عرض/ وليد عبد الحي
يُجمع دارسو العلاقات الدولية على أن بنية النظام الدولي المعاصر تستعصي على التشخيص الدقيق نظرًا للتحولات الجذرية المتسارعة التي تصيبه، وهو ما يترتب عليه صعوبة صياغة إستراتيجية رصينة لأية دولة، ويزداد ذلك تعقيدًا إذا كانت الدولة ذات مصالح تترامى حدودها في كل أصقاع الأرض مثل الولايات المتحدة.
ويمكن تلمس هذه المعضلة عند قراءة كتاب جورج فريدمان الموسوم “العشرية القادمة” الصادر عام 2011، والذي يحاول فيه أن يحقق هدفين، هما: تحديد الخطوط الإستراتيجية الأنسب للولايات المتحدة من ناحية، واستشراف مستقبلها ومشكلاتها خلال السنوات العشر القادمة من ناحية ثانية.
ويمكن تحديد المحاور المركزية في هذا الكتاب الذي يتألّف من 14 فصلاً موزعة على 278 صفحة في ثلاثة محاور، هي:
أولا: إستراتيجية التوفيق بين “الإمبراطورية” و”الجمهورية”
وهو ما يعني كيفية الحفاظ على “التوسع الزائد” الذي وجدت الولايات المتحدة نفسها فيه عن غير تخطيط متعمد؛ حيث امتدت مصالحها وقواتها في أغلب أرجاء العالم من ناحية، والحفاظ على البعد القيمي في علاقاتها الدولية من ناحية ثانية، ويعتبر الكاتب أن المنظور الواقعي (القوة والمصالح) هو الآلية الأنسب للإمبراطورية، بينما يرى المنظور المثالي (القيم والمبادئ) هو الأنسب للجمهورية، وهنا تتبدى له الأزمة في كيفية التوفيق بين هذين الجانبين.
ويرى الكاتب أن ما يجعل الولايات المتحدة إمبراطورية هو “عدد الدول والأفراد الذين يتأثرون بسياستها”، لكن متطلبات هذه الإمبراطورية في المستقبل لا تتسق غالبًا مع متطلبات “الجمهورية” التي لها الأولوية على الإمبراطورية في الحساب الإستراتيجي، لأن تغلب قيم الإمبراطورية يهدد الجمهورية من وجهة نظره، نظرًا لرفض ذلك من أوساط اليمين واليسار الأميركيين.
ثانيا: توازن القوى الإقليمي
وتتلخص رؤية الكاتب في أن البديل الأنسب للولايات المتحدة لامتصاص الآثار السلبية للتمدد الزائد-الإمبراطورية- هو في التلاعب بتوازنات القوى الإقليمية من خلال تحديد القوى المركزية في أقاليم العالم الجيوسياسية، وتسخير هذه القوى لضبط بعضها بعضًا على غرار ما فعلته بين العراق وإيران خلال فترة الثمانينيات من القرن الماضي، ويرى أن اللعب على التوازنات الإقليمية في العالم وعدم التدخل يجب أن يمثل “الحل الأخير” للمشكلات الإقليمية والدولية، على أن يكون الهدف المركزي للرئيس الأميركي هو منع ظهور قوة منافسة للولايات المتحدة في أية زاوية من زوايا العالم.
ويعتقد أنه منذ منتصف القرن الماضي عرف العالم ثلاث بؤر إقليمية للصراع، وتعاملت معها الولايات المتحدة استنادًا لإستراتيجية التوازنات الإقليمية، وهذه البؤر، هي: الصراع العربي-الإسرائيلي، والصراع الهندي-الباكستاني، والصراع العراقي-الإيراني.
