يستذكر العراقيون في هذه الأيام ذكرى وفاجعة كبيرة وهي امتداد لفواجع هذه الأمة بعظمائها ورجالها الأفذاذ الذين رسموا ملامح الحياة الحرة الكريمة وأطروها بنهجهم القويم, هذه الفواجع الممتدة من ضربة هامة الإمام علي عليه السلام والى آخر جرح على جسد هذه الأمة, أصبحت منهلاً عذباً وحافزاً يؤجج المشاعر والنفوس على الالتصاق بكل القيم التي سار عليها أولائك العظماء, الوقوف على ذكرى شهيدنا الحبيب لها دلالات وأبعاد ومواقف وعِبر, لما قدمه لهذه الأمة من دروس كانت محط أنظار واستغراب الآخرين, ففي بلد يحاسب فيه الشعب على أنفاسه ويطبق النظام قبضته على مقدراته, وتحول الوطن إلى زنزانة ومقابر ومنافي, وضرب الحصار أطنابه على أفواه الشعب, وساد الظلم والحيف وانتشر الفساد والرذيلة, وابتعد المجتمع عن الخط الديني بعد غياب تام لدور المرجعية والحوزة, وافتقاد الأمة للقائد الروحي الذي يوجه مسارها ويصوب خطواتها باتجاه الأهداف السامية التي تجعلها امة حية متحركة نابضة بالعطاء, يأتي هنا دور العظماء والمصلحين وأصحاب نظريات التغيير, وفي خضم هذه الظروف سطع قمر لامع في سماء النجف مدينة العلم والشهادة والتاريخ, مزق ظلام الخوف والصمت والجمود ليمتد بنوره إلى كل مدينة ترتمي بأحضان هذا الوطن وتتلظى بحممه, والى كل قرية قابعة بأقاصيه البعيدة, والى كل الأزقة والحارات والشوارع المتهالكة, برغم افتقار حركة الشهيد الصدر إلى وسائل الإعلام كما هو الحال اليوم وهذا دليل على إخلاصه وصدق نواياه وثقته بالمدد الإلهي, محمد الصدر حالة استثنائية في تاريخ الحوزة, لأنه لم يكن مرجع تقليدي يختص بفتوى الوجوب والحرمة والكراهة والاستحباب وغيرها من المصطلحات الفقهية, بل أسس لكل ماهو جديد لم تألفه الحوزة من قبل, ومن جملة منجزاته العظيمة هي إقامة صلاة الجمعة التي كانت معطلة لقرون خلت برغم إن الله سبحانه وتعالى خصها في كتابه الكريم وسمى إحدى سوره المباركة باسم الجمعة, هذه الشعيرة التي تحولت إلى مظهر من مظاهر الرفض لكل الممارسات المنحرفة للسلطة الحاكمة, هذا الرفض الذي دق نواقيس الخطر بوجه النظام البعثي لأنه كسر حالة الخوف التي كانت مهيمنة على العقل الجمعي العراقي بسبب أساليب القمع التي لم ترى لها الإنسانية مثيل في العصر الحديث, وها هي الشعوب الثائرة في العالم العربي تستخدم يوم الجمعة رمزية للثورة ونداء للتغيير, وكذلك ارتدائه للكفن هذه الحالة التي لم يسبقه أحد بارتداء كفن على مر التاريخ فتحول ارتداء الكفن إلى هوية وعلامة استعداد للتضحية, محمد الصدر استطاع أن يبني جيل عقائدي ثوري جهادي وقف بوجه النظام الصدامي ووقف بشرف ضد الاحتلال الأمريكي البغيض ليكتب تاريخ الرفض بدم الشهادة من اجل الدين والوطن, محمد الصدر أسس لثقافة الرفض عندما هتف ذلك الهتاف الذي أصبح أهزوجة لكل الأحرار وهل سمعتم من قبل مرجع ديني يهتف (كلا كلا أمريكا كلا كلا إسرائيل) هذه الـ (كلا) هي امتداد لـ (كلا) التي أطلقها الحسين(ع) في كربلاء الخلود والتضحية والفداء لتكتب كربلاء جديدة على ارض الكوفة وبرمزيتها الدينية والتاريخية وكأن التاريخ يعيد نفسه مع اختلاف الأزمنة والأشخاص, محمد الصدر كان الأب والقائد والمرجع والمصلح لذلك اتبعناه بقناعة وعشق ليس له حدود.
سلامٌ عليك أبا مصطفى يامن حول كفنك تجتمع الغيوم, ويحلق الحمام, وتعلن الألوان استسلامها, فبياض كفنك وبياض شيبتك يشعل أوراق التاريخ المليئة بالذل والخنوع ليكتب التاريخ بلغة الشجاعة, عصاك كانت تتحدث أفصح من أولائك الصامتين, عصاك مرجعية لتوابيت الشهداء وأنت مرجعية المرجعية, سيدي محمد الصدر وها نحن نقف بحضرتك في ذكرى صعودك إلى مقامك في جنان الخلود, نقول لك أن ما بذرته في أديم الوطن أورق أغصانا تستظل بها الأجيال, ها نحن نقف على جروفك المتلاطمة لنغسل أحزاننا وأدران نفوسنا ونروي عطش الضمائر, ها هو صوتك يعزف لنا نشيد الكرامة التي حاولوا أن يسلبوها منا, صوتك يصك أسماع المتسلقين على تراثك والذين مازالوا في تلك الغفلة التي حذرتنا منها, صدرنا الحبيب خطك باق ولن يموت لأنه خط الحق والشمس التي بدونها تزدحم الدروب والنفوس بالظلام والضياع, العزاء لنا وللعراق وللأمة التي استشعرت حجم الفراغ الذي تركه رحيلك, العزاء لآل الصدر مدرسة الشجاعة والتضحية والعلم, العزاء لسماحة السيد المجاهد مقتدى الصدر (أعزه الله) الذي سار على نفس النهج لذلك أتبعناه أخاً وقائداً وسنبقى بطريقكم ونهجكم من المتمسكين, فسلامٌ عليك ياشهيد المبادئ الخالدة وشهيد القيم الإسلامية والإنسانية الأصيلة, سلامٌ على نجليك وهما يحتضناك بصدورهم وقلوبهم ولكن الرصاص يقتل الأمل والحلم الذي انتظرناه طويلاً, سلامٌ عليك وأنت ترقد بسلام وقبرك تطوف به الليالي والأيام, ويزدحم بمحبيك وهم يذرفون الدموع ونشيج الحزن يضج به المكان بل ويمتد صوت الفقد حتى يطاول عنان السماء.