كل شيء هنا صار جزءاً مني، لا شيء غريب، القرى التي تتثاءب على قارعة الدرب بدرجة منزوية، البيوت المهجورة إلا من الصمت المفزع..
يرن جهاز الموبايل.. أقول دون شعور مني: عباس.. إنها زوجتي.
فأجابني عباس فوراً: طمئنها.
قلت: لا تخافي.. فأنا في حضن أمي.
: أي أمّ تلك التي ترسل ابنها الى الموت والنار والحديد.. هؤلاء الدواعش يا زوجي العزيز بلا قلوب، لا يملكون رحمة إلا ما يبرر القتل والدمار، صعب عليّ أن أزفك للموت.
وإذا بصوت أمي أسمعه: اِتركيه يا بنتي، زوجك رجل لا يرتضي الذل، لن يهجع الانسان عندما يناديه دين ووطن وأمة من المشردين، اِتركي زوجكِ فالله الحافظ..
يقول أحد المفكرين: إن المكان لا يعني شارعاً وبيتاً بل هو هوية، ولذلك أشعر بشيء ما يجذبني نحوها رغم أني أمر بأماكن لم أرها من قبل..
: عباس.. هل تسمع مثلي هذا الأنين المنبعث من البيوت..
عباس يسألني: أيعقل أن هذه البيوت تخدعنا.. فتخون..؟
وإذا بصوت أمي يصرخ في الضمير: إياكم يا ولدي أن تتركوه وحيداً، صدوا عنه سهام الغدر والخيانة.. لا تقصر يا بني، فهذا وطنك يقف وحيداً بمآذنه.. بقبابه.. بناسه الطيبين يدعو لك: (اللهم سدد رميته).
نظرت الى وجه عباس فرأيت فيه حزناً عميقاً: ما بك عباس؟
: أنا ليس لديّ زوجة تودعني، ولا أمّ ترش خلفي ماء.. وكل الذي أملكه في هذه الحياة أختي وأولادها، والعباس سأقلبها للدنيا لو مست بسوء، كانت تقول لي دائماً: (أنا أريدك للصعبات)، وعندما رأيت في التلفاز صورة امرأة عراقية يقودها داعشي إلى سوق النخاسة وقف شعر رأسي، ولم أستطع أن أنام ليلي، ولهذا سيكون هنا بيتي ومأوى حلمي.. سأبني من هذه السواتر لي بيتاً، صاح أحدهم: لقد وصلنا، ترجلوا.. فلابد من تكملة المشوار سيراً على الأقدام.
وعندما اقتربنا من السواتر سأل عباس أحد الاخوة من القاطع المنسحب: أي موضع هو الأقرب للمواجهة، فأشار بيديه الى داخل نقطة تلج العمق، ذهب إليها راكضاً محتفياً بهذا الموضع وكأنه يحتفي بالعالم.. رمي كثيف جعله يدرك أهمية الموقع الذي اختاره موضعاً ربما هو كمين يتقدم الحجابات، ومن فيه يصبحون أساساً في عداد المضحين. قال عباس بكل هدوء ورزانة: اسمعني حسين.. هذا بيتي وأنت أخي، وأريدك أن لا تتركني أبداً،.
قلت: والله.. أنا ما تعودت التراجع أو الهروب يوماً في عمري أبداً؟
قال: عباس.. أنا أقصد أن تعاهدني على شيء.
: ما هو؟
: أن لا تستشهد قبلي..
ضحكت وقلت: عباس، هذه مشيئة الله تعالى، وهو يعلم من سيحمل من.
وما إن أدركنا الليل، حتى شعرنا بأننا فعلاً معزولون عن مواضع جماعتنا، وهذا الموضع تحديداً يدخل في العمق، فصرنا لا نستغرب أن نستقبل الرصاص من أكثر من جهة، وفي وسط وابل الرصاص، أسمعه يضحك ويقول: هذا بيتنا محسود من قبل الجميع لموقعه المميز، ويضحك..!
: عباس، هل لديك مزاج ضحك ونحن في فم الموت..!
: بل نحن في فم الجنة.
عجيب عباس هذا.. كلما يزداد وابل الرصاص، يرفع رأسه أكثر، وكأنه يغيظهم.. يقول لهم: أنا موجود رغم رصاصكم القذر..
