16 نوفمبر، 2024 7:55 ص
Search
Close this search box.

فلاسفة في مديح الموسيقى .. بين الثقافة الشعبية والذوق النخبوي

فلاسفة في مديح الموسيقى .. بين الثقافة الشعبية والذوق النخبوي

خاص : كتب – عمر رياض :

عادت مرة أخرى النقاشات حول الذوق الخاص والذوق الشعبي في الفنون.

الموسيقى كانت النوع المميز لتلك النقاشات, التي لم تخرج عن نطاق المهتمين بالذوق الموسيقي من الفنانين أو مجموعات الكتاب عبر مواقع التواصل.

وبينما كانت الحوارات تنتهي إلى اللاشيء، بسبب التباين في الجدل وإحالة الذوق إلى: “السييء” مستنداً على عوامل العصور السابقة كالعامل التجاري, و”جيد” مستنداً على الثقافة والوعي – أو حتى تصوير حداثي بإعتبار “الرائج شعبيًّا هو الآخر غير المرغوب به، أو حتّى أسوأ، بإعتباره آلة ضخمة تنتزع الفن من موضعه وتحرمه قيمته في المجتمع المعاصر” – كان أيضاً هناك من ينسحب على الحياد، هارباً خلف عبارة “الذوق نسبي”.

من وقت لآخر يطفوا الجدل حول الذوق الموسيقي على السطح، دون حسم، ربما بسبب تسجيل أو “فيديو كليب” جديد، وبينما لا ينبع الجدل سوى من حب الموسيقى وعشقها عند الغالبية, دون معرفة السبب خلف وقعها السحري على النفس، إلا أن الإختلاف يظل باقياً.

في مدح الموسيقى ومحاولة فهمها ومعرفة ماهيتها, كتب العديد من الكتاب والفلاسفة, مثل “نيتشه وسيوران وأفلاطون” وآخرون، قالوا إن الفلسفة هي أيضاً موسيقى لكن بلا صوت، كما كتب البعض الآخر حول الذوق والإختيارات الفنية وحريتها, مثل “جيل دلوز” و”رينزو نوفاتوري”, الذي قال: “القائلون بأن الذوق نسبي هؤلاء أصحاب الذوق السيء”.

شذرات في الموسيقى..

يقول “نيتشه”: “لولا الموسيقى لكانت الحياة غلطة”.

فقد شغلت الموسيقى فكر الفلاسفة والمفكرين، وخصص عدد كبير منهم مجالاً لها في كتاباته، بداية من “أفلاطون” وإنتهاءً بـ”سيوران”, الذي اورد فصلاً من كتابه (المياه كلها بلون الغرق) تحت عنوان: “الموسيقى”، وكتب بطريقة الشذرة الفلسفية الأفكار التالية:

“لما كنت قد ولدت بروح عادية، فقد طلبت روحاً آخرى من الموسيقى، كان ذلك بداية مآسىِ لم أكن أجروء على تمنيها”.

“لولا إمبرياليتها كمفهوم.. لقامت الموسيقى مقام الفلسفة، وكانت من ثم فردوس البداهات المعبّر عنها، عدوى من النشوة”.

“بتهوفن أفسد الموسيقى: أدخل عليها اللحظات المزاجية. سمح بتسلل الغضب”.

“لولا باخ لظلت الثيولوجيا بدون موضع، والخليقة، والخليق تخيلية، والعدم باتاً”.

“إذا كان ثمة من هو مدين بكل شيء لباخ فهو الله”.

“وماذا تساوي أي “ميلودي”، بإزاء تلك التي تخنقها فينا الحالة المزدوجة للحياة والموت”.

“لماذا نعاشر أفلاطون إذا كان أي ساكسفون هو أيضاً قادر على أن يكشف لنا العالم الآخر”.

“لمّا كنت بلا دافع ضد الموسيقى، فقد توجب عليَ أن أستسلم إلى إستبدادها، وأن أكون حسب مشيئتها إلهاً أو ثوباً رثاً”.

