماماً كبيراً بما كان يعرف في العهد العثماني بـ”ولاية الموصل” التي تضم قضاء تلعفر ذو الاغلبية التركمانية، وتعد قضية حماية التركمان والدفاع عن حقوقهم “واجباً قومياً” يقع على عاتق الحكومات التركية المتعاقبة، ومن خلال تحليل موقف الحكومة التركية تجاه القضية التركمانية في العراق بصورة عامة وتلعفر بوجه الخصوص قبل وبعد سقوط محافظة نينوى بيد داعش، يمكن استنتاج الآتي :
تستخدم تركيا قضية الاقلية التركمانية في العراق أو الورقة التركمانية -ومنذ تأسيس الدولة العراقية- للضغط على الحكومات العراقية المتعاقبة لتحقيق مكاسب سياسية، وفي بعض الأحيان تستخدمها كورقة ضغط ضد حكومة اقليم كوردستان لتحقيق المصالح التركية لاسيما الاقتصادية داخل الاقليم.
لم تتدخل الحكومة التركية لتقديم المساعدة العسكرية لمدينة تلعفر للحيلولة دون سقوطها بيد تنظيم داعش الإرهابي، بعد هجومه على مدينة الموصل وتمكنه من السيطرة عليها، لا سيما وأن قضاء تلعفر كان الهدف القادم للتنظيم من اجل السيطرة عليه وتأمين خطوط امداداته مع سوريا، إذ تمكن التنظيم من احتلال المدينة بعد نحو اسبوع من القتال ضد ابناء تلعفر والقوات الامنية في المدينة وقام بارتكاب أبشع المجازر بحق ابناء المدينة، امام انظار العالم والحكومة التركية التي لم تحرك ساكناً ولم تتحرك لنجدة “أبناء جلدتها” من تركمان العراق.
لم تتدخل تركيا لدى حكومة اقليم كوردستان لمساعدة النازحين من اهالي تلعفر بعد نزوحهم الى قضاء سنجار شمال مدينة الموصل، لاسيما بعد تعرضهم الى مضايقات من قبل القوات الامنية الكردية في سنجار، كما لم تفتح الحكومة التركية حدودها لاستقبال اللاجئين التركمان الهاربين من قبضة تنظيم داعش الارهابي مثلما فعلت مع الايزيديين والسوريين.
موقف الحكومة التركية الرافض لمقترح الكتلة التركمانية باستحداث محافظة تلعفر، وكان هذا الرفض في الحقيقة لإرضاء حلفاؤها من سياسيي محافظة نينوى، ولم تراعي مصالح التركمان في المحافظة.
قلة الدعم الاعلامي من قبل وسائل الإعلام التركية لحقوق ومطالب الاقلية التركمانية في العراق، وابراز معاناتهم امام الرأي العام التركي وحشد التأييد والدعم والمادي والمعنوي لهم، إذ كانت قضية تركمان العراق شبه غائبة عن المواد الاعلامية التي تقدمها وسائل الاعلام التركية.
وعلى الرغم من كل ما تقدم، لابد من الاشارة الى ان تركيا كان لها بعض المواقف الايجابية من تركمان العراق، فعل سبيل المثال: وقفت تركيا الى جانب اهالي تلعفر في العامي(2008) و(2009) بتقديم المساعدات الانسانية، كما اقدمت على نقل جرحى العمليات الارهابية في المدينة ومعالجتهم في المستشفيات التركية، ومن ناحية اخرى دعمت الحكومة التركية المصالحة المجتمعية بين ابناء مدينة تلعفر فنظمت مؤتمرات المصالحة واستضافت عدداً من وجهاء المدينة، على الرغم من ان جهود المصالحة هذه لم يكتب لها النجاح بسبب غياب الشخصيات المؤثرة وصاحبة القرار.
فبعد سقوط الموصل سعت تركيا الى المشاركة في عملية تحريرها الموصل بشتى الوسائل بحثاً عن دور لها في رسم مستقبل المدينة المتنازع عليها، وقامت بإرسال قوات عسكرية الى سهل نينوى في منطقة بعشيقة وقامت بتدريب المتطوعين من ابناء العشائر المنضوين تحت ما يسمى “حشد نينوى”. من جانب آخر رفضت الحكومة التركية في البداية أي مشاركة لفصائل الحشد الشعبي في معركة تحرير تلعفر خوفاً مما تتدعي بحصول عمليات انتقام طائفية في المدينة، لكنها وافقت لاحقاً على مشاركة الحشد الشعبي مقابل تعهد الحكومة العراقية بأن تكون مهمة الحشد الشعبي ستنحصر على أسوار المدينة ولن تدخلها.