وعند تناوله للصراع العربي-الإسرائيلي أشار إلى أن إسرائيل لم تعد مهددة أو مطوقة من جيرانها، فهي غير مهددة من مصر أو سوريا أو الأردن (بسبب انشغال كل هذه الدول بشؤونها الداخلية وصعوبة أوضاعها الاقتصادية)، كما أن الفلسطينيين منقسمون على أنفسهم من ناحية وضعفاء من ناحية ثانية؛ لذا فإنها -أي إسرائيل- تعمل على استغلال هذا الوضع بخلق واقع جديد (بالاستيطان)، ولا يعترض الأميركيون على هذا السلوك الإسرائيلي لأن الأميركيين قاموا تاريخيًا بنفس الشيء، في إشارة ضمنية إلى أن المجتمع الأميركي هو أيضًا مجتمع استيطاني.
ونظرًا لأن إسرائيل لم تعد مهددة، تبرز دعوة واضحة من فريدمان لفك الترابط الأميركي-الإسرائيلي، استنادًا إلى أن أهمية إسرائيل في الظروف الراهنة أصبحت أقل للولايات المتحدة، كما أن الاقتصاد الإسرائيلي في وضع لا يجعلها بحاجة للمعونة الأميركية.
واستنادًا لتشخيصه السابق للصراع العربي-الصهيوني، يرى أن على الولايات المتحدة أن تتحلل من تأييدها لإسرائيل دون وصول التحلل مرحلة تعريض الأمن الإسرائيلي للخطر، ويبرر ذلك بأن إسرائيل ليست مهددة، كما أشار سابقًا-، كما أن العلاقة معها تسمم العلاقات الأميركية مع العالم الإسلامي، ويرى أن الولايات المتحدة لم تكن مهتمة كثيرًا بإسرائيل حتى مرحلة الستينيات من القرن الماضي، لكن الانحياز العربي نحو السوفيت -الحقبة الناصرية- عزز من المكانة الإسرائيلية في الإستراتيجية الأميركية، وهو أمر لم يعد قائمًا حاليًا.
وينفي الكاتب وجود “دولة قومية” للفلسطينيين في الذاكرة التاريخية، لكن الأمر تغير بعد حرب عام 1967، وأصبح المجتمع الدولي يسلّم بضرورة قيام دولة قومية للفلسطينيين، وهو أمر لابد أن تأخذه الحكومة الأميركية بعين الاعتبار.
بناءً عليه، يرى أن على الولايات المتحدة أن تمارس لعبة توازن القوى في الشرق الأوسط، بأن تقترب أكثر من العرب وتقلص قربها من إسرائيل.
أما في النموذج العراقي-الإيراني؛ فقد مارست واشنطن لعبة التوازنات بتسخير كل من العراق وإيران لضبط بعضهما للحيلولة دون قدرة أي منهما على تهديد موارد النفط، ويعيد فريدمان الأذهان إلى النموذج الهندي-الباكستاني، منتقدًا السلوك الأميركي في دفع باكستان في موضوع مقاومة الإرهاب وانغماسها في الأزمة الأفغانية؛ مما أضعفها في مواجهة التوازن مع الهند، لذا يطالب بضرورة تقوية باكستان من خلال التحلل الأميركي من الموضوع الأفغاني.
ويواصل تحليله للصراع العراقي-الإيراني مشيرًا في مواضع مختلفة من دراسته إلى أن أغلب معلومات الأميركيين عن أنه “لن يكون هناك مقاومة للقوات الأميركية بعد غزو العراق كانت من مصادر إيرانية”، أي أن إيران كانت تهيئ المسرح لتورط أميركي في العراق، وهو ما أدى إلى تحرير إيران من خصمها العراقي من ناحية، ولكن ذلك جعل، من ناحية ثانية، الولايات المتحدة هي القوة الموازية لإيران في منطقة الخليج، فأصبحت واشنطن أسيرة هذه الوضع، مما أثر على إستراتيجياتها في الأقاليم الأخرى من العالم.
