كتب محمد الماغوط هذه المقولة والتي قد اخترتها عنوانا ً لمقالي، وهي تعبر لحد كبير عن حالنا، والوضع الراهن الذي نمر فيه. وما للطائفية من تأثير كبير في كل مفاصل الحياة، تكاد ان تكون كل الدول قد مرت فيها، منها من قضى عليها نهائيا واصبحت عبرة وموعظة تتعض منها الاجيال، ومنها من لا يزال يعاني مرارتها، وهو يحاول جاهدا ً الخلاص منها بكل السبل والوسائل.
قد نشترك كـعراقيين مع الماغوط بنفس المعاناة والالم جراء هذا الورم الخبيث، الذي زُرعٓ في خاصرتنا، كما تشارك هو والسياب التسكع على ارصفة بيروت، وقد عانى كلاهما مرارة المنفى والتشرد خارج حدود البلد؛ بسبب علل الوطن الكثيرة.
يتفق معظم المؤرخين في العالم الإسلامي على أن (الطائفية) كمفهوم لغوي وفكري وشرعي، هي تجسيد لفكرة “إنها الأقلية العددية المتحركة في إطار الكل، دون أن تنفصل عنه”. ووفق هذا الأساس، لم تكن الطائفية مشكلة في مجتمعنا الإسلامي، إن لم تكن غالبا مصدرا من مصادر قوته واجتهاد علمائه، وسبيلا يمنع الفرقة والاختلاف والانقسام، تبعا لما خص الله به هذه الأمة من سمات التجدد والتفكّر والإبداع.
إلى أن موضوع الطائفية لم يتحول إلى “إشكالية أو أزمة إلا في القرنين الأخيرين خاصة، وذلك تحت تأثير عوامل داخلية وخارجية، في ظرف تاريخي معين ساعد على إحداث نوع من التفاعل بين العوامل الداخلية والمؤثرات الخارجية”. وبذلك أصبح مفهوم الطائفية يمثل المذهب، وتحول أصحابه إلى حملة أيديولوجيات وهوية تجاوزت وتتجاوز -بحسب توفر الظروف الملائمة لها- ثوابت، سواء في العقيدة أم في مفهوم المواطنة.
تجلى مفهوم الطائفية واضحاً في الشارع العراقي بعد ان سيطر رجالات حزب البعث المنحل على مقاليد الحكم في العراق، فقد لعبوا على هذا الوتر طويلا ً وكثيرا ً وبشتى الطرق، وقد احترفوا اللعب جيداً بتقسيم الشعب العراقي الى فئات عرقية ومذهبية وطائفية وصولا ً للحزبية، وضعوا بذلك معايير للتفاضل بين ابناء الشعب الواحد على اسس وقواعد من صنعهم، بناءً على الانتماء للطائفة، الحزب، المدينة، والتي هي نفس طائفة وحزب ومدينة القائد الاوحد.
استمرت هذا المتبنيات حتى سقوط الصنم في عام 2003 وتنفس العراقيون الصعداء، وماهي الا فترة وجيزة حتى عاد هذا المرض العضال يتصدر المشهد الرسمي، ولكن بصورة اكثر دموية و شراسة، نزف فيه العراق خيرة شبابه دماءً زكية سالت من شماله حتى جنوبه. وتناثرت بين مفخخات، وعبوات ناسفة، والذبح على الهوية، والاسلحة الكاتمة.
بعدما تجرع العراقيون الويلات بعد الويلات، ادركوا جيدا ً ان السبيل الوحيد للخروج من هذه الغمة، هو نبذ الطائفية بكل صورها واشكالها، و وضع نصب اعينهم الوطن فقط، وصار التحول واضح في الخطاب السياسي، عند اغلب السياسين وشهدنا الكثير من المبادرات، والمحاولات الجدية؛ لأستئصال هذه الافة الخطيرة التي فتكت بالبلد.
رأينا واحدة من هذه المبادرات التي لاقت رواجا ًً كبيرا ً وصدى واسع وهي ورقة التسوية السياسية التي قدمها زعيم التحالف الوطني السيد عمار الحكيم ورئيس تيار الحكمة الوطني الذي انبثق مؤخراً وقد أخذت الكتل السياسية هذه المبادرة على محمل الجدية؛ نظراً لمتطلبات الشارع والضغط الحاصل على الاحزاب السياسية من قواعدهم الانتخابية، بعد ان سئم العراقيون حمامات الدم، وليالي الخوف المظلمة، التي قضت على الاخضر واليابس في بلاد ما بين النهرين.
بعد ان وصلنا لنهاية هذا النفق المعتم، احتضن اعيوننا بصيص نور في اخر المطاف، علينا ان نستدل به، ونتمسك بخيط الامل، الذي اذا ما امنا به سيوصلنا لشاطئ الامان، نعود بعدها عراق واحد موحد، بهوية واحدة، للهور والجبل، للنخيل والنواعير، متحابين في العراق مهما اختلفت مذاهبنا وطوائفنا وعقائدنا.