خاص : ترجمة – سعد عبد العزيز :
نشر المركز “المقدسي للشؤون العامة والدولة” مقالاً تحليلياً للكاتب والباحث الإسرائيلي “تسفي مزال”, تتبع فيه المراحل التاريخية لمشكلة الأقليات الكردية في كل من العراق وسوريا وتركيا وإيران, والتداعيات المرتقبة لاستقلال “إقليم كردستان العراق”.
الأكراد يُصرون على تقرير المصير..
يمهد الكاتب الإسرائيلي تحليله موضحاً: “يبدو أن الشرق الأوسط الذي يعاني من مواجهات خطيرة سيشهد قريباً أزمة جديدة ستؤدي إلى مزيد من توتر العلاقات بين دول المنطقة. فها هو “مسعود برزاني” رئيس الإقليم الكردي, الذي يتمتع بحكم ذاتي في العراق يُصر على إجراء الاستفتاء على استقلال الإقليم في الــ25 من أيلول/سبتمبر المقبل رغم الاعتراض التام من جانب الدول الإسلامية والغربية. وتكمن المشكلة في أن الأكراد متواجدين في أربع دول هي: “العراق وتركيا وسوريا وإيران”, وهم يشكلون أقلية ذات تطلعات قومية ويسعون للاستقلال أو على الأقل لنيل حكم ذاتي في إطار فيدرالي. وإذا تحقق استقلال الأكراد في واحدة من الدول الأربع, سيشعل التطلعات القومية لدى باقي الأكراد في الدول الثلاث المتبقية”.
تاريخ المشكلة الكردية..
يضيف “مزال” أن الأكراد ينتمون وفق لغتهم إلى مجموعة الشعوب الإيرانية. وهم قبائل تحمل منذ فجر التاريخ سمات اجتماعية خاصة. أما ظهورهم ككيان قومي فقد بدأ تدريجياً مع بداية العصور الوسطى التي أقاموا خلالها عدة إمارات وشاركوا في كثير من الحروب التي اجتاحت المنطقة, لكنهم في نهاية المطاف أصبحوا تحت هيمنة الامبراطورية العثمانية. غير أن المشكلة الكردية تفجرت من جديد بعد الحرب العالمية الأولى, في إطار حركة تحرر للشعوب التي كانت خاضعة إما لحُكم الدول الكبرى في وسط أوروبا أو الامبراطورية العثمانية.
بحسب الكاتب الإسرائيلي فإن معاهدة “سيفر” – التي وُقعت عام 1920 لتنفيذ اتفاقية “سايكس بيكو” لتقسيم الشرق الأوسط بين الدول العظمى في ذلك الوقت – قد أقرت أيضاً إقامة إقليم حكم ذاتي للأكراد جنوب شرق “أنطاليا”. لكن ذلك لم يتم في أعقاب الثورة القومية التركية بزعامة “كمال أتاتورك” الذي استولى من جديد على كل المناطق الواقعة في آسيا الصغرى، والتي تضم حالياً الدولة التركية. ونتيجة لذلك وجد الأكراد أنفسهم – بعدما فقدوا مساندة الدول العظمى – يعيشون كأقليات في الدول الأربع المذكورة. لكنهم لم يستسلموا وظلوا يناضلون لنيل الاستقلال بين عامي 1920 – 1940, وقاموا بالتمرد في “تركيا وإيران والعراق”, لكنهم تعرضوا للقمع الشديد. وكانت آخر محاولة للأكراد عام 1945 عندما أقاموا ما سُمي بـ”جمهورية مهاباد” في منطقة شمال غرب إيران، التي كانت خاضعة للاحتلال السوفياتي لكنها سقطت بعدما تمكن الإيرانيون من استعادة الهيمنة عليها.
وتبلغ مساحة المنطقة التي يتركز فيها الأكراد بين إيران وتركيا والعراق وسوريا، قرابة 200 ألف كيلو متر مربع, ويتراوح تعدادهم من بين 30 إلى 40 مليون نسمة، وهم في غالبيتهم ينتمون للمذهب السني, ولكونهم من غير العرب فإنهم يتعرضون للتمييز, فلا يُسمح لهم بالتحدث بلغتهم أو دراسة تاريخهم.
الأكراد في إيران..
