كتبت: سماح عادل
هو “غائب ابن طعمة ابن فرمان ابن رزوقي “، ولد في 1927، في محلة المربعه في بغداد، لأسرة فقيرة حيث كان يعمل والده سائقا، وأنهى دراسته الابتدائية والثانوية ثم أصيب بمرض”الدرن” وسافر إلى مصر للعلاج و أكمل دراسته هناك في كلية الآداب، وسهل له تواجده في مصر الانخراط في الوسط الثقافي.
انخراط غائب في السياسة وانتماءه إلى الفكر اليساري الاشتراكي سبب له متاعب كثيرة مع السلطة في بلاده، حيث عاقبته الحكومات العراقية المتعاقبة بإسقاط الجنسية العراقية عنه مرتين، وكان قد ساهم في إعداد كتاب بعنوان “من أعماق السجون في العراق” وهو كتاب يتناول ما يجري في السجون العراقية في ذلك الوقت، ولقد سافر إلى روسيا “الاتحاد السوفيتي” وتزوج وعاش بها حوالي ثلاثين عاماً.
مراحل حياته..
– المرحلة العراقية الأولى (1926 – 1947): وتمتد من ولادته، حتى مغادرته العراق إلى مصر للالتحاق بجامعة القاهرة- كلية الآداب.
– المرحلة المصرية (1947 – 1951): وتشمل سنوات الدراسة التي أمضاها في القاهرة.
– المرحلة العراقية الثانية (1951 – 1954): وتمتد من عودته من القاهرة، حين أنهى في جامعتها السنة الثالثة من دراسته الجامعية، لحين اضطراره لمغادرة العراق، بحثاً عن عمل، واتجاهه إلى سوريا ثم لبنان.
– مرحلة التشرُّد (1954 – 1960): وتمتد من مغادرته إلى لبنان، وتنقله، من دولة إلى أخرى حتى استقر به المقام في الصين، التي غادرها بعد قيام ثورة (14تموز/1958) عائداً إلى بغداد، حيث أمضى فترة من حياته فيها اتصفت بعدم الاستقرار، مما اضطره إلى معاودة السفر إلى موسكو عام 1960.
– المرحلة الروسية (1960 – 1990): وهي آخر مراحل حياته وأكثرها أهمية من حيث تبلور ثقافته وبروز إبداعه الأدبي.
الكتابة..
بدأ غائب ينظم الشعر ثم اتجه إلى كتابة القصة القصيرة والتحق بالعمل في الصحافة منذ منتصف الخمسينيات للقرن الماضي، ثم اتجه إلى كتابة الروايات التي عدت البداية الحقيقية لتدشين الرواية العراقية، ونالت تقدير النقاد والكتاب العرب. ولقد برع في ترجمة الأدب الروسي حيث ترجم حوالي ثلاثين كتابًا لرموز الأدب والثقافة الروسية، وكان هذا هو عمله الذي يعيش منه منذ أن انتقل للعيش في الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت في بداية الستينات.
الغربة والاغتراب في أدبه..
في دراستها للماجستير خصصت “ميساء نبيل عبد الحميد” موضوعها ل”الغربة والاغتراب في روايات غائب طعمه فرمان”، تقول”يرى الكثيرون أنَّ أهمية “غائب طعمة فرمان” بالنسبة للأدب العراقي الحديث تكمن في رواياته، ففي عام 1966 أصدر روايته الأولى (النخلة والجيران)، ومن خلالها قدم رواية تأسيسية متميزة في الأدب الروائي المعاصر في العراق، ولقد كرَّس الجزء الأكبر من نشاطه الإبداعي لكتابة روايات أخرى وصل عددها إلى ثماني روايات، محاولاً من خلالها بناء عمارته الروائية، وترسيخ وجوده على أنَّه أبرز روائي عراقي، وله مكانته المتميزة بين الروائيين العرب المعروفين”.
وتضيف “لقد حاول (غائب)، من خلال رواياته، أنْ يؤرخ لبغداد والعراق، كل رواية تؤرخ لوقائع مرحلة تأريخية معينة. والتأريخ الذي تناوله مثبت في مكان محدد هو: المحلة الشعبية البغدادية. وعداها فما من مكانٍ آخر، عدا أرض الغربة، التي تحدث عنها في رواية (المرتجى والمؤجل). نجد روايته الأولى تعكس أجواء مدة الحرب العالمية الثانية، فيما تجري أحداث رواية (خمسة أصوات) في مدة الخمسينات التي سبقت (ثورة 14تموز 1958). وتتناول رواية (المخاض) الظروف التي شهدها العراق، أو بالأحرى: بغداد، خلال مرحلة ما قبل (ثورة 14تموز 1958) وما بعدها. أما روايتَا (القربان) و(ظلال على النافذة) فتتناولان مرحلة ما بعد عام 1963. فيما تغطي رواية (المركب) مرحلة الثورة النفطية في السبعينات.وبذلك يمكن القول إنَّ روايات (غائب) يمكن عدها بمثابة تسجيل لتفاصيل الحياة الشعبية العراقية – البغدادية، منذ الحرب العالمية الثانية حتى منتصف السبعينات”.