ويدعو فريدمان إلى إستراتيجية جديدة للولايات المتحدة في منطقة الخليج، تقوم على التقارب مع إيران على حساب السعودية؛ إذ يحقق هذا التقارب ضمانًا لتدفق النفط في مضيق هرمز، ويمكن أن يضبط بعض التنظيمات “الإرهابية”، ويذكّر بأن مثل هذا الأمر قد يبدو صادمًا للكثيرين، لكنه يعود للتذكير بكيفية تحالف الرئيس الأميركي تيودور روزفلت مع زعيم الاتحاد السوفيتي جوزيف ستالين، خلال الحرب العالمية الثانية، وتوافق الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون مع زعيم الصين ماوتسي تونغ للمزيد من التضييق على الاتحاد السوفيتي، مشيرًا إلى أن هذا النمط الميكيافيلي هو ما تحتاجه الولايات المتحدة في علاقتها مع إيران، وبالمقابل فإن الركيزة الثانية تقوم على أن تستثمر واشنطن الدور التركي في المنطقة لموازنة الدور الإيراني.
وقد حاول فريدمان تحليل الإستراتيجية الأميركية في موضوع محاربة “الإرهاب”، فبرر سرعة الرد الأميركي على هجوم 11 سبتمبر/أيلول بأنه “لطمأنة الأنظمة العربية وضمان عدم سقوطها”، لكنه ينتقد التشبث الأميركي بإستراتيجية اجتثاث “الإرهاب” نظرًا لأنها إستراتيجية “باهظة التكاليف”، وعلى الولايات المتحدة أن تتحلل من هذه الإستراتيجية.
ويناقش الكاتب احتمالات قدرة التنظيمات “الإرهابية” على “تصنيع أسلحة دمار شامل”، لكنه يؤكد على أن هناك صعوبات لوجستية كثيرة تقف دون تحقق ذلك.
ويتبين، من مناقشة التوجهات الجيوسياسية الأميركية، أن فريدمان يرتب الأولويات الأميركية على أن روسيا هي الهم الأول، يليها الشرق الأوسط، ثم غرب الباسيفيكي (وهو أمر لا يتسق مع التوجهات المعلنة من الإدارة الحالية).
ثالثا: الدور المركزي للرئيس الأميركي
يعتقد فريدمان أن الرئيس الأميركي هو الذي يستطيع الإشراف وإنجاز المحورين السابقين، ورغم إقراره بأدوار المؤسسات الأخرى، لكنه يرى أن الرئيس هو الذي يستطيع إنجاز ذلك إذا توفرت فيه سمتان: هما أن يخرج عن أنماط التفكير التقليدي من ناحية، وأن لا يتردد في ممارسة “الميكيافيلية” في سلوكه السياسي من ناحية ثانية، على أن يتقن فن تقديم هذه الميكيافيلية للجمهور.
ويقدّم فريدمان بعض الرؤساء الأميركيين كنماذج ناجحة لفكرته عن الرئيس الناجح مثل إبراهام لينكولن ودوايت آيزنهاور ورونالد ريغان.
ويرى الكاتب أن التنبؤ لفترة عشر سنوات –وهي فترة قصيرة- تبرر إيلاء الأهمية للرئيس الذي يمكنه أن يبقى أغلب هذه الفترة في منصبه، ولكنه ينبه إلى أن مشكلة الرؤساء الأميركيين أنهم أقوى “خارجيًا” منهم “داخليًا”، وهو ما يستوجب منه أن يراعى نصائح ميكيافيلي لأميره والتي يقتبس فريدمان بعضًا منها، لاسيما ما يتعلق منها بمبدأ استخدام القوة والحرب مع الآخرين، ثم كيف يقدم تبريراته لهذا السلوك ليقنع مجتمعه بجدواه.
ويؤكد الكاتب أن العدالة تأتي من القوة، لكن مشكلة الولايات المتحدة هي في صعوبة التوفيق بين “قيم الحكم الداخلية” وقيم “السياسة الخارجية”، ويعتقد أن الجدل بين هذين الاتجاهين سيحتدم خلال العقد القادم بخاصة بين الواقعيين والمثاليين. ويرى أن على الرئيس أن يضع في اعتباره البُعدين (المثالي-الواقعي) بميكيافيلية.