معركة تحرير تلعفر
بعد الاعلان عن تحرير مدينة الموصل من سيطرة تنظيم داعش الارهابي في العاشر من تموز العام(2017)، والقضاء على آخر معاقله في ما يسمى بعاصمة “دولة الخلافة الاسلامية في العراق وبلاد الشام”، اتجهت الانظار الى قضاء تلعفر والذي يعد آخر أهم معاقل التنظيم الارهابي في محافظة نينوى، وسط توقعات حول معركة تحرير تلعفر، بعضها ترى أن المعركة سوف تكون سهلة وغير معقدة، أما البعض الآخر فيرى العكس من ذلك، والحقيقة فإن معركة تحرير تلعفر ستكون بتقديرنا معركة شرسة وصعبة، وذلك في ضوء المعطيات الآتية:
أولاً: أنها تضم كبار قادة تنظيم داعش الإرهابي.
ثانياً: إن غالبية العناصر الارهابية الموجودة في المدينة هم من المقاتلين الأجانب لاسيما من الجنسيات (الاتراك، والأذريين، والشيشانيين)، وتشير المصادر الاستخبارية الى أن اعداد هؤلاء تتراوح ما بين (1500-3000) مقاتل مزودين بأحدث الاسلحة والمعدات سواء التي كانوا قد غنموها من القوات العراقية أم عن طريق التهريب، وهؤلاء لا خيار لديهم سوى القتال حتى الموت، فالقضاء محاصر من كافة الجهات من قبل القوات الامنية العراقية ولا سبيل لديهم للهرب.
ثالثاً: الطبيعة الجغرافية الصعبة لقضاء تلعفر سواء المتعلقة بالنواحي التابعة له أم بالأحياء السكنية في داخل مركز القضاء، والتي تزيد من صعوبة العمليات القتالية وتؤخر من سرعة حسمها، فبالنسبة لنواحي المدينة، كالآتي:
ناحية المحلبية: وهي ناحية تابعة إدارياً الى مركز قضاء الموصل، تقع شمال شرق تلعفر ويفصلها عن مركز القضاء منطقة جبل شيخ إبراهيم، وهذه المنطقة معروفة بوعورتها وكثرة كهوفها ومياهها الجوفية، وهذه المنطقة استخدمها عناصر تنظيم القاعدة الإرهابي في السابق كنقطة انطلاق لتنفيذ العمليات الارهابية في مدينة تلعفر ومحافظة نينوى، وتجدر الاشارة إلى أن هذه المنطقة كانت خاضعة بشكل كامل لسيطرة التنظيمات الارهابية قبل سقوط محافظة نينوى بيد تنظيم داعش الارهابي في حزيران العام (2014).
ناحية العياضية: تقع شمال تلعفر، وتتميز بكونها واقعة في وسط الجبال الممتدة الى قضاء سنجار، وتحيطها العديد من القرى العربية الواقعة تحت سيطرة قوات البيشمركة الكردية، وهذه المنطقة لا تشكل مقراً مفضلاً للتنظيمات الارهابية، لكونها لا توجد فيها كهوف ومياه جوفية واشجار، الامر الذي يجعل من الصعوبة بمكان استخدامها كقواعد انطلاق للعناصر الارهابية.
أما بالنسبة للأحياء السكنية في داخل مدينة تلعفر(خريطة رقم2)، فتتميز بعضها بكونها احياء قديمة ضيقة الازقة والشوارع مشابهة الى حد كبير لأحياء الجانب الايمن من مدينة الموصل، حيث يصعب دخول الآليات والمدرعات اليها، بالإضافة الى أن بعض هذه الاحياء كانت حواضن للجماعات الارهابية منذ سقوط النظام في العام (2003) وبروز تنظيم القاعدة الارهابي، وهذه الاحياء هي كالآتي:
حي السراي وحسنكوي: ويعدان من اقدم احياء المدينة، ومعقلاً لأبرز قيادات تنظيم داعش وعناصره.