وعن التأريخ يقول (غائب)نفسه في حديثه مع أحد الكتاب “إذا كان التأريخ هو الكتابة عن نشاط الإنسان، ورسم صورته في مرحلة من المراحل، فإنَّ العمل الروائي وثيقة إنسانية صادقة للحظات الإنسانية، تساعد المؤرخ كثيراً على رسم صورة للإنسان الذي يدرسه ضمن الإطار الزمني. وكل روائي يعكس رؤياه الخاصة عن إنسان عصره، ويبرز الجوانب التي يراها أولى بالاهتمام. ومجموع هذه الرؤى تعين المؤرخ في درس الحقبة التي يعنى بها”.
وعن الاغتراب نتيجة ابتعاده عن وطنه سنوات طويلة تقول الباحثة”وكردّ فعل لهذا الشعور بالاغتراب، ومن أجل أن تستعيد ذاته توازنها، يعمد إلى التنفيس من خلال نفث ما كانت ذاكرته قد اختزنته من تفاصيل ووقائع صغيرة أو أسرار؛ هي أسرار حياته الشخصية، وحياة من عرفهم في (المحلة) وعايشهم، وحملهم معه إلى أرض الغربة، ومن خلال ذلك النفث كان يعتقد أنَّ ذاته تزداد تجذراً في الواقع، وتتنامى قناعته بأنه إذ يكتب إنما يكتب وهو يقف على أرض واقعه (المختزن في ذاكرته) ويتحرك عبر فضائه”.
مفاتيح لقراءة رواياته..
تقول الباحثة”إنَّ القراءة المتأنية لروايات (غائب) الثمانية تفضي بنا إلى أربعة (مفاتيح)، هي: أولاً/ تعلّق (غائب) الشديد بالمكان والزمان. أما المكان فهو (الوطن) الذي جعله (غائب) مسرح كل رواياته، ويتمثل في مدينة بغداد، وعلى الأخص أزقتها القديمة التي نشأ وترعرع فيها، فسائر روايات (غائب) مسرح أحداثها الوطن، وشخصياتها وأبطالها من وطنه، والرواية الوحيدة التي ليس مسرحها العراق– رواية (المرتجى والمؤجل) أبطالها عراقيون يعتاشون على ما خلفه الوطن في ضمائرهم من ذكريات وانطباعات، فظل الوطن حاضراً في ضمائرهم، وكأنهم نقلوا الوطن معهم إلى ديار الغربة، وصاروا يتعاملون معه ومع رموزه كهمّ يومي وحنين دائم.
ثانياً/معاناة (غائب) الطويلة من (الاغتراب): ذلك أنَّ مأساته والعنصر البطولي في سيرته يكمنان في غربته، فهو قد أمضى ثلثي حياته وكل مراحل نضوجه في أرض الغربة، وتحتم عليه أنْ يعيش إزدواجية كونه هنا (في أرض الغربة) وكونه هناك (في ارض الوطن) في وقتٍ واحد.
ثالثاً/ إنَّ (غائب) طوال مدة غربته عن الوطن أعياه الانتظار لشيء يتوق إليه، ويتطلع بلهفة لحدوثه: يقول غائب على لسان (يحيى سليم) بطل روايته (المرتجى والمؤجل): “الحياة في الغربة ليست إلاّ انتظار لشيء دون أنْ نعرفه على وجه التحديد (الحياة هنا أرض الغربة) تستطيل أياماً ولياليَ مؤرقة مملوءة بالكوابيس”.. فالشيء الذي كان غائب يتطلع إلى حدوثه هو التغيير في أوضاع الوطن،لاسيما السياسية التي تشكل مفتاح بناء المستقبل المنشود. وأنَّ الأحزاب السياسية الناشطة على الساحة السياسية في العراق وبالأخص اليسارية منها، التي كان (غائب) قريباً منها، أو يدور في فلكها، كانت تروج في أدبياتها لفكرة التغيير، وتبشر بأن التغيير آتٍ عن قريب، و(غائب) يترقب دون جدوى، أنْ يتحقق ذلك، ولكن الانتظار الطويل لم يتمخض عمّا يتوق إليه، الأمر الذي حوّل الانتظار الطويل والترقب الذي لا نهاية له إلى حلم، وتبعاً لذلك فأنَّ (غائب) الذي “ظلَّ يحلم بعراقٍ ديمقراطي، وعلاقات إنسانية منفتحة” بات مقتنعاً بأنَّ “مسار التأريخ الذي يصنعه الناس البسطاء، إنما يمر بالقرب منهم، غافلاً عنهم وعن أحلامهم. فهم وقوده وضحاياه وهو درجات سلّم يرتقي عليها الآخرون إلى قيادة مراحله”.
