رسالة من باريس(من ملتقى الثقافات الى المتحف الحربي والكوميدي فرانسيز )
عزيزي رافد…
أرجو ان تكون بخير ..
كما أخبرتك في رسالتي ليوم أمس ، فقد بدأت جولتي هذا اليوم من الصباح الباكر متوجهاً الى معهد العالم العربي الذي يقع في شارع محمد الخامس عند ملتقى طرق مهمة .
المعهد هو مؤسسة تعمل وفقاً للقانون الفرنسي،تم انشاؤه ليكون حلقة وصل بين الثقافات الغربية والعربية وملتقى للثقافات، فضلا عن التعريف بالثقافة العربية ونشرها.
تأسس المعهد عام 1980، بمشاركة بين ثمانية عشر دولة عربية من جهة وفرنسا من جهة أخرى،وهو يقع بين ضفاف السين وجامعة جوسيو. واجهة بناية المعهد مستقاة من التصاميم المعمارية الشرقية والغربية ممثلة بذلك جسر وصل بين التقاليد والحداثة، لذا فانها تتميز بالجمال الأخاذ ، قام بتصميمها مجموعة من المهندسين المعماريين المرموقين أبرزهم “جان نوفيل”، مصصم متحف ” كاي برانلي ” الشهير.
قضيت ثلاث ساعات تقريباً في مكتبة المعهد،راجعت فيها العديد من المصادر المهمة عن منطقة الشرق الاوسط عامة والعالم العربي خاصة،سيما تلك المتعلقة بشؤون السياسة والديمقراطية الصادرة باللغة الفرنسية. وقد كانت فرصة مناسبة لي أن أقوم باهداء مكتبة المعهد أربعة من كتبي الصادرة في السنوات الست الاخيرة ، والتي أهديتك إثنان منها ، وهي : ” السياسة الفرانكونية إزاء العالم العربي ” ، ” والفرانكوفونية والمنطقة العربية .. الواقع والآفاق المستقبلية ” ، والكتاب المترجم عن الفرنسية المعنون : ” بغداد في مذكرات الرحالة الفرنسيين بين القرنين السابع عشر والعشرين” ، وكتاب ” الاسلام والاستشراق .. دراسة في أدب غوته”.
استحسنت إدارة المكتبة هذه المبادرة وعبرت عن امتنانها ووعدت بأن تقوم إدارة المعهد بارسال رسالة شكر لي على إهدائي لها هذه الكتب . بعدها زرت معرض المعهد للكتاب الذي يقع في الطابق الارضي واطلعت على العديد من الكتب ذات العناوين المهمة بالنسبة لي ، اقتنيت عدداً منها . كانت الاجواء العربية طاغية على جو المكتبة من خلال الكتب والمنشورات ومواد الانتيكات والتحفيات ذات الطابع العربي والاسلامي ، بل كان من المصادفة ربما أن أستمع أثناء تجولي في المكتبة الى الى صوت المطرب العراقي التراثي الهام المدفعي .
وأنا في مكتبة المعهد شدّ انتباهي الاعداد الكبيرة من الزائرين من جنسيات أجنبية وبخاصة من الفرنسيين،في حين كان عدد العرب قليلاً ، مع أنك تجدهم في شوارع واسواق باريس باعداد كبيرة جداً ، ولعل هذا يعطي رسالة تاكيد واضحة بأن الغربيين هم أكثر اهتماماً منا بعلومنا وتراثنا وآدابنا العربية والاسلامية !! وما الدراسات الاستشراقية التي يقوم بها الغرب في منطقتنا العربية منذ عدة قرون ، إلا خير دليلٍ على ذلك.
من بين نشاطات المعهد قيامه باستضافة كتاب ومثقفين وتنظيم أسابيع ثقافية ومعارض واحتفالات ومهرجانات واجتماعات وتظاهرات تعنى بالشأن العربي في مختلف المجالات.
من معهد العالم العربي، اتجهت الى منطقة سانت ميشيل حيث تناولت الغداء مع صديقي السيد مقداد الذي كان بانتظاري،وليس بعيداً عن هذا الحي إتجهنا فيما بعد لزيارة المتحف الحربي العريق، الواقع في مجمع المحاربين القدماء (invalides) وهي تعنى “العجزة “، وذلك كون هذا المجمع كان يضم كنيسة القديس لوي لإيواء العجزة والمسنين،في حين يضم هذا المبنى الضخم حالياً أربعة معالم هي(منزل المحاربين القدماء، وكنيسة الجنود،وكنيسة القبة،ومتحف الجيش) .