يسعى الباحث لتحديد السلوك الأميركي المستقبلي في ضوء توقعاته للتغيرات التي ستصيب النظام الدولي والنظم الإقليمية ووحدات هذه النظم (الدول). ويمكن تحديد أهم استشرافاته خلال العشرية القادمة على النحو التالي:
1- الولايات المتحدة
يرى أن الأزمة المالية العالمية أفقدت النخبة الاقتصادية الأميركية مشروعيتها، وفي معظم دول العالم الكبرى تزايد الشرخ بين النخبة المالية والنخبة السياسية.
ويتوقع فريدمان تنامي العلاقات الروسية-الألمانية، ويحث الولايات المتحدة على عرقلة ذلك بتطوير علاقاتها مع بولندا.
ويتنبأ بأن تتراجع مكانة الصين في الإستراتيجية الأميركية لحساب تنامي المكانة اليابانية، كما يعتقد أن التأثير الحاسم لأزمة عام 2008 على العالم خلال العشرية القادمة لن يكون تأثيرًا اقتصاديًا بل جيوسياسيًا وسياسيًا، وسيتمثل ذلك في مزيد من عودة مفهوم “القومية الاقتصادية”.
وستبقى الولايات المتحدة حريصة، خلال العشرية القادمة، على عدم وقوع النفط الخليجي في يد قوة إقليمية، وستسعى إلى أن تبقى الأسر الحاكمة في الخليج لضمان تدفق النفط.
ويرى الكاتب أن العلاقة مع الناتو ليست قَدَرًا، وهناك مناطق لا تقل أهمية عن أوروبا، كما أن أدوات التأثير الاقتصادي (البنك الدولي وغيرها)، قد لا تكون موائمة للمرحلة القادمة.
2- الاتحاد الأوروبي
يعتقد فريدمان أن الاتحاد لن يصل مرحلة “الدولة متعددة القوميات”، وهو في طريقه لمزيد من الضعف الذي سيتواصل ولكن بشكل تدريجي دون الوصول لنقطة الانهيار، ويحدد أسباب ذلك ببعض العوامل، مثل:
سيطرة ألمانيا وتغليب مصالحها على مصالح الدول الأخرى.
بيروقراطية الاتحاد الأوروبي التي لا تتحرك بإيقاع يتوازى مع سرعة التغيرات الدولية.
تغلب مصالح الشمال الأوروبي على الجنوب.
استمرار تأثير الفوارق الثقافية.
يعتقد أن المستقبل سيشهد تطورًا في العلاقات الفرنسية-الألمانية، بينما ستعمل الولايات المتحدة في مواجهة ذلك بالتركيز على دولتين، هما: بريطانيا وبولندا.
3- الصين
يخالف فريدمان في نظرته للصين أغلب الأدبيات السياسية الدولية في هذا الجانب؛ فهو يرى أن النمو الاقتصادي الصيني سيتواصل، لكن مردود هذا النمو سيبدأ بالتراجع على غرار ما وقع مع الاقتصاد الياباني، وستواجه الصين خلال العشرية القادمة اختبارات اقتصادية صعبة بعد أن تتعافى اليابان، وسيزداد تركيز الصين على “الأمن الداخلي”، ويترافق ذلك مع هواجس صينية من طبيعة السلوك الأميركي والياباني نحوها.
ويستبعد فريدمان أن تتمكن أي من اليابان أو الصين من التحول إلى قوى إقليمية مهيمنة في إقليم شرق آسيا، ويرى أن على الولايات المتحدة منع تفكك الصين لكي لا تتحرر اليابان من الحاجة لأميركا، مع ضرورة الحفاظ على العلاقة مع اليابان، كما أن التحرك الأميركي نحو الباسيفيكي (التحول الجيوستراتيجي) يجب أن يتخذ طابعًا “تراكميًا” لا “فجائيًا”، كما أن هناك إمكانية لاستثمار العلاقات الأميركية-الصينية “لكبح روسيا”.