رابعاً/ إنَّ (غائب) اتخذ من فعل الكتابة، وكتابة الرواية على وجه الخصوص، وسيلة للتعبير عما يعتمل في دخيلته، وهو يشهد ما يتعرض له وطنه من وقائع وأحداث يحلم في تغييرها. وبما أنَّ غائباً الغارق بأحلام اليقظة والمنام، لا يسعى إلى تحقيق أحلامه على غرار محترفي السياسة في الحياة الواقعية، فإنه يعمد في رواياته إلى انتحال دور (بائع متجول لأحلامه)، أشبه ما يكون بحامل (صندوق الدنيا)، يحاول من خلال ذلك (الصندوق) أنْ يُري المتلقين (القرّاء) الأحلام واقعاً، والواقع حلماً. أي إنه خلافاً لمحترفي السياسة الذين يتعاملون بالخطابات الرنانة والشعارات البراقة، يسلط الضوء على الواقع، ويحرض قرّاءه على تغيير ذلك الواقع بهدوء ودون خطابية وكلمات ملتهبة. وقد فعل ذلك في رواية (النخلة والجيران)، ورواية (خمسة أصوات)، ورواية (المخاض)، ورواية (القربان)، ورواية (آلام السيد معروف)، ورواية (المركب)”.
مواجهة الاغتراب بالكتابة..
تؤكد الباحثة في دراستها أن ” نشاط (غائب) الكتابي، لم يكن القصد منه فقط عرض أحلامه عن ما ينبغي أنْ يكون عليه حال الوطن، وإنما كان بمثابة نشاط يواجه به حالة (الاغتراب) التي فُرضت عليه. يقول (غائب) في هذا الصدد: “ماذا يريد هؤلاء الذين يجعلونك غريباً؟ إنهم يريدون أنْ يجعلوك صفراً، مجمداً، مهملاً، بلا صوت، لكن إذا استطعت أنت بشكلٍ من أشكال النشاط أنْ تتحداهم وترفع صوتك، فمعناه أنك أفشلت لعبتهم”. لقد كانت الروايات التي كتبها (غائب) وسائل دفاعية حاول من خلالها أنْ يثبت أنه سيظل، رغم غربته عن الوطن، واغترابه متواصلاً مع بغداد وأجوائها، يقول (غائب): “أنا في الغربة يعجبني أنْ أكتب عن بغداد وأجواء بغداد. ربما يكون ذلك سلاحاً ضد الذوبان والضياع، نوعاً من الدفاع عن النفس والمغامرة والاتصال الروحي بالوطن…”.
يقول (غائب) في إحدى رسائله إلى (عبد الرحمن منيف): “مع كبر السن وتقدمه اعتبر الرواية خلق عوالم. والإيمان بوجودها قبل إيمان الآخرين بها، وهذه نقطة مشجعة، ومنها تنطلق أروع الشجاعات. ولهذا فأقل ما يمكن أنْ توصف بها الرواية، إنها شجاعة مكتوبة، معركة إيمان، وبقدر ما كتب الكاتب من الروايات خاض بعددها من المعارك… ربما في ذلك نوع من الدون كشوتية، ولكن أفضل أنواع الدون كشوتية”.
آراء الآخرون عنه..
وقال عنه الروائي الشهير عبد الرحمن منيف واصفا غربته”لا أعتقد أن كاتبا عراقيا كتب عنها كما كتب غائب، كتب عنها من الداخل في جميع الفصول وفي كل الأوقات، وربما إذا أردنا أن نعود للتعرف على أواخر الأربعينات والخمسينات لابد أن نعود إلى ما كتبه غائب، ووصفه الروائي جبرا إبراهيم جبرا قائلا”يكاد يكون غائب طعمة فرمان الكاتب العراقي الوحيد الذي يركب أشخاصه وأحداثه في رواياته تركيبا حقيقيا”.
وقال عنه محمد باروت “كان غائب عراقيا في كل شيء حتى في الرواية التي رآها “برلمان الحياة الحقيقي” إذ كثف في هذه الرواية كل فهمه لطبيعة الرواة ووظيفتها، ففي قاع الحياة الشعبي، وقائعه وأحداثه وعلاقاته وتفاصيله ومشاهده، تنهض رواية غائب وتتكون، وكأنها ترتقي بنثر الحياة اليومي، هذا الذي يبدو معادا ومكرورا وأليفا إلى مستوى الملحمة والتاريخ، أي إلى مستوى الكلية”.
أعماله..
– حصاد الرحى (مجموعة قصص) 1954
– مولود آخر (مجموعة قصص) 1959
– النخلة والجيران (رواية) 1966
– خمسة أصوات ( رواية ) 1967
– المخاض (رواية) 1973
– القربان (رواية) 1975
– ظلال على النافذة (رواية) 1979
– آلام السيد معروف (رواية) 1980
– المرتجى والمؤجل (رواية) 1986
– المركب (رواية ) 1989
من أبرز ترجماته..
- أعمال تورجنيف في خمسة مجلدات
- القوزاق لتوليستوي
- مجموعة قصص لدستويفسكي
- مجموعة قصص لغوركي
- المعلم الأول لايتماتوف
- مجموعة أعمال بوشكين
- لوشين عملاق الثقافة الصينية
توفي “غائب طعمة فرمان” في عام 1990 ودفن في روسيا بسبب ظروف الحصار في بلاده، ولازالت أعماله الإبداعية ترجماته تثرى الثقافة العربية.