23 ديسمبر، 2024 9:56 م

هل بالامكان نشر ثقافة الديموقراطية في العراق ؟

هل بالامكان نشر ثقافة الديموقراطية في العراق ؟

الواقع الاجتماعي و الثقافة العامة و تاريخ العراق يعطونا فكرة عامة لتوقع ما يقبل التطبيق و ما يُرفض او يُفشل في هذا البلد، ناهيك عن ما تتسم به المنطقة من الصفات و كيف تسيطر المثاليات او بالاحرى الغيبيات و الخرافيات و الروحانيات على العقلية العامة و بنسب مختلفة من مكان لاخر او من منطقة لاخرى او من طبقة و شريحة لاخرى، و نوعية العلاقات العامة و الصراعات و الاصح التقاطعات بين مسار شعوب المنطقة و توجهاتهم ، كل هذا يدعنا ان لا نتسرع في حكمنا على ما يمكن ان نلتزم به او نتفائل به، و هذا ايضا يفرض علينا ان لا نهلع في ركضنا وراء ما يمكن ان نلعب به جراء توقاعتنا من مدى تقبل المنطقة لتجسيد بعض المفاهيم التي تحتاج لارضية و عقلية و الية مناسبة، و التي يجب ان يصبح بعضها قابلا للنشر من خلال العمل على انتشاره قبل اي شيء اخر، كالثقافة العامة بين المجتمع، و عندئذ يكون قابلا لتجسيده كعملية طبيعية و واقع حال، كمفهوم الديموقراطية الاصعب تنفيذا بين المفاهيم الانسانية السياسية و الاجتماعية العامة .
كما نعلم، ان الديموقراطية الحقيقية، هي ليست  الانتخابات و اختيار من يحكم من خلال الية معينة فقط، و ان توفرت الحرية الكاملة او بشكل مطلق لتنفيذ تلك الالية . و كما نلاحظ من مجرى التاريخ و ما نحن فيه اليوم ايضا، كم من النظم الدكتاتورية و منها باسم الدين او القومية اومذهب او ايديولوجية او اية حجة كانت اعتلت على الحكم مستندة على ما سمتها الالية الديموقراطية و لكنها في الجوهر مزيفة، وكانت اخطر من السلطات الثيوقراطية و الملكية و الانواع الاخرى التي شهدها التاريخ و التي فرضت نفسها على الشعوب، و الديموقراطية الحقيقية منها براء .
في العراق اليوم و بعد عقود من الضيم، سقط راس الدكتاتورية بعملية خارجية فوقية مفاجئة لم تحضر لها اية ارضية و يمكن ان نشبهها باحدى الانقلابات التي حدثت قبلها في العراق او المنطقة عموما، الا ان اقرار الدستور الغامض و الفوضى التي عمت و ما فيه من الثغرات يدع اي متتبع ان يتشائم بتطبيق مفهوم الديموقراطية لوجود ما ينقضها من البنود و في جوهرها اضداد الديموقراطية الحقيقية ان قرانا جوهر الافكار التي استندت عليها لصيغة تلك البنود و العبارات، و يدع مجالا واسعا للمراوغة و فرض الافكار المشبوهة، ان توفرت القوة لدى المؤمن بتلك النية . غير ان وجود الدستور الدائم و تغير الاجواء العامة و تبديد الخوف وفٌر مجالا واسعا لاعادة اعداد الذات شيئاما، ان تشجعت العقليات التقدمية في الغور في السباق المحتدم، و بلغت الحال لواقع يحتاج للاستهلال بالبناء من الاساس الصحيح و في ظرف مختلف تماما لما تاسست فيه الدولة العراقية في بدايات القرن العشرين . المجتمع كما هو، الثقافة العامة على حالها، العقلية و بنسب كبيرة لم تخرج من الاطار التي فرضه الواقع طوال العقود، لم نر تغييرا مشجعا و كلما بدات العجلة تتحرك في الاتجاه الصحيح واجهتها الحواجز،عدا المعوقات الداخلية نلمس التدخلات الخبيثة المستندة على مصالح الدول و التوجهات و الافكار و العقائد الضيقة في المنطقة التي يمكنها ان تشل تلك التحركات ايضا قبل ولادتها .
برزت الى السطح بعد سقوط الدكتاتورية احزاب و تكتلات و تيارات، اختفت منها العديد كليا و خفت بريق الاخرى ، و بالاخص من كان خيالي التوجه و الهوى و العمل و الاهداف، و ازدهر من كان له الجذور التاريخية الممتدة في ثنايا المجتمع و هو يفرض نفسه متكئا على الواقع الاجتماعي الثقافي العام و على مستوى الفكر و التوجهات العامة، و هو يعمل وفق اليات مختلفة عن الاخرين و ان كانت متخلفة في جوهرها حتى النخاع ، كل تلك التي يمكن ان تسمى  بالتناقضات التي يحملها من اجل السيطرة و التكاثر العددي لاستغلاله في التصويت و ما تفرضه الانتخابات و التاثيرات العددية في الحياة السياسية العامة في العراق، في هذه الحال التي تفتقر الى تاثير النخبة و انعدام الطليعة في جميع الامور .