ويعود الكاتب هنا للعبة التوازن الإقليمي لتوظيفها في العلاقات الصينية-اليابانية؛ فاليابان تعاني شُحَّ المواد الخام، كما أنها والصين تعتمدان على الطرق البحرية للتواصل مع العالم، وكلتاهما لا يمكن أن تكون ندًّا لواشنطن في هذه المسالة نظرًا لقوة تواجدها البحري في مختلف بحار العالم.
4- الوطن العربي
يعتقد الكاتب أن الربيع العربي “لم يحدث”، ويبني قناعته هذه على أساس أن ما حدث هو سقوط حكام وليس سقوط أنظمة باستثناء نظام القذافي في ليبيا، ويُبدي الكاتب نوعًا من النقد الضمني للتحليلات التي تفترض انتهاء الثورات بالضرورة إلى قيام نظم ديمقراطية، ويقول: “إن الاضطراب لا يعني حدوث ثورة، وإذا حدثت الثورة، لا يعني بالضرورة نجاحها، وإذا نجحت لا يعني بالضرورة قيام ديمقراطيات دستورية”.
5- روسيا
يعتقد فريدمان أن العشرية القادمة ستعرف نوعًا من التقارب الألماني-الروسي، ويبني هذا التنبؤ على أساس الحاجة الألمانية للغاز الروسي من ناحية، ونظرًا لظاهرة الشيخوخة في المجتمع الألماني التي تؤدي لتزايد النقص في الأيدي العاملة، وهو الجانب الذي يمكن لروسيا أن تساهم في حله نظرًا لوفرة العاطلين عن العمل فيها من ناحية ثانية، ويرى ضرورة تعزيز العلاقة الأميركية مع بولندا –كما أشار سابقًا- نظرًا للأهمية الإستراتيجية لبولندا التي تشكّل فاصلاً جغرافيًّا بين روسيا وألمانيا.
ويرى الكاتب أن روسيا ستواصل نسج علاقاتها مع بعض الدول السوفيتية السابقة، وقد تواصل الترابط التجاري والاقتصادي معها وقد تصل لحد التوافق على عملة واحدة.
6- بقية أقاليم العالم
لا يرى فريدمان مصالح مهمة للولايات المتحدة في أميركيا اللاتينية، وهي لا تشكّل تهديدًا لأميركا فهي منطقة مفككة، ولكن أهميتها تزداد إذا تسللت لها قوى دولية عظمى، كما حصل من قبل ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية أو السوفيت خلال الحرب الباردة.
وفي إفريقيا، يرى أن إستراتيجية توازن القوى تعتمد على وجود دول قومية ووجود قوى قادرة على تأكيد دورها، وهي عوامل غير متوفرة في هذه القارة، فليس فيها دول قومية إلا مصر، ولكنه يستثني منطقة شمال إفريقيا من القارة السوداء التي يرى أن أفضل شيء لأميركا هو تركها وشأنها، بخاصة أنه يرجّح أنها ستغرق في سلسلة حروب في المستقبل، وهو ما قد يقود لإعادة تشكيل خريطة القارة الإفريقية.
ما يهم في إفريقيا بترول أنغولا ونيجيريا وضبط الحركات الإسلامية في الصومال، ولا يرى خطرًا مهمًّا من التنامي الصيني في إفريقيا.
وفي آسيا، يستبعد فريدمان أن تكون الهند لاعبًا دوليًا رئيسيًا، وقد يدفع ذلك إلى تراجع في العلاقات الأميركية-الهندية خلال العشرية القادمة.
تحديات العشرية القادمة
يحدد فريدمان عددًا من التحديات التي على واشنطن أن تواجهها في العقد القادم، وهي:
إعادة تقوية باكستان التي أضعفتها حرب أفغانستان.
الوصول لتسوية مع إيران.
أن إهمال أميركا للمنطقة الممتدة بين المتوسط والهيملايا سمح لروسيا بالعودة لبناء نفوذها.
مشكلات “التكنولوجيا والديموغرافيا”: حيث لن تتحقق قفزات تقنية تساعد على تلبية الحاجات أو تحدث نقلات اقتصادية كبيرة، ويعيد ذلك إلى التكلفة العالية وتراجع نفقات البحث العلمي في المجال العسكري والذي كان ينعكس على القطاع المدني. أما في المجال الديموغرافي، فسيكون تراجع عدد سكان الولايات المتحدة أحد المشكلات التي لها انعكاسات اقتصادية.