“مرت بيَ لحظات، كنت أستبعد وجود أبدية في وسعها أن تفصل بيني وبين موتزارت، ومن ثم، كنت أفقد كل خوف من الموت، حدث الأمر نفسه مع كل الموسيقى، الموسيقى كلها”.

“شوبان نذر البيانو إلى مرتبة السل الرئوي”.

“العالم المسموع: المحاكاة الصوتية لما لا يوصف، اللغز المنشور، اللانهائي المرئي والمستعصي على المسك. حين يحث لنا أن نمتحن فتنته، يصبح حلمنا الوحيد أن نُحَنط في آهة”.

“الموسيقى هي ملجأ الأرواح التي جرحتها السعادة”.

“لا موسيقى حقيقية غير تلك التي تجعلنا “نجس” الزمن”.

“اللا نهائي الراهن الذي تعتبره الفلسفة غير معقول، هو حقيقة الموسيقى وماهيتها”.

“لو أني إستسلمت لإغواءات الموسيقى ومدائحها ليَ، وإلى كل العوالم التي بعثنها ودمرتها داخلي، لكنت من زمن بعيد قد فقدت عقلي من الزهو”.

“طموح الشمال إلى سماء أخرى أنشأ الموسيقى، فإذا هي هندسة فصول خريف متعاقبة، كحول مفاهيم، سكر ميتافيزيقي”.

“أما إيطاليا القرن السابق، سوق الأصوات، فقد إفتقرت إلى بُعد الليل، إلى فن إعتصار الظلال لاستخراج رحيقها”.

“لابد من الإختيار بين الإنحياز إلى “برامز” أو إلى الشمس”.

“الموسيقى، منظومة وداع، توحي بفيزياء ليست نقطة أنطلاقها من الذرات بل من الدموع”.

“لعلي قد راهنت أكثر مما يجب على الموسيقى، لعلي لم أحتط بما يكفي من بهلوانيات الرائع، من دجل الجميل”.

“كلما عجزت الموسيقى نفسها عن إنقاذنا، إلتمع في أعيننا بريق خنجر، لم يبق شيء ليسندنا، إن لم يكن الإفتتان بالجريمة”.

“كم أود لو مت بواسطة الموسيقى، عقاباً لي على شكي أحياناً في جبروت قدرتها الشريرة”.

في الموسيقى والدين..

ارتباط الموسيقى بخلفية دينية بشكل ما، بوذي أو مسيحي أو مسلم، فكرة الإنشاد والترنيم، التبتل، يعطي هالة من القدسية يجعل الناس تمجدها ولو كانت الأماكن محدودة.

يرى البعض أيضاً أن الدين هو الذي لجأ إلى الموسيقى كوسيلة للترغيب والحفظ.. وهو جزء ممتع في الدين، ولكي يخفف من كلمة “يجب”، الأوامر والنواهي.. لذا جاء بجزء ممتع في الدين وسنجد أن أنجح الأديان, حياتياً, هو المرتبط بالموسيقى بشكل مباشر، مثال طوائف الترانيم في المسيحية.. في الهندوسية الصلاة عبارة عن “منترا”, كل إله له عدد كبير من “المنترا” أو الألحان للإمتاع.. أيضاً الصوفية أعيد إحيائها مؤخراً بسبب موسيقاها.

لذلك فالموسيقى الدينية بمثابة ملجأ للناس التي تبحث عن السماء, عندما أغلقت ملاجئ الأرض.

في هذا السياق أيضاً يذكر “فوزي كريم”, في كتاب (صحبة الآلهة): إن “الموسيقى الجادة خرجت, في معظمها من رحم الدين. “الراج الهندي” الغني والمتنوع خرج من معابد البوذية القديمة. “الكلاسيكية الغربية” خرجت من رحم الكنيسة. ولكن “الراج” أصبح صناعة العوائل الإسلامية, التي تتوارثه في شمال الهند والباكستان. “الموسيقى الكلاسيكية” الغربية صارت ملكية عالمية. وهكذا تتسع عطاءات الدين إلى ما لا تتسع له عطاءات العقيدة”.

