تکثر هذە الايام المقالات الصحفية و الحوارات التلفزيونية حول مسألة الاستفتاء الذي اعلن رئيس اقليم کردستان السيد مسعود البارزاني يوم ال٢٥ من ايلول موعدا لاجراءه و الذي يتوقع منە ان يضع نهاية لعلاقة شراکة ملتبسة و معقدة و مخضبة بالدم دامت قرابة مائة عام.
المآخذ الجدية تأتي من الاحزاب الکردية التي تری ان استفراد الحزب الديمقراطي الکردستاني بالقرار هو تهميش لدور هذە الاحزاب و قفز علی حقيقة ان هذە الاحزاب قد ناضلت في اوقات مختلفة و باساليب متعددة من اجل هدف الاستقلال و بالتالي فان اتخاذ القرار من طرف واحد هو تجيير هذە المسألة الوطنية الکبری لحشد التأييد من جديد حول الحزب الديمقراطي الکردستاني الذي تضررت شعبيتە کثيرا نتيجة للازمة الاقتصادية و لاتهامات الفساد التي تطال مواقع متقدمة من الحزب و کذلک بسبب خروقات جدية للعملية الديمقراطية في الاقليم، ليس اقلها تعطيل البرلمان بقرار احادي الجانب من الديمقراطي الکردستاني، والذي يتهم بدورە الاحزاب المعارضة له باستغلال الديمقراطية للتآمرعليه .
لذا فان خطوة الديمقراطي الکردستاني باعلان موعد للاستفتاء هي، علی الاقل بحسابات التنافس الحزبي ، خطوة ذکية، اذ تضع الاحزاب المناوءة امام خياريين، احلاهما مر، اما الموافقة علی اجراء الاستفتاء و بالتالي الظهور کأن الپارتي هو الذي يضع اجندة الاستقلال وهم يسيرون من خلفه، او رفض الاستفتاء والذي يمکن ان يفسرلدی جمهرة واسعة من ابناء الشعب الکردي علی انە رفض لاستقلال الشعب الکردي. ولتلافي هذا الاحراج لا تعلن هذە الاحزاب رفضها للاستفتاء بصريح العبارة ، دون ربط هذا الرفض بالمآخذ المعلنة علی طريقة ادارة الپارتي و حليفە (اللدود) اليکيتي لادراة شؤون الاقليم خلال ال ٢٥ السنة المنصرمة. المخرج الذي تفتق عنە ذهن هذە الاحزاب للخروج من هذە المعضلة کان دعم رجل الاعمال الکردي شاسوار عبدالواحد بتزعم حرکة “لا للاستفتاء” و رفد حرکتە بشخصيات من هذە الاحزاب و لکن بصفتهم الشخصية. نقطة الضعف في هذە الحرکة هي ان الجميع يعرفون من هم المحرکون الفعليون لها و کذلک وجود علامات اسئلة و شکوک جدية بخصوص الاثراء الفاحش و السريع لشاسوار عبدالواحد نفسە، و الذي يبرر رفضە للاستفتاء، من ضمن اشياء اخری، بفساد الحزب الحاکم!