يوضح المحلل الإسرائيلي “مزال” أن الأكراد بدأوا بعد الحرب العالمية الثانية موجة أخرى من أعمال التمرد, ففي إيران التي تعيش بها أقلية كردية, تُقدر بحوالي 6 ملايين نسمة, شن “الحزب الكردي الديمقراطي” مواجهات عسكرية متواصلة خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. وتم قمع تلك المواجهات بقسوة شديدة خلفت عشرات الآلاف من القتلى. والآن توجد في إيران حركة كردية تنفذ أحياناً عمليات حرب عصابات لكنها غير مؤثرة. ويبدو أن الأقلية الكردية الإيرانية لم تتعافى حتى الآن من النضال القديم، وهي تواجه حالياً نظاماً متسلطاً يسيطر على الأقليات بيد من حديد, ولا يود سماع أي مطلب لقيام حكم ذاتي من أي نوع, وإن كان النظام يسمح للأكراد أن يتحدثوا بلغتهم ويُصدروا صُحفاً بها.
الأكراد في تركيا..
أما الأكراد في تركيا فيبلغ تعدادهم قرابة 25 مليون نسمة. ولقد بدأ تمرد الأكراد هناك منذ عام 1984 تحت راية “حزب العمال الكردي” الـ(PKK), بهدف مُعلن هو تحقيق الاستقلال. ولقد خلف النزاع بين النظام والأكراد هناك قرابة 40 ألف نسمة. وحقيقة أن النظام التركي وافق على تشكيل حزب كردي وهو مُمثل في البرلمان, إلا أنه غير مستعد لبحث قيام حكم ذاتي فضلاً عن الاستقلال.
الأكراد في سوريا..
تعرض الأكراد السوريون – البالغ تعدادهم ما بين 2 – 3 ملايين نسمة – للقمع الشديد في عهد الرئيس الراحل “حافظ الأسد”, ولم يكن في إمكانهم التمرد على النظام. لكن الأوضاع تغيرت باندلاع الثورة ضد “بشار الأسد” عام 2011, حيث اتحدت التنظيمات الكردية وأقامت “وحدات حماية الشعب” (YPG), وهي ميليشيا لحماية المناطق الكردية وتعمل تدريجياً لإقامة منطقة حكم ذاتي, تطل على الحدود مع تركيا. وشن هؤلاء الأكراد الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية الذي هدد بالسيطرة على مناطق تابعة لهم. ولقد سبق للأكراد تحرير “مدينة كوباني” بعد نضال بطولي, مما حفزهم على تشكيل قوة عسكرية متميزة وهي “قوات سوريا الديمقراطية” (SDF) بالتعاون مع قوات من المتمردين السوريين المعتدلين وذلك بدعم أميركي. والآن تمثل تلك القوات القوة الضاربة التي تقوم بتحرير مدينة الرقة من أيدي تنظيم “داعش”. لكن في المقابل فإن تركيا ترفض إقامة منطقة كردية بطول حدودها, لأنها قد تنضم إلى حزب الـ(P.K.K). حيث قامت كخطوة أولى بإبعاد القوات الكردية إلى الضفة الأخرى من نهر الفرات, وهي تضغط حالياً على الولايات المتحدة الأميركية لوقف دعمها للأكراد.
الأكراد في العراق..
في العراق يتراوح تعداد الأكراد ما بين 5 إلى 6 ملايين نسمة, ولقد قاموا بثلاثة تمردات دموية في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي, بقيادة زعيمهم الأسطوري “مصطفى برزاني” الذي توفى عام 1979 وخلفه نجله “مسعود”. وكان قادة النظام العراقي يردون بقسوة, حيث لم يتردد “صدام حسين” في قصف قرى الأكراد بالغاز, مما أوقع عشرة آلاف قتيل, وقام أيضاً بعملية تعريب لمناطقهم.
