من المسلمات البديهية لدى شرائح اجتماعية وسياسية وثقافية وقانونية وقضائية واسعة في اوساط الشعب العراقي الى جانب احزاب وقوى تقدمية, أن حق تقرير المصير للشعب الكردي بصورة عامة هو حق لا جدال فيه انطلاقا من المواثيق الدولية والفلسفات الانسانية الداعية الى احترام حق الشعوب في تقرير مصيرها وحتى إقامة كياناتها المستقلة استنادا الى خصوصيتها العرقية والاثنية وحتى الدينية, وخاصة عندما تتعرض الى الانتهاك او الابادة الجماعية او الاحتلال, وعدم السماح بانفراد مكون وتسلطه على مكون آخر, وعلى خلفية ذلك قدمت الكثير من الاحزاب التقدمية والوطنية العراقية الكثير من التضحيات الجسام, سواء في الارواح أو تحمل شتى صنوف القهر والتعذيب والمضايقات والهجرة والتهجير وفقدان المستقبل, راح ضحية هذا النضال خيرة من سياسي ومثقفي وعامة من المناضلين والذين آمنوا حقا بحق الشعب الكردي بتقرير مصيره وادارة نفسه بنفسه, كان هذا في ظل عراق قبل 2003 والذي ساد فيه القمع والارهاب السياسي والتمترس الشوفيني وعدم الانصياع لحكمة العقل في أن العراق ليست مكون واحد ولا يمثله حزب واحد ولا دين أو مذهب واحد !!!.
قبل عام 2003 لم يعيش العراق صراعا أثنيا أو دينيا أو مذهبيا بين مكوناته, بل ان الصراع كان سياسيا اجتماعيا له قوانينه الموضوعية مع نظام دكتاتوري قمعي لا يؤمن بالديمقراطية السياسية وقد اعتمد القمع والتهميش والشوفينية وسيلة لبقائه, وساهم النظام من خلال اضطهاده للمكونات المعارضة العربية والكردية وغيرها في تكريس حسا انكفائيا متزايدا بين شرائح واسعة في المكونات المختلفة بسبب تمادي القمع والاضطهاد وما رافقها من غياب للأمل في التغير.
بعد سقوط النظام السابق على يد المحتل الامريكي للعراق قام الاحتلال عبر طريقة الحكم بتكريس حالة الانكفاء المذهبي والديني والاثني من خلال نظام المحاصصة الطائفي والاثني مستخدما الولاءات للجماعات الفرعية, باعتبارها ردود افعال لسياسات النظام السابق, وتحويلها الى نهج شامل بنيت عليه سياسة الدولة والمجتمع, مما اضعف من الديناميات الايجابية لعملية الصراع السياسي والاجتماعي في فرز القوى الحقيقية ذات المصلحة في التغير, وادخل المجتمع العراقي في طاحونة وتنازع كامل بين مكوناته وهوياته الفرعية وعزز من خطاب الكراهية بفعل غياب الخطاب الوطني الجامع والعابر للمكونات !!!.
ومما زاد الطين بله ان معظم القوى السياسية التي أتت واستلمت الحكم بعد السقوط لم تحمل في غالبيتها مشروعا وطنيا عابرا للهويات الفرعية وخاصة الطائفية منها والاثنية, ان لم نقل انها لا تؤمن بالديمقراطية ولا بالتداول السلمي للسلطة عبر الانتخابات الحرة والنزيهة, وما صناديق الاقتراع بالنسبة لها الا وسيلة فرضها الاحتلال فرضا, وخاصة القوى الاسلاموية التي رأت في ذلك فرصتها الوحيدة والسانحة لاستغلال ظروف اليأس والاضطهاد السابق واضفاء الصبغة الدينية والمذهبية على الصراع الاجتماعي ولعرقلة الحراك الطبقي في المجتمع العراقي. وحتى القوى والاحزاب الكردية, وخاصة الرئيسية منها فلم يكن هاجسها الرئيسي بناء الديمقراطية ونظام التعددية الحزبية ودولة المواطنة, بقدر ما تعلق الامر في انتزاع الحقوق القومية الخالصة بطريقتها الخاصة, بعيدا عن الصراع الاجتماعي السياسي العام الذي يؤطر المجتمع العراقي كله, بل ان هذه القوى اختلفت فيما بينها حد التناحر والصدامات المسلحة الدموية عندما سنحت الفرصة والظروف الدولية بعد عام 1991 باستقلال اقليم كردستان !!!.