ولکن اعتبار خطوة الديمقراطي الکردستاني ذکية بحسابات التنافس الحزبي لايجعلها ذکية بالضرورة في الحسابات الاستراتيجية، فأختيار الوقت يبدو اقل صوابا نظرا لتعقيدات الوضع الحالي . و هنا لا افکر حتی برفض انظمة الدول الاقليمية لفکرة الاستفتاء، فهذه الدول لا يمکن توقع قبولها باستقلال الکرد و لو بعد الف عام، ذلک انها اقنعت نفسها و مواطنيها بان استقلال الکرد علی ارضهم، ان هو الا مساس بالوحدة المقدسة لارضهم هم، والتغييرات الايجابية التي تجري علی هذە القناعة عند مواطني هذە البلدان تجاه حق الشعب الکردي بالاستقلال و السيادة الوطنية، تجري بسرعة سلحفاة عرجاء في عالم تنطلق تغييراتها بسرعة المرکبات الفضائية ! کما و لا اعني حتی رفض الدول الکبری العلني للاستفتاء، اذ ان التصريحات العلنية لهذه الدول لا يمکن اخذها بحرفيتها ، بل و ربما تکون من باب عمليات التشويق المعتادة عند تسويق البضائع و اضفاء التميز الخارق علی صاحب الفکرة الذي يقف لوحده بوجە جبابرة العالم و يرفض طلباتهم بألغاء او حتی تأجيل فکرة الاستفتاء. اقول ربما، لان الکل يعرفون بأن استقلال الکرد( او تقسيم العراق، لمن تحلو لە هذە التسمية اکثر!) سيکون لصالح اسرائيل بالدرجة الاولی، و امن اسرائيل هو من اولی اولویات الولايات المتحدة. بل ان فکرة التقسيم من بنات افکارهم هم حتی قبل ان يصرح السيد مسعود البارزاني بها، و هذە الفکرة تدور في اروقة البيت الابيض کشبح دائم الحضور، ولم يکن جورج بایدن لا اول و لا آخر من روج لها. ما اعنيە بعدم ملائمة الوقت هو عدم تهيئة الاقليم و اعدادە لأسوأ الاحتمالات. فالامن الغذائي غير متوفر، اذ ان اسواق الاقليم تعتمد بشکل مفجع علی المواد الغذائية المستوردة من دولتين هما الد اعداء استقلال الشعب الکردي، الا و هما ايران و ترکيا، والقطاع الزراعي لم يجر تطويرە و اعدادە ليکون قطاعا تعتمد عليه دولة تنوي الاستقلال الحقيقي ، ليس فقط من خلال وجود علم و نشيد وطنيين، و انما ايضا من خلال امن غذائي لا يسمح للاعداء بلوي ذراعها من خلال الحصار و التجويع. الامن المائي ليس في حال افضل، فالکل يعلم بأن الاقليم و منذ سنوات عدة يعاني ،کباقي العراق، من شحة مقلقة في المياه. الاعداد لهذا الامر کان يجب ان يجري خلال ربع القرن الذي مضی. اما ان تعلن سلطات الاقليم و بشکل استعراضي، و بعد حوالي شهرمن اعلان نية الاستفتاء، بانها ستقيم ١٤ سدا لمواجهة احتمالات خطر شن حرب المياه علی الاقليم( کما جاء في نص الخبر!) فأنە امر يثير الشفقة و السخرية المرة.
هذە هي المعطيات علی الجانب الکردي من المسألة.
علی الجانب العربي العراقي فهناک ثلاث تيارات يجب تمييزها وتناول مواقفها:
الجمهرة الواسعة من العراقيين اللاحزبيين مسحوقة بمشاکلها اليومية في مواجهة الارهاب و الفساد و سوء الادراة في مجالات الصحة و التعليم و الخدمات البلدية وليست معنية بأمر الاستفتاء الا بقدر تعودها علی ان تری کردستان جزءا من وطنهم و بالتالي لا يريدون اقتطاعه من وطنهم العراقي، و لکن هذە الکتل البشرية يمکن تعبئتها، في حال وجود ارادة للشرو اثارة الحروب، بحيث تکون وقودا في حروب الاحزاب الدينية اذا اراد لها ممولوها و صانعوا قراراتها من الخارج ان تحارب. علی الجانب الکردي ان يوضح لهذە الجموع بأنە لا يريداقتطاع وطنهم هم ، بقدر مايريد استرجاع وطنە هو، ليقيم فيە دولتە و يکون جارا طيبا لهم. الاحزاب الکردية ليست، و للاسف، مؤهلة للقيام بهذا الدور لما يحيط بسمعتها من فساد و سرقات کانت و لا تزال اوضح من ان يتم التغاضي عنها او تبريرها.
الاحزاب الدينية ، کما اوضح الکاتب السيد مالوم ابو رغيف في مقالە القيم في الحوار المتمدن ” استقلال کردستان و الآراء المضادة ” ليست معنية بأمر بقاء کردستان مع العراق او ذهابها حتی الی الجحيم الا بقدر ما يحلە و يحرمە اولياء امورهم خارج العراق ( ايران شيعيا و السعودية سنيا)
موقف ايران واضح و عدائي منذ اللحظة الاولی و بالتالي فسوف لن يکون صعبا التنبؤ بالاتجاهات و ردود الافعال التي ستتخذها الاحزاب الشيعية في حال اعلان کردستان لاستقلالها.