وفي أعقاب حرب الخليج وبعدما قامت القوات الكردية – “البيشمركة” – بطرد جيش “صدام” من مناطقها, حينئذ فقط, وبضغط من المجتمع الدولي استطاعوا عام 1991 إقامة منطقة حكم ذاتي في شمال العراق, وُحظر تحليق الطائرات العراقية فيها. وبعد حرب العراق والإطاحة بـ”صدام حسين” عام 2003, تم توسيع الحكم الذاتي بنص الدستور العراقي الجديد, الذي قسم المناصب العليا بين الطوائف, فجعل “الرئيس كردياً ورئيس الحكومة شيعياً ورئيس البرلمان سنياً”. وتم تخصيص جزء من ميزانية الدولة لمنطقة الحكم الذاتي للأكراد. ووفقاً للدستور فإنه لا يجوز للجيش العراقي دخول المنطقة الكردية لأن قوات “البيشمركة” هي المخولة بحمايتها.
تضم المنطقة الكردية محافظات “السليمانية وأربيل ودهوك” بمساحة إجمالية تبلغ 40 ألف كيلو متر مربع, فيما يبلغ تعداد سكانها ما بين 5 إلى 6 ملايين نسمة, معظمهم من الأكراد السنة إلى جانب أقليات تركمانية وآشورية ويزيدية وغيرهم.
كما يطالب الأكراد أيضاً بضم “مدينة كركوك” وما جاورها وأجزاء من محافظتي “نينوى” و”صلاح الدين”, حيث تتوجد هناك على ما يبدو أغلبية كردية. ويزعمون أن تلك المناطق كردية في الأصل لكنها تعرضت لعملية تعريب من قبل “صدام حسين”, وهي تتبعهم. لكن منطقة “كركوك” تحمل إشكالية لأن بها احتياطي كبير من النفط, ومن مصلحة الحكومة العراقية أن تظل مهيمنة عليها. وازداد الوضع صعوبة عندما منعت قوات “البيشمركة” تنظيم “داعش” من احتلال “كركوك”, بعد انهيار الجيش العراقي واحتلال الموصل.
لقد سيطر الأكراد على حقول النفط في “كركوك”, وبدأوا تصدير النفط عبر تركيا, التي أقامت علاقات ودية مع الحكومة الكردية بهدف أن تكون حاضرة في المنطقة, وتحول دون قيام تعاون مشترك بين حكومة الأكراد وحزب الـ(PKK) الكردي التركي, الذي يشن مواجهات مسلحة متواصلة مع حكومة أنقرة.
استقلال كردستان العراق: حلم للأكراد وكابوس لدول المنطقة..
بحسب الكاتب والمحلل الإسرائيلي فإن برلمان كردستان قد أعلن في عام 2011 عن حق الشعب الكردي في تقرير مصيره. وكان “مسعود برزاني” الداعم لفكرة الاستقلال ينوي إجراء الاستفتاء عام 2014, لكنه وافق على تأجيله حتى لا يضر بالحملة العسكرية ضد تنظيم الدولة. وعندما لاحت هزيمة التنظيم رأى “برزاني” أنه قد حان الوقت لاتخاذ خطوة ملموسة في هذا الشأن, فاجتمع “برزاني” بممثلي الأحزاب وقرر بالإجماع إجراء الاستفتاء في الـ 25 من أيلول/سبتمبر المُقبل. لكن الردود السلبية لم تتوانى. حيث قال المتحدث باسم رئيس الوزراء العراقي إن أي قرار يتعلق بمستقبل العراق لابد أن يُتخذ وفقاً للدستور, ويقصد بذلك اجراء استفتاء عام في العراق, وهو أمر غير ممكن حالياً نظراً للخلافات الداخلية والإرهاب واستمرار الحرب ضد تنظيم الدولة.
وكان رئيس الوزراء العراقي “حيدر العبادي” قد قال, في نيسان/إبريل الماضي, إن من حق الأكراد إقامة دولة مستقلة, ولكن نظراً للأوضاع السائدة في العراق فليس هذا هو الوقت المناسب لإجراء الاستفتاء.
أما رئيس الوزراء التركي “بن علي يلدرم” فقد أعلن أن إجراء الاستفتاء هو عمل غير مسؤول، وأن المنطقة بها ما يكفيها من مشاكل وأزمات. كما وجهت الحكومة التركية رسالة بهذا الخصوص إلى الحكومة في كردستان ولكل الدول المعنية.
وكان “قاسم سليماني” – قائد “قوات القدس” الإيرانية والذي أنشأ الميليشيات الشيعية المتواجدة في سوريا والعراق – قد أجرى زيارة في نيسان/إبريل الماضي لمدينة أربيل, عاصمة كردستان, وحذر السيد “مسعود برزاني” من مغبة إجراء الاستفتاء.
