غالبا ما نجد أن أطر التفكير والتخطيط الاستراتيجي, هي الفيصل المهم الذي يمكن لنا من خلاله تحديد نجاح المشاريع أو فشلها, لذا كان لزاما على أي مجموعة بشرية تروم النجاح في مشروع ما تتبناه, أن تُحسن من عمليات التفكير والتخطيط المسبقة لقيامها بهذا
المشروع أو تحقيق ذاك الهدف؛ وكيف يكون الأمر ونحن اليوم نتحدث عن مشروع بناء دولة, يحلم كل أعضائها وأبنائها بأن تكون دولة قوية طليعية بالمقاربة مع أقرانها .
ما يحتاجه العراق اليوم – بعد محن سياسية وأمنية وانكسارات اقتصادية, وتحطم آمال وإرادات جماهيرية – هو تجاوز مراحل التفكير الآني أو اللحظي في تفاصيل المشاكل المختلفة التي تمر به, أي أن البناء التخطيطي السليم, يجب أن لا يركز على معطيات
الحاضر (وإن كانت مغرقة بواقعيتها) بل لابد من أن يكون بنائه مستقبلي تدريجي, يُحسب فيه حسابات البناء الاجتماعي (السياسي, والهوياتي) , ويُحسب فيها حساب البناء المؤسساتي الصحيح لكل مرافق ومؤسسات الدولة (الإدارية والاعتبارية – المعنوية).
إن الحراك السياسي التغيري (القسري) الذي بدأت ملامحه وبوادره بالظهور, إضافة لتغير مدخلات الحدث الدولي والإقليمي, وبالنتيجة توحيد إصطفافات جديدة في مخرجاته, دفع إلى ظهور أشكال سياسية جديدة كل همها هو إستنطاق الأحداث بواقعية, والسير بموجب
نتائج هذا الإستنطاق؛ فكان مشروع تيار الحكمة الوطني, والذي جعل من فكرة تبني مشروعا وطنيا جامعا, هدفه المقدس الذي لا يعلو مقدس عليه سوى الله!
تقوم فكرة المشروع الوطني الجامع, على أسس واقعية, تحسب حساب التأريخ (بإرهاصات الفشل والنجاح فيه), فهو ذو هدف أسمى تتطلبه المرحلة, حيث الذي يجب تقديمه على كل الأهداف الأخرى, لأن عدم تبني أي مشروع وحدوي يجمع الأطراف ويخلق حالة
الاطمئنان فيها, إنما يعني عدم النجاح وعدم التمكن من خلق وعي جماعي, يعمد إلى تجذير الهوية الوطنية المحفوفة بإرادة عيش مشترك, ومدعومة بحرية مدنية يمكن لها أن تُكوّن شعب واحد, بل سيقوم الإتجاه المعاكس (الإنكفائي, الديماغوجي) بدفع إرهاصات الفشل,
لضخ الحياة في أدوات (عدم الثقة) التي أصبحت متلازمة إشتراطية في العلاقات السياسية بين الحكام والمحكومين في هذا البلد.
منذ نشأة الدولة العراقية الحديثة, كانت الروح والهوية الوطنية, عبارة عن جسد معنوي ضعيف المناعة, فأي موقف سلبي أو أزمة يمر بها البلد, لهي كفيلة بأن تصيب هذه الروح أو هذه الهوية, بفايروس مرضي , يجعل البلد يقع بعد قيام, وما أن تزول أعراض المرض
ويتماثل للشفاء, نجد أزمة أخرى توقعه بمرض يسقطه مرة أخرى, فتتشوه الهوية الوطنية في كل مرة, على الرغم من المحاولات العديدة والحثيثة والصادقة التي أرادت كسر طوق هذه الأمراض, وضخ مضادات حيوية لمرض ضعف المناعة التي أصابت الهوية الوطنية في
هذا البلد.
الجانب الآخر والمهم في فكرة المشروع الوطني الجامع, هو ضرورة الإيمان بمصهر القيم المعنوية والحياتية المعاشة, والمسمى بــ(الهوية الوطنية), والتي يوفرها مفهوم الدولة الوطنية الحديثة, أي أن ارتكاز الأفراد والقيادات والجماعات, في خلافاتها واختلافاتها, على
مرتكزات تمثل أسسها ومبادئها الطائفية أو المذهبية أو العرقية أو العشائرية أو المناطقية, إنما يعني هديما لأسس الحياة المدنية, وتحطيما لأي مشروع يروم إقامة دولة قوية, في أي بقعة على الأرض, وهذا لن يتحقق إلا بوجود وعي حقيقي وإيمان تضحوي, بأهمية خلق
اجتماعي لهوية وطنية موحدة, تخلق حالة الاطمئنان بين أبناء هذا البلد بكل صنوفهم ومسمياتهم ومقاماتهم, وتكون تجسيدا حقيقيّاً لحالة نضج سياسي تتطلبه عمليات بناء الدول العصرية المتمدنة.
طرفي المعادلة إذن يقومان على إيجاد أسس تفكير واقعية وصحيحة تمكننا من النجاح في بناء دولة ناجحة في الهياكل والبرامج والسياسات؛ ويقوم من ناحية أخرى بإعادة إستحضار الروح الوطنية, لنتمكن من إيجاد العنصر الأهم في الإستقرار, وهو (الهوية الوطنية),
التي تعتبر العامل الحاسم في توحيد الأمة, لأن هذه الروح هي التي توفر سبل إيجاد أمة واحدة متصالحة مع نفسها, ومتصالحة مع بعضها ومع قيمها الإنسانية والإسلامية والعربية, لتتحقق إرادة الشعب الذي يطالب دوما بــ (وطن).