الموقف السني اکثر غموضا وليس اقل مدعاة للقلق. السنة الذين يتلقون الوحي من اردوغان عليهم علی الاقل اظهار العداء اللفظي لاستقلال کردستان ولو انهم، حالهم حال اردوغان، يعرفون بأن کردستان، لو استقلت بوضعها الحالي، سوف لن تکون الا حقلا نفطيا يزودهم بالنفط الرخيص وسوقا مفتوحة يبيعون فيها سلعهم المتدنية النوعية و ساحة للاستثمار لشرکاتهم.
السعودية و الاحزاب السنية العراقية التي تتلقی الوحي من السعودية تروج ،تلميحا مرة و تصريحا مرات اکثر، لفکرة اقامة دولة سنية تحت قيادة مسعود البارزاني، طبعا ليس حبا بمسعود البارزاني او الشعب الکردي بل حلا لمعضلة حلمهم باقامة دولة للسنة في مواجهة العراق الشيعي. فلو اقتصرت تلک الدولة السنية علی المناطق التي تعرف حاليا بالسنية، ستکون تقريبا معدومة لمصادر البقاء کدولة و تبعات المواجهة مع الشيعة کما يريد لها السعوديون، و بالتالي فالحل في نظرهم هو انضمامها لکردستان، لتلعب الاخيرة دور البقرة الحلوبة في الحروب الطائفية التي تخطط للمنطقة. في البداية يمکنهم القبول علی مضض بشخص کردي علی رأس تلک الدولة ثم محاولة تنصيب عربي سني من خلال آليات يراد فرضها في البداية علی الکرد لدعم حلمهم بالحصول علی دولة و لو بأي ثمن. هذا المخطط يجب رفضە بکل قوة لانە سينفي اي معنی للاستقلال الکردي
اليساريون العراقييون واحزابهم يجدون انفسهم في موقف صعب يشبە الی حد بعيد وضع احزاب المعارضة الکردية و لو مقلوبا بعض الشيء، فلو دعموا الاستفتاء و بالتالي استقلال کردستان سيظهرون کمن خذل العراق و وحدتە، و ستستغل الاحزاب الدينية و القومية العربية هذا الموقف لشن حملة ضدهم و التشکيک بکل طروحاتهم و تأليب الرأي العام العراقي ضدهم لاسکات صوتهم الاکثر وضوحا في فضح الفساد، و لو وقفوا ضد الاستفتاء سيکونون کمن يضع کل طروحاتە حول الايمان بحق الشعوب في تقرير مصيرها موضع التساؤل و التشکيک، بل و يفقدون ذلک التقدير الذي تکنە لهم اوساط واسعة من الشعب الکردي. لقد مضی زمن الحرب الباردة و المريح نسبيا بخصوص الاجابة علی السؤال حول حق الکرد بالاستقلال، فقد کان الجواب بسيطا و مقنعا و کالتالي :” نعم، و لکن ” ثم ماکان علی المرء سوی الحديث عن خطورة اضعاف جبهة اليسار و الاشتراکية في وجه مؤامرات الامبريالية و الصهيونية و ..و . و كأن جبهة اليسار و الاشتراکية ماکانت لتقوی الا ببقاء الکرد تحت نير انظمة طاغية شبه فاشية، و کأن جبهة الامبريالية ماکانت لتغلب لو کان الکرد مستقلون!
نعم لقد مضی زمن الحرب الباردة و علی اليسار ان يقولها صريحة و واضحة ” هل يدعمون حق الشعب الکردي بالاستقلال التام و اقامة دولتهم ام لا؟” بعد ذلک يمکنهم ايضاح کل مآخذهم علی کيفية اجراء الاستفتاء و مخاوفهم من احتمالات المستقبل. عليهم بدل ان يصرفوا جهودهم لتبرير عدم دعم الاستقلال ان يصرفوها و بالتعاون مع القوی الخيرة الکردية لکي لا تتحقق السيناريوهات الشريرة من حصار و تجويع او حرب اهلية بين العرب و الکرد. تلک هي بنظري مهمة اليسار و التي ستسهل مهمتها في المطاف الاخير حتي في العراق العربي .