لازال التعصب بجميع انواعه و اشكاله سيد الموقف، فتعمل العديد من الاحزاب في الغرف المظلمة و هي تعزف على الوتر الخاص بتلك التعصبات و على النوع المفيد الملائم منه بالذات مع الزمان و المكان الذي يدفع باعلاء جماهيريته من اجل مواصلة السيطرة على زمام الحكم لتثبيت الذات اكثر و العودة بالبلاد الى ما كان و التفرد بالحكم لحين الوصول الى نقطة اللاعودة .
الديموقراطية الحقيقية ليست سهلة المنال و التطبيق في كل الظروف، و لا يمكن صنعها او فرضها او ايجادها في جميع الاجواء و الارضيات و العقليات . ربما الية ما منها يمكن استغلالها و في مجال ضيق لاجل غرض معين في نفس يعقوب و تسميتها بالديموقراطية .
ان الطابع العام لنشاة و نظرة و عقلية الانسان العراقي اعتمد على الاعتقاد بالقوة الخارقة الموجودة خارج افعاله و امكانياته و عقليته ، و يفرض عليه الاستناد عليه في افعاله و افكاره في الحياة الخاصة  و العامة، و التعامل مع ما يسير الدولة و الواقع السياسي ضمن هذا الاطار و التفكير و الاعتقاد و دون ان يعلم انه دخل الى النفق الذي يصله الى مكان يفرض عليه ان يطبق افكار مثالية مؤثرة على سلوكياته الاجتماعية و الثقافية و السياسية و المحاولات الخجولة للخروج منها تكون دون جدوى، و كذلك يصعب عليه الخروج منه بسلام شافيا من هذا الذي يمكن ان يسمى بالمرض الفكري الاجتماعي المعقد، وحتى على ارض الواقع وهو يجد نفسه في حال يخلق اشباحا  من الاخرين متوهما بامتلاكها القوة الخارقة التي يعتمد عليها و هي التي تنقذه في اية محنة يقع فيها، و هو متربى عليها منذ الصغر، و هذا هو اصل الفكرة و العملية التي يفرض على اخلاقيات و سلوكيات الفرد و المجتمع ما يسمح لصنع الدكتاتوريات او يوفر الارضية الخصبة لانتاجها و بروزها في هذا الواقع الاجتماعي السياسي العام .
 ضمن هذا الاطار من الثقافة  و الحالة النفسية العامة و العقلية و الواقع السياسي و الاجتماعي المفروض تلقائيا، السؤال الذي يفرض نفسه هو؛ هل بالامكان ان نتوقع مجيء يوم و نتلمس فيه ثقافة متجسدة مبنية على ما يدع الديموقراطية سهلة التطبيق و تكون مبنية على حرية الراي و احترام الاخر و ابتعاد الكره و الحقد و البغضاء الناتج من مسار التاريخ كافرازات للافكار الخرافية، و هل من فرصة سانحة على الاقل للايمان بالعدالة الاجتماعية و الافكار و الايديولوجيات المؤدية الى الطريق التي تصلنا لفرض المواطنة الصحيحة الخالية من العقد، ام نرى التكبر و حب الظهور و الجهود المبذولة لنيل الموقع الاجتماعي بالقوة و الاستيلاء على السلطة و امتلاك القوة هو الهم الوحيد  الذي يدفعنا غريزيا ما اكتسبناه للتعامل مع البعض . ان كان هذا كله يجتمع في مكونات قومية و مذهب و حتى عشيرة او فصيلة معينة بحد ذاتها كما في الاخريات و بنسب متفاوتة، فكيف يمكن تقييم الحال عند التعامل مع الاخر من حيث المذهب و الدين و القومية و ما يمتلك من الخصائص و السمات التي يمكن ان لا تكون هناك نقطة تشابه او مشاركة  بينهم . فان وصف المجتمع العراقي بمجموعة او تكتلات و العشائر البعيدة عن تسميته بالشعب من حيث معنى و مضمون المفهوم، او انعدام التماسك المطلوب لاسباب ذكرت في حينها، فكيف لنا بايجاد صفة و روح المواطنة الحقيقية للفرد بعيدا عن تلك التسميات التي غرزت في كيانه و بهذه العقليات الموجودة الان . فالمواطنة الصحيحة هي المطلب الاول لتطبيق الديموقراطية بعد الحرية و هي من الضروريات التي لا يمكن الاستغناء عنها باي شكل كان، و الا فالديموقراطية المتنفذة و ان كانت صحيحة ايضا ستكون عرجاء و لم تحقق مسار التقدم و لم تشهد الاليات الصحيحة و فرصة نجاحها ضئيلة جدا . اذن نشر ثقافة الديموقراطية في جو مشحون بمثل هذه الصفات و السمات العامة المنتشرة اصعب من المتوقع ، و به يجب سلك الطرق الاخرى المتوفرة لتطبيقها لحين ايجاد الارضية و ان كانت هناك فرص يمكن لبعض هذه  التطبيقات الخاصة لهذه المفاهيم  اعتمادها في فصول و اجزاء و بقع معينة من هذا البلد دون غيرها، و هذا ما يمكننا من تسهيل التنفيذ الكلي عند النضوج . و لنا ان نعترف و نتوقع دون احياز بان الفكر اليساري الواقعي و بما يتضمن من الخصائص المعتمدة كالعمل من اجل توفيرالعدالة الاجتماعية و الحرية و المواطنة السليمة، و عليه يمكن ان يكفل تطبيق الديموقراطية الحقيقية في مرحلة تاريخية معينة، و ما نحن موجودون فيه يقبل الاحتمال بنجاح الالية لتطبيقها، و لكن لا يمكن توقع مدى نسبة النجاح هنا ايضا .