في مدخل المبنى توجد ساحة كبيرة فيها عدد من المدافع البرونزية والتى ترجع إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين ، التقطنا العديد من الصور قريباً منها . بعد ذلك تاتي بناية منزل المحاربين القدماء (Invalides Hotel des) ، وهو عبارة عن مبنى سكني كبير بناه لويس الرابع عشر عام 1671 لأربعة آلاف مصاب من المحاربين القدماء، وهو دور علوي واحد فقط بالإضافة للدور الأرضي .أما كنيسة الجنود ( Eglise des Soldats) ، فقد كانت هذه الكنيسة الكلاسيكية أصلاً جزءآ من كنيسة القبة , لكن الكنيسة قسمت , ثم خصصت هذه للجنود, وفي صدرهذه الكنيسة ترى العديد من الأعلام المرفوعة العائدة لأعدائهم اللذين هزموا أمامهم خلال الحروب التي خاضوها في القرنين التاسع عشر والعشرين .
وبشأن كنيسة القبة (Dome Eglise du) ، فهي تقع خلف مبنى المحاربين، وهي تتميز بقبتها الذهبية الرائعة التي تعد من أهم التحف المعمارية فى القرن السابع عشر. تشير الروايات التاريخية الى أن مدة بناء الكنيسة كانت قد امتدت لأكثر من ستين عاماً ، في حين استغرق بناء القبة لوحدها 27 سنة , و يبلغ إرتفاعها 107 أمتار وهي مزينة بطبقة من الذهب تتلألأ تحت الشمس. كان لويس الرابع عشر يستخدم هذه الكنيسة لشخصه فقط ، وبعد ذلك تحولت لتضم الأضرحة الملكية وأضرحة لكبار القادة العسكريين وعلى رأسهم نابليون بونابرت الذي توفى عام 1821 ، وقد نُقل جثمانه من جزيرة سانت هيلينا الى هذا المكان تحت القبة الذهبية مباشرة بعد تسعة عشر عاما من وفاته أي في عام 1840, ولُفّ جثمانه بخمسة أكفان متداخلة ، الأول منها : مصنوع من القصدير، والثاني من خشب الماهوقان، وإثنين من الرصاص ، والأخير من خشب الأبنوس ، وكلها داخل تابوت من الرخام الأحمر، كما توجد أضرحة أخرى أهمها ضريح إبن نابليون ( نابليون الثاني ) ، وضريح أخوي نابليون ( جوزيف وجيرومي ) .
وبالنسبة الى متحف الجيش ( Musee de I’Armee ) ، الذي دخلناه وهو تحت الترميم والتطوير حالياً ، فهو عبارة عن عدد من قاعات و أجنحة تضم بين جنباتها الكثير من الأسلحة التي كان يستخدمها الجيش الفرنسي في حروبه من عام 1680 إلى الوقت الحالي ، كما يحتوي المتحف أيضاً عددآ من البدل العسكرية التي كان يرتديها الجنود, وانواع النماذج والشواهد لخيول وخيالة وسيوف، كذلك قبعة وجاكيت نابليون ، وبعض المجسمات الكبيره التي تبين الخطط التي إعتمدوها في مواجهة خصومهم خلال حملاتهم العسكرية،وهي توضح خط سير الجيوش بخطوط من الإضاءة ، معروضة على شاشة عرض (داتا شو ) معلقة في اعلى السقف واضائتها مسلطة على الارض بطريقة تقنية جميلة ، مع شرح لسير للمعارك باللغات المختلفة (فيما عدا العربية !!)..
أنهينا زيارتنا الى المتحف، ولغرض الحصول على قسط من الراحة بعد هذه الجولات،عدنا بواسطة مترو الانفاق الى المنطقة التي يقع فيها الفندق حيث نقيم .
في المساء توجهنا الى مبنى الكوميدي فرانسيز Comédie-Française)) ، الذي يعّد أحد أشهر مسارح الدولة في فرنسا، وهو مسرح الدولة الوحيد الذي له فرقة ممثلين خاصة به ، في حين فوجئنا بانه يخضع الى الترميم حالياً، مع وجود بناية أخرى تمارس فيها النشاطات بشكلٍ وقتي.
تأسس الكوميدي- فرانسيز بأمر من الملك لويس الرابع عشر في عام 1680 وهو امتداد لتعاليم موليير، وقد عرض المسرح مجموعة أعمال مسرحية لموليير وجان راسين ، وأعمال اخرى هامة.
