ينطلق أهل الجدل من القول بأن الشك الحقيقي لا يعني إلا الحب الخالص العاطفي الكامل للحقيقة، ذلك الشك الذي يبحث دوماً عن الحقيقة و يعترف نادراً بأنه وجدها، وعندما يجدها فإنه لا يستريح مطلقاً بل يبدأ إلی الأمام في مسألة جديدة متابعاً نظره إلی ماهو أبعد و أعلی.
أما الإصلاح الذي هو نقيض الفساد يعني أيضاً إزالة الفساد بين القوم، والتوفيق بينهم. و الإصلاح هو التغير الى إستقامة الحال على ما تدعو إليه الحكمة. لغوياً تفسر الإصلاح بالانتقال أو التغير من حال إلى حال أحسن، أو بالتحول عن شيئ والانصراف عنه الى سواه. والإصلاح السياسي هو العمل علی تحسين النظام السياسي من أجل إزالة الفساد والاستبداد. فهو ركن أساسي مرسخ للحكم الرشيد أو الصالح و تعتبر الشفافية و المشاركة الشعبية في إتخاذ القرار والعدل وفعالية الإنجاز وكفاءة الإدارة و المحاسبة والمسائلة والرؤية الإستراتيجية مظهر من مظاهر سيادة القانون بما يضمن التوافق العام للدستور. والخطاب الإصلاحي يجب أن يستند إلى عقيدة أيديولوجية يتميز بوضوح الرؤية وقوة الحجة عند المبادرة أو المشاركة أو حتى عند النقاش. ويمكن لقادة الإصلاح الإستناد علی إيديولوجيات مثل العلمانية والديمقراطية والعقلانية والمواطنة في دفاعهم أو تبريرهم لتوجهاتهم الإصلاحية و إقناع المجتمع بأهميتها.
أما في العراق الفدرالي فقد ركز رئيس “دولة القانون” و للأسف علی إغتصاب السلطة بصورة من الصور، إذ نراه يسعی في تبرير هذا الإغتصاب بالمخادعة حيناً و بإعلاء نداء “اللامنتمين” و “العابثين” أحياناً بالقول للمطالبين بالإصلاح و تنفيذ بنود الدستور، كفی معارضتكم و تظاهراتكم، فقد وصلت رسالتكم و تفهمنا مطالبكم و إتركوا الفرصة للحكومة كي تُقَلِّب الأمور، وتُرسي قواعد الإصلاح، ليبدأ بالبطش، إذا كان ذلك ممكناً، لكي تبتعد المسافة بين ما كان واجباً أن تكون عليه الأمور، وما تصل إليه على الحقيقة أو لكي يعود البلاد الى عهود الاستبداد والدكتاتورية والإرهاب والتكفير ومصادرة الاخر.
إن عملية الإصلاح لا تحدث في فراغ ولا تنطلق لمجرد الرغبة في التغيير، إذ لابد من توافر بيئة مناسبة أو ظروف موضوعية تدفع باتجاه الإصلاح. فهو فكرة نشتغل عليها و نصبح ثمرتها، بحيث نتحول معها و نتخلّق بها، بقدر ما نسهم في إغناءها و إعادة إبتكارها.
فإحداث تغييرات رمزية أو صورية أو تجميلية إنتقائية ذات قيمة ومغزى لمن يقف وراءها، مثل الإعلان للنية في إجراء حوار مع الأقليم لحل المشاكل العالقة بينه و بين الإتحاد أو رفع شعارات مثل الشفافية والمساءلة أو التنمية السياسية، ماهي إلا إصلاحات سطحية مبتورة بلا جدوى أو مضمون، وبالتالي لا تندرج تحت مفهوم الإصلاح أو التغيير. فالإصلاح يوازي فكرة التقدم، وينطوي جوهرياً على فكرة التغيير نحو الأفضل لحل المسائل بشكل موضوعي للوصول الی الأهداف الموضوعية.
نحن نعرف بأنه لا وجود لحلول قصوی و أن التغيير، أيّا كان الشعار، لا ينجز علی نحو نهائي، خاصة ونحن في عصر التحولات المتسارعة والطفرات المفاجئة في المعلومات و المعطيات. فمن يخشی الإصلاح و التغيير في مواجهة الضغوط والمتغييرات يلقي سلاحه و يشهد علی قصوره، وسط كل هذه التحولات الكاسحة و المتغيرات العالمية.
وطالما هناك تيارات دينية أو قوموية و أحزاب بأيديولوجيات شمولية لا تريد الخروج من القوقعة للتحدث بلغة العصر، إذن يبقی المشهد السياسي العراقي غير مستقر و الانسجام و النوايا الصادقة تجاه تنفيذ العهود والمواثيق ضرب من الخيال و ورقة الاصلاح، التي يظن دعاتها بأن محتواها “كتاب مقدس”، بمثابة طلسم لا يمكن فك تعويذته والمجتمعات الكوردستانية لم تعد على استعداد لأن تُخدع من قبل الحكومة الإتحادية أكثر، فقد لدغت من هذا الجحر آلاف المرات.
و إن رفع الوصاية ليس ممكناً من غير التنوير وشعاره “كن جريئاً في إعمال عقلك”علی حد تعبير الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط ، فالرهان هو إذن أن نتغير لكي نسهم في تغير سوانا و من يريد تقديم ورقة الإصلاح، فعليه أن يصلح أوضاعه أولاً قبل أن يسهم في إصلاح العراق الفدرالي، الذي بات بأشد الحاجة الی الإصلاح و إعادة البناء.
کفی رئيس الحكومة الإتحادية بنفيه للوقائع و قفزه فوق الحقائق و العمل علی مفاقمة الأوضاع و شهادته علی جهله بالواقع. ليترك الفضاء للآخرين الذين هم أجدر منه في توظيف المكتسبات و كشف الإنسدادات و تفكيك الأزمات و إطلاق ديناميكيات جديدة و فتح خطوط للمساهمة في ورشة التعايش السلمي علی أرض العراق الفدرالي و صوغ المصائر علی نحو يكون أقل خوفاً و رعباً و أكثر أمناً، بكل معاني الأمن.
وختاماً نقول: “الإصلاح يعني ممارسة الإعتراف المتبادل، لكي ننمو سوياً و نبتكر أطر و آليات للعمل المشترك و نفكر بعقلية المداولة و الوساطة والشراكة لزحزحة الثوابت المتحجرة والتحرر من المسبقات المعيقة و النماذج الجاهزة و نتعامل مع الواقع كمجاز للعبور أو كحقل مفتوح للتفكير الحر والعمل المثمر، بالتدخل و التدبر علی سبيل الإختراع والإبداع.”