لقد ساهمت القوى السياسية الرئيسية الشيعية والكردية ثم السنية في تأسيس النظام المحصصاتي القائم وصاغت اركانه الاساسية وفي مقدمتها الدستور وكرسوا كل امكانيات التعبئة الحشدية للتصويت عليه واقراره ” وخاصة القوى الشيعية والكردية “, ثم استمرت رحلة توزيع المناصب السيادية والوزارية ومختلف المناصب العليا في الدولة على أسس من المحصصات الطائفية والاثنية, والتي بدأت ادارة مجلس الحكم الانتقالي بالتأسيس لها, حتى باتت تقليدا ثابتا خارج الدستور: رئيس الجمهورية كردي, رئيس الوزراء شيعي, ورئيس البرلمان سني, ويتبع ذلك توزيع الوزارات والمرافق الحيوية واللجان الاختصاصية المختلفة داخل البرلمان وخارجه وصولا الى مفوضية الانتخابات ومنظمات حقوق الانسان وغيرها.
وعلى هذا الاساس فأن اطراف المحاصصة الشيعية والكردية والسنية تتشبث ببقاء نهج السلطة وتقسيم غنائمها, وان كل ما يصدر من قرارات وقوانين وتشريعات عامة لا تخلو من نكهة الصفقات الطائفية السياسية والاثنية, واذا كانت الطائفية السياسية اشد وضوحا في التعبير عن نفسها, فأن التحالف الكردي لا يتوانى عن تكريسها, وقد ابتلى العراق جراء ذلك ومن اقصى جنوبه الى اقصى كردستانه بفساد ادراي ومالي ونهب للمال العام, تصدر العراق فيه دول العالم. وأن الطرف الكردي الذي اعتبر في حينها المصادقة على الدستور انتصارا كبيرا للشعب الكردي, وخاصة بما يتعلق بالمادة 140 الخاصة بكركوك والمناطق المتنازع عليها ومواد اخرى ذات الصلة بصلاحيات الاقليم وعلاقته بالحكومة الاتحادية وتوزيع الثروات واعتبروه بديلا عن حلم الدولة الكردية, يتهم حكومة المركز بأنها طائفية وكأن طائفيتها وليدة الخلاف حول الاستفتاء, والجميع يعرف ان النظام السياسي في العراق طائفيا واثنيا محاصصاتيا منذ نشأته الاولى !!!.
واليوم ورغم تذمر التحالف الكردي من حلفائه في الحكم فهو لم ينطق بضرورة تغير او تعديل او اعادة بناء الدستور على أسس سليمة وتصحيح مسارات العملية السياسية ” وهم قادرين على ذلك دستوريا “, وهي مطالب مشروعة للشعبين العربي والكردي والشعب العراقي بصورة عامة, طالب بها الحراك الاجتماعي المدني والعديد من الاحزاب والقوى الديمقراطية, فلم يتخلف التحالف الكردي أسوة باحزاب الاسلام السياسي على التصويت على قانون سانت ليغو الانتخابي ” 1.9 و 1.7 ” الذي يصادر اصوات الناخبين من الكتل السياسية والاحزاب الصغيرة, واذا كان الامر لايعني التحالف الكردي في مناطق وسط وجنوب العراق, فهناك في كردستان ما يقارب 16 حزبا, ولكن الكبيرة والمتنفذة منها هو حزبيين رئيسين فقط ” الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني “.
