استل سلاحه واطلق رصاصة الموت في رأسه، بدل من نثر الحناء على جسدها نثرث سائل البنزين و اشعلت عود الكبريت، فنبعثت روحها كأنبعاث دخان عيدان البخور، اسرت لحبيبها سراً فتآمروا على قتل زوجها الذي لم يفز بقلبها، هناك بين نباتات الصحراء وضع حبلاً حول رقبته فتسلقت انفاسه الى السماء.
الرحمة! ماذا اصاب مدينة ابراهيم الخليل، ماذا اصاب شعب سومر والزقورة، ماذا اصاب بنات عشتار والقيثارة، ماذا اصاب مشحوف الهور، كأن طوفان اليأس قد دب في سفينة نوح، فأغرق مخلوقات الامل والتشبث بالحياة، وطائر الفلامنكو هجر مستنقعات الاهوار فلم ترقْ له مجازر النفس تجاه النفس، تلطخ خدي شبعاد برماد اليأس والحرمان، وتمحورت عيناها تجاه الانتحار.
تلعثمت التكهنات بداخل عقلي، وتبعثرت مصفوفة افكاري، وانا افكر في اسباب الانتحار، وحالة القتل الشنيعة التي مورست في مدينتي ذي قار، حيث نقلت صحف الناصرية قبل ايام قليلة مضت ان القوات الامنية عثرت على رأس فتاة في ريعان شبابها والبحث مازال جاري عن جثمانها، وفي حادث منفصل رصدت شرطة الجنايات، ان فتاة في الثلاثين في عمرها، قد قتلت زوجها بأتفاق مسبق مع حبيها وهو اخ القتيل.
كان مبدأ مداورة الافكار منشغل في ذهني، حتى استوقفتني البراءة متمثلة بطفلة بالكاد تنطق بكلمة “عمو نطيني ربع” عندها وَضعت النقاط على الحروف وقلت في نفسي لعل الحرمان في الصغر ممكن ان يخلق وحشاً في الكبر، وقفت هنيهة لاتفحص تجمع مجموعة شباب في عمر الصبا قد اصطفوا بالطابور على مقاهي الانترنت التحاقا بقطار الموت في سلك الشرطة، لسد النقص الحاصل في صفوف القوات العراقية بأراضي الموصل وتلعفر، فأعداد الشهداء في تزايد لا نحسد عليه.
ليت شعري، ما ارخص تلك الارواح بداخل تلك الاجساد التي ارهقها النوم في ساعات متأخرة من اليل، والاستيقاظ في منتصف النهار، فبضاعة الجلوس في المقاهي واحتساء “النركيلة” بكل مضارها، اصبح من هوايات الشباب في مدينتي، اكملت طريقي على مهل، وقدماي تدحرج صغير الحصى، فأستقرت احدها بجوار رجل هرم، افترش الرصيف دون الديار، وقد علمت من الناس بجواره ان ابنائه قد طردوه، فأصبح بلا مأوى.
مازلت اجهل تلك الاسباب التي تجعل رجل في اخر العمر يحرق نفسه في اول تراتيل الصباح وامام أعين الناس وصاحب هذه السطور، فَّسر المتخصصون بعلم النَّفْس واطباء التوتر والاضطراب، ان مايدفع الناس للانتحار في هذه المدينة -المشهورة بكرم اهلنا وترحيب بالضيف حتى صارت تكنى “ولاية الغريب”- هو اسباب مادية اكثر من كونها معنوية، والعرف العشائري الطاغي على اغلب مبتغيات الارتباط الاسري باختيار النصف الاخر.
ان مايعتقده كاتب هذا المقال ان التغيرات داخل الروح المكنونة بأجساد شعب المدينة، التي اتعبها روتين الحياة، واختنقت بمتطلبات المعيشة، فأصابتها التشنجات، وغاب عنها بصيص الامل، وزين لها الشيطان قبح افعالها، فأقدمت على اسوء الاختيارات وهو الانتحار، ان غياب التعبئة في التنمية البشرية كان له الاثر الواضح في عدم السيطرة على النفس بساعات الغضب والتوتر.
مهما تعددت الاسباب والدوافع، لا اجد مبررا بأزهاق تلك الروح التي اودعها الله سبحانه امانه في اعناقنا، فكل شيء راجع اليه طوعا او كرها، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فهو رحيم بالعباد، وشديد العقاب، فتقديم الرحمة على العقاب في محكم كتابه، ماهي إلا دلالة وعلامة على رحمته جل وعلا، ترتعد مفاصل اليأس بقول الشاعر؛
ضاقت ولما استحكمت حلقاتها
فرحت وكان يضنها لا تفرج
فمصائب وتداعيات الحياة تنقضي كما تتقضي سنين العمر، وليس لها سوى بعض من الصبر، والايمان بما كتب الله علينا، وما كتب على نفسه من الرحمة.