راح يحدثني وكأنه اكتشف شيئاً: الآن عرفتهم أغبياء، يبدو لي أنهم عرفوا أنها الليلة الأولى لنا، ولا يريدون لنا أن نألف المكان، فحاولوا أن يرعبونا، أغبياء، هذا وطني يا شراذم التواريخ، رغم العتمة والرصاص المزغرد بهوس معتوه، ورغم الموت الملوح بين العين، أشعر بسعادة غامرة، وفجأة نمت دون أن أشعر بشيء..
وأطلَّ وجه عباس عليّ في الصباح مبتسماً: صباح الخير.. وهو مليء بريعان الشباب والوسامة والشجاعة قلت: عباس كم عمرك؟
ضحك عباس وقال: عمري ليلة..! ليلة واحدة عشتها أمس في بيتي، كنت وأنا أرد عليهم، أرى مهدي وهو يصعد وينزل، ويد أمي تهدهدني وهي تنشد لي نشيدها المقدس : دللول يا الولد يبني دللول..
كنت أرى بين وميض الرصاص وجه أختي، وأصرخ: والله لن يمسك سوء وأنا على قيد الحياة.. استغربت فعلاً استغربت حين سمعت أذان الفجر، استغرب كيف جمعوا بين الصلاة وشراسة الذئاب، قلت: صلاتهم كصلاة ابن سعد، يصلي الشكر لله؛ لأنه ذبح الحسين ابن بنت رسول الله (ص)؟ يقتلون، يذبحون الأبرياء، ويحلمون بالجنة..!
أوه.. قال عباس: إنهم الخوارج الآن.
قلت: عباس، حين نعود الى كربلاء، سأجعل أمي تختار لك زوجة من أقربائنا، قاطعني قائلاً: تعال أول مرة نعمر بيتنا.. لقد بعثرته سنابك الرصاص (ثم يضحك): (ملاعين) وكأنهم قرروا ابداء حق الضيافة في أول ليلة ندخل فيها البيت..!
عطر عباس الموضع، وقال لي: ماذا لو تنام قليلاً، وأنا سأسهر، فأنا أحب أن أسهر معهم اليوم، لكن انتظرني لدقائق؛ لأجلب الذخيرة، فالليل طويل مع هؤلاء السفلة، وجلب معه لافتة إعلانية مكتوب عليها (هذا بيت حسين وعباس، فادخلوا بسلام آمنين).
وبعد أيام قليلة، صارت السواتر تسمى بيوت، وكل بيت صار باسم مقاتل، يقول عباس وهو يسرد ذكرياته: حين كنت في الابتدائية أحضر مبكراً لأكنس الصف، والصغار يضحكون، قلت لهم: هذا بيتنا.. فسخروا مني كثيراً، لكن النتيجة جميعهم صاروا يتسابقون على المكانس والمقشات، والجميع رفعوا شعار: تعالوا ننظف بيوتنا، وفي ذات صباح زارنا آمر الفوج، قرر أن نترك الموضع..!
صاح عباس بحزن: لماذا..؟
: لأنه صار مكشوفاً للأعداء، وهو أساساً زاحف نحو العمق، مما يمكنهم من مشاغلتكم من ثلاث جهات.
صاح عباس: أنا لا يمكن أن أترك لهم بيتي.
طلب مني حينها آمر اللواء ومشرف الفرقة أن أهدّئ عباس وأقنعه بالانسحاب من بيتنا، لنبني بيتاً جديداً.. فقال عباس:ـ هل يعقل أن نترك لهم ما يريدون، هم يختارون المواقع المؤثرة، ماذا لو انسحبنا من الموضع، سيحتل من قبلهم ويصبح لهم تمكن واضح على مواضع جماعتنا.
المقاتلون هم أمراء الجيش الحقيقي، هم يعرفون كيف يقاتلون، ورضخ عباس للأمر، وترك البيت بدمع عينه، وما إن ضمن العدو انسحابنا من بيت عباس، حتى قرر احتلاله، تقدم الدواعش لاحتلال البيت، وهم يقصدون التقدم بشكل مكشوف، وإذا بعباس ينتفض، فهو ما عاد باستطاعته تحمل الموقف، صاح: لن أدعهم ولو على قطع رقبتي.. لن أدعهم يأخذون بيتي وبهذه الطريقة المهينة، تقدم صوبهم وهو يحصد رقابهم، واستقبل كثافة النار، وفعلاً استطاع أن يدخله، وأعاد السيطرة على البيت، بعدما جعلها مقبرة لهم.. دخلت الموضع وعباس في أنفاسه الأخيرة: حسين.. أرجوك ادفني هنا في بيتي.. وإياك أن تنسى أن تمر دائماً لزيارتي… هذا بيتي.