22 نوفمبر، 2024 11:19 م
Search
Close this search box.

اِنبعاث الشعر… تغير القناة

اِنبعاث الشعر… تغير القناة

لم يكن الشعر نشاط مرحلة زمنية، ينتهي بانتهائها، بل كان حاجة وضرورة إنسانية لابد منها لاستمرار الإنسان، من خلال خلقه لعوالم أخرى غير العالم المعاش، ومنحه القارئ لحظات روحية تجدد آماله، وتمتص أحزانه. الشعر ومن ورائه الفن عموماً، يمتلك القدرة على تجميل الواقع، وتهدئة لواعج الشقاء والألم التي تكتنف حياة الإنسان أبداً.. وهو الخلاص المنتظر بكل ما يحمل من أحلام تنفس ضيق العالم. ورغم كل ما مرّت به رحلة الشعر من إحباطات لاسيما في العقود الأخيرة من القرن العشرين متمثلة.. بضعف مستوى القراءة والاستجابة .. وكساد المطالعة.. بسبب تغير سمة العصر الورقي، وبزوغ عصر جديد اختلفت تسمياته من عصر الميديا أو عصر الصورة أو العصر الرقمي وغير ذلك من التسميات.. بالرغم من كل هذا التحول.. إلا أنه من التجني حقاً أن نعلن  موت الشعر وهو حيّ يتنفس رغم الاختناقات.
وقد بشر بعصر موت الشعر جملة من الفلاسفة والأدباء والنقاد نتيجة لما رأوه من تشظي مفهوم الشعر، وتعقد آلياته، واللامبالاة التي يلقاها من جمهور طويل عريض لم يكن له شغف سواه.. فالحياة وتطوراتها، وتغير أساليبها، وانشغالاتها .. استطاعت أن تشتت جمهور الشعر على أنشطة الحياة المختلفة للإنسان ما بين العمل الشاق، وقلة أوقات الراحة والتفرغ، إلى ظهور أنواع أخرى من الملهيات والبدائل الممتعة والمفيدة كالرياضة والسينما، وتقنيات الترفيه الجديدة، في الوقت الذي تحول فيه الشعر إلى ممتع صعب يحتاج إلى تركيز ذهني عال، ومرجعية معرفية ليست بسيطة.. بسبب من كل ذلك لاحظ هؤلاء المبشرون انسحاب الجموع الغفيرة من متابعة الشعر، ومن ترقب دور النشر وما يظهر فيها من جديد. بما أصاب سوق الطباعة والنشر بكساد مريع. وأصاب الشعراء بالوحشة والغربة، في عالم يشعرون أنه ليس لهم، وإنهم ليسوا منه.
فهل حقاً أصبح الشعر بلا جمهور؟ لأول وهلة قد يكون مصيباً من يقول بذلك..لكن الدخول في تفاصيل الحياة الثقافية للمجتمعات المعاصرة، بما في ذلك مجتمعنا العربي والعراقي، يرينا شيئاً مختلفاً عن ذلك. إذ ما زال الشعر مزدهراَ! وما زال الشعراء ينظمون! كما إن الجمهور ما زال يهتز للشعر مشغوفاً به ! لا أقول ذلك بناءً على أمنية أتمناها، أو حب شخصي لهذا المفقود الحاضر. وإنما أقوله وأنا أحتك بجمهور عريض يصفق للشعراء ويتفاعل معهم ليس بنسب شراء الدواوين، ولا من خلال إحصاءات الشراء من دور النشر، ولا من خلال المهرجانات الشعرية والأمسيات الأدبية.. وإنما من خلال رصد أسماء شعراء وتجمعات أدبية على مواقع التواصل الاجتماعي الألكترونية مثل الـ ( ( facebook .
لا أدعي هنا انتفاء الحاجة للكتاب الورقي، ولا أزعم أن الأعمال الألكترونية والمدونات الضوئية صارت البديل النهائي للديوان والمجموعة الشعرية والأمسية والمهرجان.. لكن بكل تأكيد أن هذه القنوات أصبحت اليوم مكافئاً مناسباً يستحوذ على جمهور يكاد يستغني عن الكتاب لما توفره له القناة الجديدة من ميزات مضافة على ميزة القناة القديمة.