وتأتي الدعوة اليوم الى اجراء استفتاء كردستان والمزمع تنفيذه في 25 أيلول الجاري, والداعي الى تبيان رأي الكرد في مسألة الانفصال عن العراق من عدمه, ومن الناحية المبدئية فأن الحق لأي شعب ديمقراطيا أن يجري الاستفتاء, فهو أداة لأستقراء المزاج العام لشعب ما في مختلف القضايا المفصلية بما فيها الانفصال وتقرير المصير بغض النظر عن استخدام نتائج الاستفتاء في الممارسة العملية, ولكن خصوصية الاستفتاء الكردي ناتجة من انهم طرف اساسي في العملية السياسية ومساهم في بنائها وانتكاساتها, الى جانب اشكاليات اجراء الاستفتاء في ظل بيئة سياسية كردية تعاني الكثير من عدم الاستقرار والوضوح. ومن هنا لابد من خطوات مفصلية تسبق اجراء الاستفتاء ولعل ابرزها:
ـ انتخاب رئيس جديد للأقليم بديل عن الرئيس الحالي المنتهية صلاحيته منذ سنتين.
ـ اجراء انتخابات برلمانية ديمقراطية في الاقليم واعادة تفعيل البرلمان الحالي والمغلق منذ فترة طويلة, وان يصدر قرارا من البرلمان بأجراء الاستفتاء.
ـ بدء المفاوضات والحوارات البناءة مع الحكومة الاتحادية والتي يشكل الكرد جزء منها, مع العلم هناك صعوبات جدية في الموقف من حق الشعوب في تقرير مصيرها لدى قوى كثيرة في الحكومة ومنها الشوفينية والطائفية, فلا يوجد في قاموسها شيء اسمه حق الشعوب في تقرير مصيرها بما فيه حق الانفصال.
ـ الالتفاف والتضامن والوقوف الكامل مع عملية الحراك الاجتماعي المدني والاحتجاجي التي ينهض بها ابناء ومناضلين الوسط والجنوب, وهذه الحركة اكثر تفهما مزاجيا وفكريا وسياسيا لمفاهيم الحق والعدالة وتقرير المصير ومحاربة الفساد.
ـ ان تكون القوى الكردية اليوم اكثر التصاقا من اي وقت مضى مع القوى الداعية الى بناء العملية السياسية من جديد على أسس اكثر ديمقراطية وليست محصصاتية.
ـ القضاء الكامل على الارهاب وعلى داعش بوجه خاص والذي لازال يتحرك اخطبوطيا ويهدد أمن البلاد ويبحث عن متنفس له في بقع اخرى في العراق بما فيها كردستان, واعتقد ان الامن شرط لازم لبناء اي عملية دديمقراطية او القدوم على تنفيذ طموح ما, مثل الاستقلال وتقرير المصير وغيرها.
ـ ان تكون القناعة من وراء الاستفتاء قناعة خالصة بحق الشعب الكردي في تقرير مصيره, وليست اداة للابتزاز وادارة الصراع مع سلطة المركز وما يخفي من وراءه صراع على الموارد المالية والطبيعية واقتسام مناطق النفوذ بعيدا عن حقوق الشعب الكردي المشروعة في الاستقلال والعيش الكريم والرفاهية وبعيدا عن الفساد الاداري والمالي الذي يعاني منه الاقليم الآن.
ـ الاستعانة بالمنظمات الدولية وخاصة الامم المتحدة لأجراء الاستفتاء لكي تكون نتائجه مصادقة عليها وملزمة للجميع, والابتعاد عن سياسات الاكراه والضغط والتهديد للمكونات الاخرى داخل المناطق المتنازع عليها, وتجنب سياسات فرض الامر الواقع عبر ضربات واجراءات استباقية, وهنا يمكن الاستعانة بالمنظمات الدولية والمدنية المستقلة لتقرير مصير المناطق المتنازع عليها.
اعتقد في الختام ان تعزيز الحياة الديمقراطية في العراق كله والابتعاد عن نهج المحاصصة, وفي كردستان بوجه خاص هنا في قضية الاستفتاء وتقرير المصير, هو الكفيل بتحقيق المطالب العادلة والمشروعة للشعب العراقي كله والشعب الكردي. واذا اراد الاكراد نهاية حقيقية لسايكس بيكو ورسم ملامح تطلعاتهم الحقيقة في الاستقلال فأن الديمقراطية هي الباب الاوسع لتنفيذ الطموحات, وإلا سيفشلوا كما فشل الطموح لتحقيق الوحدة العربية على ايدي اعداء الديمقراطية والقوى القومية العربية الشوفينية !!!.