يعرف المسرح أيضاً باسم (لا ميزون ده موليير) أي “منزل موليير” ويكتب بالفرنسية (La maison de Molière ) ، حيث كانت تعرض فيه الكثير من الأعمال الدرامية لموليير، وكان يعتبر نموذج للممثلين الفرنسيين. جرى تغيير اسم المسرح من “لا ميزون ده موليير” إلى (كوميدي- فرانسيز) قبل سبع سنوات من وفاة موليير.
عندما تقف أمام هذا المبنى ، لا بد ان يتبادر الى ذهنك تراجيديا مسرحية “محمد” للكاتب الفرنسي الشهير فولتير التي يذكر التاريخ بانه هاجم فيها الرسول محمد عليه وعلى آله افضل الصلاة والسلام . هذا على الرغم من أن آراء فولتير عن الإسلام في الخطاب الذي قام بإرساله إلى البابا ” بنديكت الرابع عشر” والذي قام بكتابته في باريس في 17 أغسطس عام 1745 كان يخلو مما اتهم به في مضمون مسرحيته ، فقد وصف فولتير الرسول “محمد” بأنه رسول “ديانة تتسم بالحكمة والصرامة والعفاف والإنسانية “. وقال مخاطباً رجال الدين في الكنيسة : “لقد قام الرسول بأعظم دور يمكن للإنسان أن يقوم به على الأرض وإن أقل مايُقال عن محمد أنه قد جاء بكتاب وجاهد،والإسلام لم يتغير قط أما أنتم ورجال دينكم فقد غيرتم دينكم عشرين مرة” .
وقد كانت يجري في باريس عرض للسيناريو الذي كتبه (ماركي دي بوريز) وهو من ما يسمى بالكتاب التنويريين في فرنسا ويشغل عضو الأكاديمية الفرنسية تحت اسم (محمد) في شكل مسرحية فولتير ، ليتم عرضها على مسرح الكوميدي فرانسيز عام 1890 وفي هذه المسرحية كان يتم تجسيد شخصية النبي بالإضافة إلى مشاهد تسيء إلى شخصه الشريف وإلى الاسلام.وقتذاك طانت الدولة العثمانية ممثلة للخلافة الاسلامية لم تزل تمتلك القوة والهيبة بين الامم ، لذا يكتف السلطان عبد الحميد الثاني وقتها بالمطالبة بحظر هذه المسرحية الساخرة على الكوميدي فرانسيز من خلال تلغراف بعث به الى السفير الفرنسي الكونت (مونتبيللا) ، وقد بعث السفير الفرنسي للسلطان خطاباً بشأن حظر المسرحية، جاء فيه 🙁 أُخبر حضرة السلطان بما ورد في التلغراف الذي تلقيته الآن بشأن المسرحية المسماة (محمد) لماركي دي بوريز التي بدأ عرضها في باريس ، بأن الحكومة قد اتخذت في اجتماعها هذا الصباح قراراً بمنع عرضها ، وفيما أرجو إبلاغ حضرة السلطان بنتيجة ما حدث ، أقدم قناعتي بأنه لا توجد وسيلة أكثر ملائمة لإبلاغ حضرتكم هذا الخبر ، وأنا واثق أنه بهذا القرار الذي اتخذته الحكومة لتلبية رغبات حضرة السلطان سيتعزز الطلب بدوام أسمى العلاقات القلبية ، ومن أن السلطان سيقدر ذلك ، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام) .
استذكرت هذا الشأن مع مايجري بشكلٍ مماثل اليوم من تحضيرات لعرض فيلم يسيء الى الرسول الكريم (ص) في الولايات المتحدة ، وقد قارنت بين محاولة عرض مسرحية (محمد) لفولتير قبل اكثر من قرن من الزمان وعرض الفيلم الاميركي ، فخلصت الى أن هنالك اشخاص وقوى في الغرب لم ولن تنفك من مهاجمة الاسلام وروموزه المقدسة، في حين أن المسلمين اليوم هم للاسف اضعف بكثير مما كانوا عليه بالامس ، فالعثمانيون أوقفوا آنذاك عرض المسرحية ولكن هل يستطيع المسلمون اليوم من ايقاف عرض الفلم المسيء ؟
تلك الاعمال كانت من نتائج توجهات الغرب في دراسة الاسلام والشرق التي جاءت بعد عصر النهضة، والذي يعدّ من أكثر المراحل الثقافية أهمية ، إذ بلغت حركة الثقافة ذروتها في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، حيث ظهر فرانسوا رابيليه أكبر كاتب قصصي فرنسي في عصر النهضة الفرنسية ومونتان الذي يعّد آخر الأدباء الكبار لتلك المرحلة، وقد ظهر أسلوب المقالة الشخصية بوصفه شكلاً من أشكال الأدب، لذا فقد ساهم شعراء كلاسيكيون وأدباء كثيرون في مجال المأساة (التراجيديا) والملهاة (الكوميديا) من بين أهمهم موليير الذي سبق وان تحدثنا عنه ، كذلك راسين ، في حين برز في الفلسفة رينيه ديكارت.