ويكمل بمقولة “شوبنهاور”: “تقف الموسيقى وحدها. منفصلة عن الفنون جميعاً.. إنها لا تعبّر عن فرح محدد بعينه, عن حزن, كرب, رعب, مسرّة أو راحة بال, بل هي الفرح, الحزن, الكرب, الرعب, المسرّة أو راحة البال ذاته, في التجريد, في طبيعة هذه المشاعر الجوهرية, دون عامل مساعد, وبالتالي دون أهداف تجعلها وسيطاً”. نستطيع أن ندرك من خلال موسيقى شعب من الشعوب – إذا كانت صادرة عن أصالة وصدق – صورة دقيقة ترسم ملامحه ودرجة رقيّه وتقدمه, كذلك تقوم الموسيقى بدورها في التقريب بين الشعوب, لأنها تنفذ إلى طبائع الجماعات البشرية المختلفة وتستخرج منها مكنونها وتكشف للآخرين عن جوهرها. فلم ينجح شيء في عصرنا الحديث في التعريف بمزاج الإنسان الإفريقي وطبعه – على سبيل المثال – مثلما نجحت موسيقاه حينما تسربت إلى الموسيقى الغربية المعاصرة وألفها العالم كله. وهكذا عجزت أرفع الوسائل الاجتماعية والأساليب الفكرية عن التعريف بما نجحت في تحقيقه مجموعة من الأنغام والألحان الإفريقية. وذلك شاهد جديد على أن الموسيقى تبدأ من حيث تنتهي قدرة الكلمات على حمل المعاني والأفكار”.

“فمنْ يتّسع وقته ومزاجه وذوقه وركام تربيته النائم على كيانه لكل سوناتات “بيتهوفن” ورباعياته وسيمفونياته وأغانيه, أو مؤلفات “باخ” التي تتجاوز المائتين. ورباعيات “هايدن” الوترية, وفراديس “موتسارت”, وأغاني “شوبرت”, وأوبرات “فيردي”, وكونشرتات “فيفالدي”, وموتيفات “فاغنر”, وتنافرات “شوينبرغ”, وتيارات الحداثة وما بعدها !”..

يؤكد المؤلف: على “أن التطلع إلى الموسيقى إنما ينشأ مثله مثل الحساسية الشعرية الغامضة, من موطن في السريرة يفلت من رقابة الزمن ورقابة الوعي”.

ثم يترك سؤلاً: “ولكن في عالمنا العربي أي موسيقى خرجت من رحم الإسلام ؟.. سؤال اعتدت التأمل فيه وحوله ومن وحيه, الموسيقى الجدية العربية تكاد تكون معدومة, أو على الأقل أن أنويتها لم تطلع أزهاراً وثماراً, كالتي أطلعته المعابد الهندية والكنائس المسيحية”.

جدل الذوق الشعبي والذوق الخاص..

هل يمكن أن يهرب الموسيقي من الرأسمالية ويبدع لنفسه فقط دون السوق ؟

لا يوجد مثال في الفنون مثال على ذلك, سوى “فرانز كافكا” في الأدب، إلا أن سيرته لم تنجوا أيضاً من التحليل بإعتباره “كان يكتب في محيط الرأسمالية”، لكن يكتب لنفسه دون أن يقصد نشر أعماله.

كتب “إيان بيوكانن”, في ورقة عن الموسيقى الشعبية, تحليلاً هاماً, يقول فيه:

“لا أظنّ أن دولوز يسلّم بأن وسائل هروب كافكا من قبضة الرأسماليّة تبقى متاحةً لأيٍ كان، وهي متاحةً أقل بكثير لأنصار الموسيقى الشعبيّة، من المراهقين، وهذا ما يجعل من الرأسماليّة وحشًاً من القدرات والأحجام الضخمة. ويصبح ذلك الأمر واضحًا، حين يرفع دولوز من قيمة الإبداع الغرائبي لمنتجي الثقافة الصغرى مثل بيكيت، ميسيان (مؤلف موسيقي فرنسي شهير), وكلي (رسّام سويسريّ)، وهم من يمتلك قيمةً فعليّة بفضل خطوط الهروب أو الفرار التي استحضروها، بالمقارنة مع الامتثاليّة الغبيّة الّتي ينسبها دولوز إلى منتجيّ الجماهير، أو الموضوعات الثقافيّة الضخمة كالفيديوهات الجماهيريّة، والّذين يكمن فشلهم الرئيس بالتحديد في أنّهم يأخذوننا إلى حيث لا يوجد شيء بالرغم من وعودهم”.