سيقول لي صديقي اليساري العربي :” و ماالداعي لتفکيک وحدة وطن کافحنا سوية من اجلە وحلمنا ببناءه حرا سعيدا؟” فاقول نعم ياصديقي لقد حلمنا فعلا و لکننا لم نتمکن من تحقيق الحلم، حتی عندما ظننا اننا کنا قاب قوسين او ادنی من تحقيقە يوم سقط الديکتاتور و دالت دولتە. لا ابرأ نفسي من الخطأ او ربما حتی التقاعس و لکنني لم اتمکن من ازالة کوابيس الانفال و الکيمياوي من ذاکرة ابناء شعبي کما لم تتمکن انت من ازالة اغراء اللجوء اليهما من ذاکرة الساسة الذين تسيدوا المشهد بعد الديکتاتور
سيقول لي صديقي اليساري العربي :” انت تقول بنفسک بان استقلال کردستان سيکون في صالح اسرائيل ، فکيف يمکنک دعم امر کهذا؟” سأقول ” انها حقيقة مؤسفة و لکن هل يمکن ان ادعو شعبي للتخلي عن استقلالە لانە سيفرح اعداء امتک؟ اذ بنفس المنطق هل يمکنني ان اطلب من الفلسطيني ان يکف عن حلم اقامة دولتە لان ذلک سيفرح و يقوي الانظمة التي تضطهد شعبي؟”
و سيرسل لي صديقي اليساري شريط ڤيديو ليريني بشاعة الاحتلال و الشريط يمثل عجوزا فلسطينيا يقف بوجە خمسة جنود اسرائيليون ينهرهم و ويصرخ بوجههم ويريدهم ان يترکوا المکان و يکفوا عن ارهاب الاهالي فيحاولون ابعادە عن طريق توجيه اسلحتهم بوجە و لکنە لا يکل ولا يستسلم و في الاخير يسقط الرجل، اما مغشيا عليه او مصابا بنوبة قلبية . يغمرني حزن عميق علی العجوز الفلسطيني و احسدە! نعم، احسدە، فلم يکتب لکردي واحد طوال سنوات مشارکتنا الوطن الواحد ان يواجە جنديا عراقيا مسلحا باقل بادرە احتجاج، فمابالک بمهاجمتە دون ان يرميه الجندي بصلية من رشاشتە مباشرة، لا تسيء الظن بي فانا لا احاول تجميل الاحتلال الاسرائيلي، کل ما اريدە هو ان اعطي ترتيبا لطبقات الجحيم!
سيقول صديقي اليساري العراقي:” ولکن اکرادا من بني قومک شارکوا ايضا بقتل الکرد، فلماذا تتحامل فقط علی العرب الذين قتلوا کردا؟” اقول ، صدقت، و لکن هل تمارس العاهرة عهرا لو لم تجد من يدفع لها او يجبرها علی العهر؟
والآن ماذا؟
کرة الثلج قد تدحرجت. ولا يمکن حتی لمسعود البارزاني ايقافها دون ان يجازف بما تبقی لديه و لدی حزبە من مصداقية. فقضية التلويح بالاستفتاء سبق وان استخدمتها الاحزاب الکردية کورقة ضغط لاجبار الاحزاب الحاکمة الشيعية علی تنازلات سياسية و مادية صبت فوائدها في جيوبهم و لکن التلويح بالاستفتاء شيء و اعلان موعد لاجراءه شيء آخر.
احزاب المعارضة الکردية التي تعادي الاستفتاء بحجة استشراء الفساد عليها ان تشرح للجماهير باية طريقة ستساهم ايقاف الاستفتاء في محاربة الفساد؟ و ماشکل النضال الذي يخوضونە الآن ضد الفساد و الديکتاتورية و لا يمکنهم خوضە في حال استقلال کردستان؟
أذن فأن الاستفتاء لا بد ان يجري، و اذا اختار الشعب الکردي ان يستقل فيجب احترام ارادتە و البدء بالمفاوضات و تحت اشراف اممي عادل و نزيه(حد الامکان!) و علی الذين يحزنهم هذا الفراق ان يواسوا انفسهم بالسؤال التالي :” ما الذي انجزناه سوية حتی الآن و لا يمکننا انجازە منفصلين؟” سؤال محزن و شائک و لکنه واقعي حد اللعنة.