ترتيب الفوضى في العالم الإسلامي.
تنظيم علاقاتها مع أوروبا المقسمة.
مواجهة صين كبرى ومضطربة.
تداعيات الأزمة المالية الحالية.
مكيافيلية المدى القصير
يستشف من نتائج تحليل فريدمان أنه يستجيب للهواجس التي أثارها بول كيندي في كتابه “صعود وهبوط القوى العظمى” في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، عندما أشار إلى مخاطر التمدد الزائد (overstretch) على كل الإمبراطوريات التاريخية وصولا للإمبراطورية الأمريكية.
وعند النظر في تصوراته لآليات الولايات المتحدة للتعامل مع هذا الخطر، فإنه يعود إلى دبلوماسية وزير خارجية الإمبراطورية النمساوية، الأمير فون ميترنخ، التي سادت في أوروبا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، والقائمة على ركيزتين هما الميكيافيلية (من خلال الرئيس عند فريدمان)، وتوازن القوى على المستوى الإقليمي والدولي، وهو أمر قد يبدو في المدى القصير الذي تنحصر دراسة فريدمان فيه ممكنا، لكن الأمر على المدى الطويل لا يشير إلى ذلك .
ويبدو أن الخلل المنهجي الذي وقع فيه فريدمان يتمثل في أنه نظر إلى الولايات المتحدة كوحدة قومية دون رؤيتها كجزء من النظام الرأسمالي الذي اثبت الواقع أن نظرية العالم السوفييتي نيكولاي كوندراتيف، في عشرينات القرن الماضي، شخَّص أزماته بشكل جيد، وهو ما يتضح في أن النظام الرأسمالي يضحي بوحداته لصالح موضوعه، ففي الوقت الذي تراجعت فيه بريطانيا وفرنسا والمانيا وهولندا واسبانيا والبرتغال في مواقعها الدولية في مراحل مختلفة، فإن النظام الرأسمالي تطور، وتمكَّن عند فرانسيس فوكوياما بلوغ نقطة نهاية التاريخ.
ويعد التحول الجيوسياسي الذي أعلنته الإدارة الأمريكية نحو الباسيفيكي تعبيرا عن الشعور بانتقال المركز الرأسمالي نحو تلك المنطقة في العقود القادمة، وهو ما يستوجب على الولايات المتحدة أن تتحلل من الكثير من التزاماتها الدولية لتتكيف مع التوجه الجديد، وهذا ما يفسر السعي الأمريكي لخلق توازنات إقليمية يتحمل أعباءها حلفاء إقليميون، وزيادة التوجه نحو جعل الناتو يوسع من دائرة عمله ليتحمل الأوروبيون جزءا أكبر من العبء الذي أثقل الكاهل الأمريكي. ولعل ذلك هو ما يفسر توالي الدراسات والتقارير عن العبء الإسرائيلي، والذي بدأ بما كتبه الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر ثم ما جاء في كتاب اللوبي الإسرائيلي لميرشايمر وستيفن والت من جامعة هارفارد ثم المقال الذي رأى فيه المحلل الاستراتيجي المرموق أنتوني كوردسمان بأن إسرائيل أصبحت عبئا على الولايات المتحدة…الخ.
ويتعارض تشخيص فريدمان للربيع العربي، مع كثير من الطرح العربي الذي يفترض آليا أن كل عدم استقرار هو ثورة، وكل ثورة ستنجح، وكل نجاح سيقود للديمقراطية.
أما رؤيته بضرورة ترك إفريقيا وشأنها، فلعله ناتج عن إدراكه أن الغرق في القارة السوداء له مغارم أكثر من المغانم.
___________________________________________
* أستاذ الدراسات المستقبلية والعلاقات الدولية بجامعة اليرموك- الأردن
المصدر/ الجزيرة للدراسات