حي الطليعة: يعد هذا الحي من الأحياء القديمة والمعروفة ببنيتها السكانية المختلطة من السُنّة والشيعة، ويتكون من ثلاث قطاعات تسمى (الاولى والثانية والثالثة)، ويُتوقع أن يشهد الحي معارك شرسة مع صعوبة تقدم القوات الامنية فيه بسبب ضيق أزقته وتقارب بيوته، ويحاذي الحي من الجهات الاربعة كل من: حي القلعة والربيع والوحدة، والخضراء والمعلمين ومنطقة الغابات التي تشكل نقطة ارتباط بين احياء السراي وحسنكوي، ومن المتوقع أن تستخدم التنظيمات الارهابية هذه الاحياء لعرقلة تقدم القوات واغلب بيوت هذه الاحياء قد تم تفخيخها.
حي النداء: يعد من الاحياء القديمة ويسمى بـ(حي بانيك) ويحاذي هذا الحي من الشرق حي الطليعة ومن الغرب حي المعلمين ومن الجنوب منطقة البساتين، واغلب سكان الحي هم من الطائفة (الشيعية)، ونزحوا منه عند دخول داعش المدينة.
حي القلعة: يعد حي القلعة مركز مدينة تلعفر، وتقع في وسطه قلعة تلعفر الاثرية التي تم تفجيرها من قبل عصابات داعش الاهابية قبل عامين، ويحاذي حي القلعة من الشرق وادٍ عميق، ويتصل الحي مع كل من حيي السراي وحسنكوي بجسر يربط بين هذه الاحياء.
منطقة البساتين: تعد منطقة البساتين من اصعب المناطق واكثرها وعورة، حيث تنتشر البساتين في جنوب المدينة وتتصل بحي الطليعة من الشمال وبحيي النداء والمعلمين من الغرب، ومن الشرق تتصل هذه المنطقة بحي الخضراء، وتبلغ مساحة منطقة البساتين نحو(1)كم2، ويقع مطار تلعفر العسكري جنوب غرب المنطقة، وهو حالياً تحت سيطرة القوات الامنية العراقية.
وتمكنت القوات الامنية العراقية منذ عدة شهور من حصار مدينة تلعفر، وتوزعت قواتها التي تقدّر بأكثر من(35)الف عنصر من قوات الجيش ومكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية والحشد الشعبي على محاور المدينة الأربعة، إذ أن محاور مطار تلعفر وطريق سنجار والشريعة ستكون ضمن مسؤولية قوات الجيش ومكافحة الارهاب والشرطة الاتحادية يساندها طيران التحالف، بينما ستتولى فصائل الحشد الشعبي محور قرية عين الحصان الجنوبي بمساندة سلاح الجو العراقي والذي باشر بالتعاون مع طيران التحالف الدولي بعمليات قصف عنيفة على المدينة استهدفت(13)حياً سكنياً تضم فيها مقرات لتنظيم داعش الارهابي تمهيداً لانطلاق العملية البرية لاقتحام المدينة، والتي ينتشر في داخلها نحو(3000)عنصر من مقاتلي التنظيم من جنسيات مختلفة بحسب مصادر عسكرية غربية وعراقية([4])، ويبقى الهاجس الوحيد لمعركة تحرير مدينة تلعفر هو انقاذ السكان المدنيين المحتجزين داخل المدينة والذين يقدر عددهم بـأكثر من(50)ألف مدني غالبيتهم من التركمان والعرب “السُنّة”، يفرض تنظيم داعش الارهابي عليهم إقامة جبرية ويمنع خروجهم من المدينة، ويعاقب بالقتل من يحاول منهم الفرار.
