5 نوفمبر، 2024 6:47 ص
Search
Close this search box.

رحلة البحث عن أفلاطون

رحلة البحث عن أفلاطون

منذ الأزل , تساءل الناس عن (العدالة) , هل هي : ” أن يرد للإنسان ما يملك ” ؟ , أهي : ” منفعة الأصحاب و مضرة الأعداء ” ؟ , أم أنها : ” نيل الجميع حقه ” ؟ , بل ربما هي : ” منفعة الأقوى ” , و الأهم أهي ضرورية ؟ أم أن التعدي انفع منها ؟ , هذا كان موضوع النقاش الدائر بين سقراط و جماعته , و انطلق الحديث و استرسلوا به حتى وصلوا إلى تأسيس دولة صغيرة سعيدة عادلة ليروا إن كانت أسعد من دولة متعدية , فبدئوا بوضع العاملين الأساسيين من فلاحين و بناءين و حاكه و أساكفة و حدادين و نجارين وغيرهم , ثم بدئوا بوضع الأعمدة الأساسية .
في البداية بدئوا بصورة الآلهة لدى الناس , حازمين على التحكم برؤية الناس لها بما يخدم غاياتهم , اختلفوا مع العديد من أقوال هوميروس و هسيودتس _الشائعة في ذلك الوقت_ التي تعطي للآلهة صورة تتنافى مع أهدافهم , فرفضوا فكرة تغير الآلهة سواء بفعلها أو بتأثير خارجي , إذ أن الأكمل اقل تغيرا و الأقوى هو الأقل تأثرا بأية قوى خارجية _ فالآلهة هي الأقوى _ و كذلك اختلفوا مع فكرة امتلاك الآلهة مشاعراً مثل البشر كالحقد و الكره و الانتقام والخوف , بالإضافة إلى الآلهة اختلفوا مع أفكارهم بشأن الخوف من الموت و العذاب الذي ينتظر الناس عند الموت لكي لا يصبح الناس جبناء خائفين من دخول المعارك .
وهكذا فهم يستغلون القصص و الأساطير في مصلحتهم , إذ وضعوا القصة القائلة بأن الأرض خلقت البشر و وضعت في كل منهم معدنا منها , من فيه ذهب فهو من الملوك ومن فيه فضة فهو من الطبقة المتوسطة و من فيهم حديدا أو برونزا فهم من الطبقة العاملة , المبدأ النبيل _ ظاهريا _ هنا هو أن الحكم ليس ملكيا , بل على أساس المَلَكات والمهارات و ما شابه ذلك _ هذا تظاهر فقط إذ إن أبناء الطبقة الحاكمة الخالصين هم من يتم اختيارهم _ذلك لإعطاء أهداف عظيمة للعامة يصبون إليها , كذلك يجب أن لا يمتلك الحكام أملاكا خاصة و ما شابه ذلك لئلا يستكبروا على بقية الشعب , ويجب الاهتمام بالفلاسفة و الشيوخ العقلاء فهم المشورة الحكيمة و أساس الحكم , و الفلاسفة هم (محبي جميع أنواع الحكمة , أصحاب البصيرة و الصدق و الحكمة ) .
أما الموسيقى و الفن فقد لقيت نصيبا لا بأس به هنا , إذ يرى سقراط بأنها وسيلة لتهذيب النفس و تنمية العقل و وهب السعادة لها و تنظيم المشاعر الإنسانية إضافة إلى استغلالها لصالحهم , وكذلك تم الاهتمام بعلوم الحساب و الهندسة و الفلك و إيجابها بيانا لأهميتها البالغة في حياة الدولة , كذلك يجب تهذيب الناس _ فالتهذيب يغني عن الشرائع _ فيجب احترام الشباب للأكبر منهم و معاملتهم بتوقير , إضافة إلى الفضائل الأربعة و هي : الحكمة ( لدى الحكام من الشيوخ ) و الشجاعة ( لدى المحاربين ) و العفة ( الوئام التام بين الجميع ) و أخيرا العدالة ( وهي أن يقوم كل باختصاصه و ترك الفضول فذلك تعدي يفسد العمل و يقلل من جودة عمل المتعدي ) و هكذا يجب على الجميع إن يلوذ بما تشير له فطرته , فالدولة إنسان مكبر و الإنسان دولة مصغرة إذ يجب التنسيق بين الجوانب المفكرة و المنفذة والمنتجة في الإنسان و الدولة .