يُذكر أن الاتحاد الأوروبي غير راضٍ هو الآخر عن تلك الخطوة, فيما حذر نائب المستشارة الألمانية “زيغمار غبرئيل” من القرارات أحادية الجانب التي تضر بوحدة العراق.
أما الولايات المتحدة الأميركية, التي تُعد أهم حليف للأكراد في سوريا والعراق, فقد ردت بحذر على تلك الخطوة. حيث قال المتحدث باسم الخارجية الأميركية إن الولايات المتحدة تُقدر التطلعات المشروعة للشعب في كردستان العراق وتدعم العراق كدولة فيدرالية, لكن على أية حال فإن هذا ليس هو الوقت المناسب لإجراء الاستفتاء لأن الأولوية حالياً هي لمحاربة تنظيم
الدولة.
ويأتي هذا الموقف الأميركي الحذر بسبب علاقات الولايات المتحدة المعقدة مع تركيا ذات العضوية في حلف “الناتو”, والتي ترفض أي إجراء قد يشجع حزب الـ(P.K.K). الذي يناضل من أجل الاستقلال.
لا شك أن “مسعود برزاني” قد علم بالردود السلبية من الدول المجاورة والدول الغربية, ولكن يبدو أنه مُصر على إجراء الاستفتاء في موعده. وهناك وفد من طرفه سيتوجه لزيارة بغداد قريباً لإجراء محادثات مع الحكومة المركزية.
وإجراء الاستفتاء لا يعني بالضرورة الإعلان الفوري عن الاستقلال وفصل المنطقة الكردية عن العراق. فقد ألمح “برزاني” إلى أنه يعتزم إجراء مفاوضات لإيجاد حل توافقي. لكن المشكلة تكمن في الرفض التام من جانب كل من إيران وتركيا لإقامة دولة كردية, ومن المستبعد أن يتمكن “برزاني” من إعلان الاستقلال نظراً لاعتراض أهم دولتين إقليميتين.
موقف تل أبيب..
يؤكد “مزال” على أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي أعلنت تأييدها لاستقلال المنطقة الكردية في العراق. وكان رئيس الوزراء “بنيامين نتنياهو” قد قال ذلك علانية لوفد تابع لمجلس الشيوخ الأميركي خلال قيامه بزيارة إسرائيل مؤخراً. وكان “مايكل أورين” نائب وزير الدبلوماسية في ديوان رئيس الوزراء “نتنياهو” قد أعلن أن الأكراد في العراق موالين للغرب ومستعدون للحوار مع إسرائيل, والتعاون معها في التصدي للزحف الإيراني في منطقة الشرق الأوسط.
خلاصة القول..
يخلص الكاتب والمحلل الإسرائيلي إلى أن المشكلة الكردية مطروحة دون حل منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. ولن يتخلى الأكراد عن تطلعاتهم لنيل الاستقلال أو إحراز حل فيدرالي يمنحهم الحكم الذاتي الكامل بعد سنوات طويلة من الصراع, الذي خلف عشرات الآلاف من القتلى. إن الشعب الكردي الذي يتراوح ما بين 30 إلى 40 مليون نسمة والذي يشكل أكبر أقلية في العالم لم يتمكن حتى الآن من تقرير المصير. وهنا تكمن مشكلة ضخمة وخطيرة لا يمكن للدول الإسلامية أو الغربية تجاهلها.
في المقابل فإن الشرق الأوسط, الذي يعاني أزمات مُعقدة, لن يمكنه مواجهة أزمة أخرى خطيرة. وحتى الدول العُظمى المعنية بشؤون المنطقة – كل وفق مصالحها – لا يمكنها الآن معالجة الأزمة الكردية ذات البُعد التاريخي.
يبدو إذاً أن الشرق الأوسط سنشهد تطورات خطيرة خلال الأشهر القليلة المقبلة, لأن الأكراد يريدون استغلال الأوضاع المُضطربة في المنطقة لصالحهم, كما أنهم لن يقبلوا بإحراز حلول في سوريا والعراق دون أخذ مصالهم في الحُسبان.