خريطة رقم(2)
الاحياء السكنية داخل مدينة تلعفر
الخاتمة
مع بدء ساعة الصفر وإعلان انطلاق أهم وآخر معارك تحرير ما تبقى من مناطق محافظة نينوى من دنس عصابات داعش الارهابية، بعد أن استكملت القوات الامنية العراقية تطويق المدينة وإحكامها بوجه اي هروب محتمل لمقاتلي داعش من المدينة مع بدء معارك تحريرها، يتزايد الجدل في الاوساط الرسمية والشعبية الداخلية والخارجية حول مستقبل هذه المدينة بعد تحريرها، واحتمالية انها ستصبح مدخلاً لصراع اقليمي ودولي بسبب موقعها الاستراتيجي المهم وتركيبتها السكانية، وتأثيرها في مستقبل الصراعات الدائرة بالقرب من الحدود العراقية مع كل من تركيا وسوريا، سواء تعلق الامر بمستقبل الدور الايراني في سوريا أم صراع الحكومة التركية مع حزب العمال الكردستاني(PKK)، الأمر الذي فتح الباب قبالة تدخلات اقليمية ودولية تسببت في تأخير انطلاق عملية تحرير المدينة، هذه العملية التي كان من المتوقع أن يتم حسمها قبل انطلاق عملية تحرير مدينة الموصل، باعتبار ان استعادة القوات العراقية لقضاء تلعفر سيعني قطع خطوط امداد التنظيم الارهابي من سوريا واضعافه وحرمانه الكثير من نقاط القوة في معركة الموصل.
وعلى الرغم من تضارب التوقعات حول سير معركة تحرير تلعفر التي انطلقت يوم 20 آب العام (2017)، وتزايد التصريحات والمواقف بخصوص القوات التي ستشارك في هذه المعركة، إلّا أن من شبه المؤكد أن تكون المعركة صعبة وشرسة وأنها ستحسم في النهاية لصالح القوات العراقية، لاسيما بعد الانتصارات الباهرة التي حققتها القوات الامنية العراقية وهزيمتها لهذا التنظيم الارهابي في معارك تحرير صلاح الدين والانبار، وكان آخرها سحق عصاباته في مدينة الموصل واعلان النصر في المعركة في تموز الماضي. لكن على الرغم من ذلك، تبرز المخاوف من تأثير الخلافات السياسية الداخلية والصراعات الاقليمية والدولية على مستقبل محافظة نينوى بشكل عام ومدينة تلعفر بوجه خاص، لاسيما وأن هنالك مناطق متنازع عليها وقضايا لم تحسم بين الحكومة المركزية وحكومة اقليم كردستان، وأزمات وصراعات اقليمية لازالت مستعرة بالقرب من الحدود العراقية، هذا بالإضافة الى صراعات قوى دولية عظمى وكبرى تقاطعت مصالحها في هذه المنطقة المهمة من العالم، وتسببت في تعقيد اوضاعها والتأثير على استقرارها وأمن وسلامة دولها.
التوصيات:
مساهمة دول الجوار الاقليمي والقوى الدولية بصورة ايجابية في دعم الحكومة العراقية في حربها ضد الارهاب بصورة عامة وعملية تحرير تلعفر بوجه الخصوص، وذلك من خلال تقديم كافة اشكال الدعم السياسي والعسكري والاعلامي، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للعراق، والوقوف على مسافة واحدة من جميع القوى السياسية العراقية والقوميات والطوائف التي يتكون منها الشعب العراقي.
ضرورة العمل باتجاه تحويل قضاء تلعفر بعد تحريره الى محافظة تضم قضائي تلعفر وسنجار، وذلك ضمن الآليات والضوابط الدستورية التي نص عليها الدستور العراقي، والذي يسمح باستحداث محافظات جديدة.
ضرورة انجاز مشروع اصدار البطاقة الوطنية باسرع وقت ممكن قبل انتهاء عملية تحرير المدينة والاستعداد لاعادة نازحيها، وان تكون شرطاً لعودة الاهالي للمدينة لاسيما البالغين، ولا يسمح لمن لم يستخرجها بالدخول الى المدينة، والغاية قطع الطريق امام عودة الارهابيين من ابناء المدينة والمنتمين الى عصابات داعش الارهابي، إذ أن عدد كبير من هؤلاء كان قد هرب مع عوائلهم الى سوريا و تركيا، لهذا نقترح الاتي:
الاسراع باصدار البطاقة الوطنية للعوائل النازحة والموجودة في محافظات كربلاء والنجف وبغداد وكركوك بالتنسيق مع دائرة احوال تلعفر.
التنسيق مع الجهات الامنية لتدقيق اسماء النازحين الجدد الذين خروجوا بعد تحرير نينوى ومقارنتها بقاعدة بيانات المطلوبين.
ان يكون العاملين في جميع مكاتب الاصدار هم من ابناء المدينة بعد التدقيق عن معلوماتهم الشخصية لقطع الطريق امام المتعاونين مع الجهات الارهابية .