فالنت مجمع فائدة واستمتاع استطاع جذب أعداد غفيرة، لم تستطع قنوات الشعر السابقة استدراجها وضمها إليه.. والسبب لا يكمن في الشعر ذاته وإنما في القناة ذاتها، النت يتعامل مع المجتمع البشري بكامل عدده وهو متاح للجميع دون استثناء، وهذه ميزة حصرية لقناة النت. كما يوفر النت تعاملاً مباشراً بين الشاعر وجمهوره، حيث يمنح الجمهور فرصة الاقتراب للشاعر تعارفاً من خلال الحوار المباشر بينهما، ومن خلال تعليقات الجمهور على نصوص الشعراء، وهو ما لم يستطع الكتاب الورقي منحه ولا المهرجان.
والنت فرصة نشر متاحة للجميع على اختلاف مستوياتهم الفنية، ولكل جمهوره ومستواه أيضاً. وقد اخترق النت بدلك احتكار شعراء راسخة أسماؤهم لدور النشر ولصحف ومجلات، كما اخترق استغلال دور النشر للشعراء واشتراطاتها عليهم. واستطاعت قناة النت تحرير الشاعر من الممنوع والمحرم ومنحه الحرية الكاملة في ما يريد أن يقول، خلاف تحكم المؤسسات الرقابية، وتقييدها لانطلاقة الشاعر. بل يمكن للشاعر ان ينشر في قناة النت ما يتحرج هو نفسه عن نشره خشية الحكومات والقيم الأيدلوجية أو الدينية أو الاجتماعية المانعة باستعمال اسم مستعار يحميه مما يخشى منه. كما منحت الجمهور حرية القراءة خارج أنظمة الرقابة أيضاً.. فما يطالعه القارئ هنا ليس وثيقة رسمية دامغة لها حيز في الوجود يمكن للآخرين العثور عليها بين طيات ثياب القارئ أو تحت فراشة، بل ما يقرؤه غالباً ما تكون حزماً من الضوء يمكن إغلاقها وإلغاء وجودها بطرفة عين.
ومتطلبات الشاعر في النشر عبر النت أسهل وأقل كلفة في المال وفي الجهد، كما لا يحتاج إلى التملق  والتزلف، ليثبت اسمه في لائحة مؤسسات الأدب الرسمية وغير الرسمية كاتحادات الأدباء والشعراء، ولا يحتاج إلى المداراة والمراعاة الرخيصة ليضع اسمه في صحيفة.. هنا النشر للجميع. وكذا الجمهور لا يحتاج إلى مال لشراء مجموعة شعرية أو ديوان، ولا يحتاج إلى المجاملات في القراءة والمتابعة، كل ما يخسره تحريك سبابته ليضغط زر، فيقرأ أو لينبذ ما يقرأ..
إن ما يُنشر في مواقع التواصل الاجتماعي من شعر لأسماء معروفة أو أسماء مغمورة، استطاع أن يحرز قبولاً واسعاً في أوساط مجتمعات ليست هيِّنة كماً ونوعاً.. بما أعاد للشعر جمهوره الهارب، ومنح الشعر مكانته المرموقة القديمة في المجتمعات البشرية.. وبما جعل من حيطان الشعراء والمجموعات الأدبية والشعرية، جعلها أشبه بمهرجانات شعرية متنقلة، أو أمسيات شعرية دائمية، تعقد لأربع وعشرين ساعة يومياً،  الأمر الذي نأمل منه أن يحقق وظيفة الشعر في المجتمعات منفعةً ومتعةً، ويؤكد حقيقة ضرورة الشعر، ويرسخ حقيقة حياة الشعر وحتمية استمراره. وأنه وإن انتكس لكنه لن يختفي. لقد غيّر الشعر قناته استجابة لمتطلبات العصر الجديد الذي تعيشه البشرية.. عصر العلم والتقنيات الحديثة الذي فتح أفقاً أوسع كماً ونوعاً أمام الشعر، وأوجد علاقة مختلفة بين الشاعر والجمهور.
[email protected]

أحدث المقالات