لقد استمرت فرنسا في توجهها نحو الشرق بشكلٍ أوسع بعد عصر النهضة. حيث اهتم مستشرقون عديدون بالشرق وأدبه وتراثه مثل سلفستر دي ساسي، وغوستاف لوبون، وليفي بروفنسال، ولويس ماسينيون، وغيرهم. وفي القرن العشرين عُدَت فرنسا أم الادب الحديث، فمنها ظهر أشهر الأدباء الذين كتبوا رواياتهم ومسرحياتهم أمثال جان بول سارتر والبير كامو وألان روب غرييه و كلود سيمون وغيرهم .
أمام مبنى الكوميدي فرانسيز، ولاننا لم نستطع الدخول الى المبنى بسبب الترميمات والتاهيل ، فقد آثرنا التقاط العديد من الصور أمام واجهة المبنى ، ومن جهات أخرى مختلفة ، ثم انتقلنا الى دار أوبرا غارنييه ” Opéra Garnier” ، التي تقع في ساحة الاوبرا الشهيرة. والتي تعد أكبر مسرح موسيقي فى العالم إذ تبلغ مساحتها احدى عشر ألف متر مربع وتستقبل قاعتها ألفي شخص.
شيدت الاوبرا فى عصر نابليون الثالث عام 1860 ضمن المشروع المعمارى الذى خطط له المهندس غارنييه . استغرق بناؤها ثلاثة عشر عاماً , وكان نابليون الثالث قد قرر بعد محاولة لاغتياله أثناء توجهه الى الأوبرا التى كانت تقع حينها فى شارع لوبلتييه بناء أوبرا جديدة يمكنه التوجه إليها دون الخشية على حياته , وتولى البارون هوسمان طرح المسابقة المعمارية التى فاز فيها مشروع شارل غارنييه المعمارى وتم شق طريق يقود مباشرة من قصر اللوفر الى ميدان الأوبرا .
تتفرع من ميدان الأوبرا مجموعة من أشهر وأرقى شوارع العاصمة باريس التى تحفل بالمقاهي والمطاعم ودور العرض السينمائى وهي قريبة من ميدان فاندوم الشهير والضخم الذي يحتوي على المحلات التجارية الكبرى.قمنا بالتبضع من تلك المحلات قبل عودتنا الى الفندق بواسطة تاكسي باريسي (Parisian Taxi).
يوم غد سوف يكون اليوم الاخير لنا في باريس على العكس مما خططنا له قبل مجيئنا الى هنا ، إذ سنضطر الى العودة بسبب مشاغل تنتظرنا في بغداد قبل أن ننهي زيارتنا للعديد من المواقع السياحية والاثرية، منها المكتبة الوطنية الكبرى الفرنسية،وحديقة النباتات “Jardin des Plantes”،وحدائق لوكسمبورغ ” Jardin du Luxembourg “،وحديقة دي تويلوري “Jardin des Tuileries” ، ومركز جورج بومبيدو( Centre George Pompidou)،ومتحف أورسي (Orsay Musée) ، وسجن الباستيل (bastille) ، والبانثيون (Panthéon) ،ومتحف المعالم الفرنسية( Musée des Muniments ) ، وغيرها من الاماكن الجديرة بالزيارة والمشاهدة.
سنزور يوم غد من الصباح الباكر قصر فرساي ( Chateau de Versailles) و وحدائقه الخلابة ، وفي المساء سوف نزور كاتدرائية القلب الأقدس (Sacré -Coeur Cathedral ) الشهيرة والعريقة في القدم قبل أن نغادر باريس يوم بعد غد صباحاً.
دمت بخير والسلام..
المخلص وليد،
باريس في الثلاثيــن من آب ٢٠١٢