الاعتماد على السجلات الموثقة لغاية العام(2013) الموجودة في المديرية العامة للجنسية، علما ان سجلات دائرة احوال تلعفر تضم اكثر من(283) سجل، اضافة الى ذلك يوجد أكثر من(5000) معاملة لم يتم تسجيلها في السجلات الاصلية خلال السنتين الماضيتين.
أن يتم تطبيق هذا الشرط في المرحلة الاولية على من هم في سن(14)عام فما فوق، وبشرط أن يتم اصدار البطاقة بحضور رب الاسرة.
يجب ان لا يتم افتتاح أي فرع للتسجيل في أي دولة اجنبية، وأن يتم التسجيل داخل العراق حصراً.
استحداث قيادة عمليات غرب نينوى على ان تكون قياداتها الامنية من ابناء تلعفر وذلك لكونهم اعرف باحوال المنطقة، واشراك الحشد الشعبي والحشد العشائري من ابناء تلعفر بمسك الارض بعد التحرير، وتسليم كافة القرى التابعة للقضاء والتي تسيطر عليها حالياً قوات البيشمركة الكردية الى قوات الشرطة المحلية.
اجراء مصالحة مجتمعية بين ابناء المدينة تحت اشراف الحكومة المركزية ومساعدة الامم المتحدة بتنفيذ العدالة الانتقالية، وضرورة عودة جميع النازحين من ابناء المدينة.
دعوة الامم المتحدة ودول الجوار لاسيما تركيا الى المساهمة في اعادة اعمار المدينة.
جعل المدينة منزوعة السلاح وحصر السلاح بيد الدولة.
منع التدخلات الحزبية والعشائرية في ادارة المدينة، وعدم التدخل في مهام واعمال مجلس قضاء المدينة(والمجالس البلدية التابعه له).
توفير الحماية اللازمة للقضاة من اجل ممارسة مهامهم بكل حرية وحيادية بعيداً عن التهديدات والضغوط، وان يتم اختيارهم بعناية وفقاً لمعايير النزاهة والاحتراف والثقة وان يكونوا من اهل المدينة.
توفير فرص عمل لابناء المدينة لاسيما شريحة الشباب، وخلق مناخ اقتصادي مناسب للعمل والتجارة وذلك لتشجيع عودة الاهالي الى المدينة وتطبيع الحياة فيها.
اعادة تأهيل المؤسسات الصحية ومراكز التأهيل الطبية والنفسية وتنفيذ البرامج الخاصة بمساعدة المنظمات الدولية المتخصصة، لاعادة تأهيل اهالي المدينة وازالة الآثار النفسية والاجتماعية والايديولوجية التي خلّفها احتلال داعش للمدينة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش والمصادر:
([1] ) قحطان احمد عبوش، “ثورة تلعفر1920 والحركات الوطنية الاخرى في منطقة الجزيرة”، مطبعة الازهر، بغداد، 1969، ص6-8.
([2] ) جعفر التلعفري، “موجز تاريخ تلعفر”، الديار للطباعة، بغداد، 2012، ص23-30.
([3]) منال الشيخ، “تلعفر العراقية وازمة الهوية”، صحيفة المدن، 13/4/2016، متاح على:
http://www.almodon.com/culture/2016/4/13/%D8%AA%D9%84%D8%B9%D9%81%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A3%D8%B2%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%88%D9%8A%D8%A9
([4] ) عثمان المختار، “انطلاق معركة تحرير تلعفر جواً بضمانات لأنقرة وبدروس اخطاء الموصل”، العربي الجديد، 15/8/2017 ، متاح على:
https://www.alaraby.co.uk/politics/2017/8/15/%D8%A7%D9%86%D8%B7%D9%84%D8%A7%D9%82-%D9%85%D8%B9%D8%B1%D9%83%D8%A9-%D8%AA%D9%84%D8%B9%D9%81%D8%B1-%D8%AC%D9%88%D8%A7-%D8%A8%D8%B6%D9%85%D8%A7%D9%86%D8%A7%D8%AA-%D9%84%D8%A3%D9%86%D9%82%D8%B1%D8%A9-%D9%88%D8%A8%D8%AF%D8%B1%D9%88%D8%B3-%D8%A3%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%B5%D9%84
المصدر/ مركز النهرين للدراسات الاستراتيجية