“إن الثقافة الشعبيّة (ثقافة البوب)، وبقدر ما تغري، تقودُ أو بشكلٍ آخر تؤدّي إلى الامتثال والتكيّف، ولا تستطيع كما هو بيّنٌ أن تفي بالوعود الجوهرية للفن وتحررنا من تلاعبات السوق المتجانسة. بكلمة أخرى، لا يمكنها أن تقود إلى الجديد، بالمعنى الحداثوي للعبارة. وعلى الرّغم من تقديره المنخفض لما هو شعبي ورائج، يقدّم دولوز العديد من الأدوات النقديّة الناجعة لتحليله، وهذا ما سأحاول أن أظهره عبر مناقشة الموسيقى الشعبيّة”.

“يكمن تأثيرُ الموسيقى، أو أي قطعة فنيّة، في ما تحرّكه لدى مستمعٍ محدد. وسبق ورأينا أن بالنسبة لدولوز يكون الامتثال أثرَ (الموسيقى) الشعبيّة، بينما الهروب هو أثرُ كل ما هو ليس شعبيًا”.

“بالعودة إلى ثمانينيّات (القرن الماضي)، أكانت فقاعة الموسيقى الشعبيّة في ذلك العصر، والتي بدت، يومها والآن، وكأنّها تخط طريقها عبر التغيّرات في نمط تصفيف الشعر كما في الابتكار الموسيقي، أكانت فعلاً جديدة ؟.. نعم، يمكنني القول، على مستوى المفعول، كثيرها كان جديدًا. والآن، بالطبع، تبدو غير ملائمة وفجّة، ومتخلّفة تكنولوجيًا وثقافيًا، على حدٍّ سواء، ولكن حينها كانت وليدة لحظتها. وبالفعل، فإن موسيقى العصر انتجت اللحظة باعتبارها لحظةً عبر منحها صوتًا خاصًا، يرافقها مزاجٌ أو طريقةٌ في ارتداء الثياب والشراء”.

هل من جديدٍ يختلفُ بين ثقافةٍ شعبيّة وتلك العليا (النخبويّة) ؟

بحكم التعريف، للجديدِ أسبقيةٌ على كلّ شيء. وإلاّ فإنه لن يصدمنا، ولن يكون جديدًا أو مختلفًا كفايةً يجعلنا، في الواقع، نلتّف وندور إن كان بكل بساطةٍ مغالاةً، أو حتّى سخريةً (ابتذالاً)، لما هو موجود مسبقًا. إن الجديد يثيرنا لأنه يربكُ حواسنا، أي أنّه يفتّتنا من دون أن نمتلك المَلَكَة المناسبة كي نقبض عليه. هذه هي بالطبع حجة “كانط”، أن الجديد سامٍ، ولكنها حجّة قبْلية تستند إلى الأثرِ. وإن تعريف “كانط” للفن لا يمكنه بحد ذاته أن يفسّر متعة الدوار (الدوخة) أو إثارة المُبهَم، التي يمنحها السموُّ؛ ولا يمكنه أن يشرح الحنينَ الّذي نشعر به حين ينتهي (هذا السموّ). وماذا عن الجديد الّذي يقبضُ على انتباهنا ؟.. الواضح للعيان، انه إختلافه (اختلاف الجديد)، ولكن ذلك لا يفسّر لنا إغرائه وجاذبيته. أقترح تعزيزَ الاعتراف بالاختلاف.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة