لابد للإعلامي أن يمتلك حاسة خاصة، تكشف له الكثير من الدهشات، وقد يشاء البعض أن يسميها صفاء ذهن انساني، ويراها أهل الحرفة، أنها تعني الخبرة، وما هي إلا مجرد توقعات، وأنا أشعر بأن شيئاً ما من بركات إمام ترشدني السبيل، زحام المشاية يوقظ في ذهنية الطريق ينابيع صلاة.
المخرج يشير الى ضرورة اجراء حوارات مع المشاية؛ لأن النقل مباشر يحتاج الى آراء ومقابلات وحوارات ، تعكس للناس روحية الاصرار وتفعل المشاهدة.. كنت أنظر الى الطريق وانتظره، وكأني كنت على موعد.. هناك شيء ما في داخلي يقول: ستلتقيه هنا، لكن من هو؟ وما هي أوصافه؟
وما الذي تنتظره يا ابا حيدرة؟
قلت:ـ لا أدري…
:ـ هل تعبت؟
:ـ لا أبداً.. لا والله، لكن هناك هاجس يقول لي: انك ستلتقيه، ولا تسألني من هو، رغم هذا الزحام والصخب المؤمن، وأصوات مكبرات الصوت..
ساد هدوء كبير، والكادر الفني صار يترقب معي، وهو ينقل الصورة الحية بثاً مباشراً.. فجأة ظهرت أمامي مجموعة من الشباب المشاية، توهجت في قسماتهم الألفة والمودة والسلام..
قلت لهم: من أين مسيركم؟ اجابني احدهم: من الناصرية.. وهو يتحدث لي عن مشاهداته في الطريق، وعن هذه الأجواء الإيمانية.. فجأة يومئ لي أحد الشباب عن شاب كان معهم لألتقيه، وتكررت الايماءة، ففهمت المغزى، وشعرت لحظتها بأن هذا الفتى هو من انتظر.
لاشيء يميزه عن بقية اقرانه، فهو زائر يمشي مع مجموعة من الزوار الى كربلاء، سألته: هل تعبت؟ قال: لا أبداً، وراح يبكي، ونحن ننظر اليه والكاميرا تصور الموقف، قلت: ما الذي أبكاك؟ فأجابني: أبكتني حرارة هذه الألفة الحسينية مع الناس، انا يا سيدي اسمي خطاب عبد الله عمر من أهالي الفلوجة ها انت تراني ألبس الأسود، وقلبي تبارك نبضاته حب الحسين(عليه السلام).
اتدري يا عم هناك شعور غريب يشدني اليك، وكأني كنت ابحث عنك؛ لأحدثك بما جرى علينا، ولأحملك رسالتي الى اهلي في الفلوجة، ولأحملك رسالة السلام الحسيني الى العالم.
نظرت الى المخرج قلت له:ـ هل سمعت أستاذ كريم هذا الذي كنت أنتظره، رأيته متحمساً للقاء، ويصيح: أكمل معه الحوار، اشتد بي المرض، ولا من نلجأ إليه، كنت اسمع امي وهي تتوسل بهم:ـ ابني سيموت يا اسلام الله، وكان جواب من لا يعرف اسلام الله:ـ ليس من مسؤوليتنا حياته، ولم يبق أمام أمي سوى الهرب من بطش داعش، وعند معبر جسر ابزيبز، تعثر الحال كثيرا، ويبدو ان نهايتي لاحت، وصرت أعيش لحظاتي الأخيرة، حينها صرخت: يا الله أريد منك ابني، وإذا بمقاتل من الحشد من خلفنا يصيح: سينهض ابنك بعون الله وببركات الحسين(عليه السلام)، سيشفى ولدك يا أمي…
قالت أمي: ليس لنا أحد، فأجابها: كلنا أهلك يا أخت، كلنا ناسك، هذه التجربة جعلتني أدرك الفرق الكبير بين معاملة الدواعش، وبين ابناء الحشد المبارك، ولهذا قرر هذا المقاتل الشهم أن يأخذنا ومجموعة من اهلي الفلوجة الى الناصرية؛ لنعيش في بيته، وتستقبلنا قريته وأهله وناسه بترحاب، جعلنا نبكي فرحا، وتوزعت العوائل على بيوت القرية، وخصصت لنا بيوت، فأصبحنا جزءاً من حياة الناصرية.. قرروا أن يتركوا بيوتهم وحياة اسرهم من اجل انقاذنا من براثن داعش، ولهذا صرت واحداً منهم، وقررت أن أمشي أن أمشي اليه زائراً، وأنا أرى الطريق الى الحسين معبّد بالترحاب، وأهلاً بزوار أبي عبد الله الحسين، دون أن يسألني أحد عن مذهبي وانتمائي وهويتي.. فعنده تجتمع الهويات كلها، فاسمي الآن زائر حسيني، وهذه هي هويتي وكياني..
سلام الله عليكم يا شعب الحسين وشيعته، عندهم انقاذ انسان بحلاوة النصر، كانت امي تود ان تمشي معي، لكن المرض أقعدها هذه السنة، فلذلك قالت: “سلم لي على الحسين وقل له مشكور سيدي ما قصرت..”.