الموضوع الغريب الآخر هنا هو شيوعية النساء والأولاد , إذ يمكن التزوج بين أي رجل و امرأة بحسب قرعة _ يتم تزييفها للحصول على الأنواع الملكية الأفضل , إذ تتزاوج الأعراق العليا بالعليا و الأعراق الدنيا بالدنيا _ ويتم اخذ الأولاد من الأمهات و تتم تربيتهم من قبل الدولة بمعاهد خاصة و من قبل مربيات خاصات , فلا يعرف احد أباه أو أمه أو خاله و ذلك لكي يسود الاحترام بين الجميع على اعتبار وجود قرابة بينهم فلا يتنازعون فيما بينهم و لا يتنازع احد على المال و الأبناء و الأصحاب , إضافة إلى هذا يرى سقراط انه يجب تدريب المرأة كالرجال والمشاركة في القتال و القيام بالجمناز كالرجال إذ إن الجميع لديه مهارات خاصة و لو أجاد نضيره احدها فذلك لا يعني عدم قدرته على إجادتها , هكذا يتم استثمار المهارات والقدرات الكامنة لدى الجميع .
ينتقل سقراط إلى وصف أنظمة الحكم الخمسة فيرى بان الأرستقراطية هي حكومة الأفضل و الثيوقراطية هي حكومة الشرف (الحكم الديني) و الاولغاركية هي حكومة الأغنياء (حكم الأقلية) و الديمقراطية هي حكومة الشعب و الاستبدادية هي حكومة الرجل الواحد , في النهاية نستنتج بأن العدالة أنفع من التعدي فالذي تؤدي به الحياة للتعدي يحيا حياة رديه لذلك وجب البعد عنه فهو الدمار و اغتصاب الحق ويؤدي لتعاسة صاحبه , ويجب التوسط بين العدالة والتعدي فتلك هي الحياة الخيِرة للإنسان .
هناك الكثير من الثغور في هذه الجمهورية الخيالية _ من وجهة نظري _ , فاقتصاديا هذه الدولة ( اشتراكية ) بالرغم من أنها دولة أساسها العدل كما يفترض , و رؤى الناس و إيمانهم و معتقداتهم كلها متحكم بها و ليست صائبة بالضرورة , و لا مراعاة لأذواق الناس الشعرية و الموسيقية إذ يفرض عليهم ما يلاءم غايتهم فرضا , و كذلك لابد أن يشذ احد عن هذه القاعدة فالبشر فضوليون بطبيعتهم و ينشدون الحرية التي هي فطرة أساسية و التي هي أن يكون المرء قادرا على القيام بما يشاء بلا إضرار بأحد أو بشيء , وليس قدرته على القيام بأي شيء حرفيا بلا ضوابط , و اجتماعيا فالعلاقات هنا غريبة جدا كالحيوانات _ المعذرة _ , ألا يعرف احد أبيه أو أمه أو إخوته ؟ أيتزوج الجميع بالجميع هنا بل ربما يتم زواج بين إخوة ! ثم أين سعادة الأمة هنا و كل شيء متحكم به من جهة غير معروفة ! .

وقد صدق أفلاطون عندما قال :
” نحن مجانين إذا لم نستطيع أن نفكر، ومتعصبون إذا لم نرد أن نفكر، وعبيد إذا لم نجرؤ أن نفكر ” .

أحدث المقالات

أحدث المقالات