16 نوفمبر، 2024 6:35 ص
Search
Close this search box.

محمود درويش .. عاشق فلسطين وصوت الاحتجاج العذب

محمود درويش .. عاشق فلسطين وصوت الاحتجاج العذب

خاص : كتبت – سماح عادل :

ولد “محمود درويش” في 13 آذار/مارس سنة 1941 في قرية “البروة”، قرية تقع شرقي عكا، ولقد هدمها الإسرائيليون لأن القرية قاومتهم بشدة وطردوا كل سكانها العرب.. خرج “درويش” من فلسطين إلى لبنان عام 1948, وقضى فيها حوالي عام، ثم عاد مرة أخرى إلى قرية ” دير الأسد” في فلسطين، لقد كان الابن الثاني لأسرة تتكون من ثمانية أبناء، والأب “سليم درويش” فلاح فلسطيني كان يملك بعض الأراضي في قريته البائدة، وانتقل بأسرته من قرية “دير الأسد” إلى قرية “الجديدة” إحدى القرى العربية في الأرض المحتلة.

الشعر يثير المتاعب..

يقول في حوار لمجلة (الآداب) البيروتية1970: “اعتبرت في المدرسة تلميذاً متفوقاً، كنت أكثر من مطالعة الأدب العربي وقلدت الشعر الجاهلي في محاولاتي الشعرية الأولى، وكنت موهوباً في الرسم، وقد تضحك عندما تعرف لماذا توقفت عن الرسم، السبب أن والدي لم يملك قدراً من المال يتيح له شراء ما أحتاجه من أدوات الرسم، لقد زودني بدفاتر الكتابة بشق الأنفس، فبكيت وتوقفت عن الرسم، وعندها حاولت التعويض عن الرسم بكتابة الشعر لأنها لا تتطلب نفقات مالية، كانت مواضيع محاولاتي الشعرية الأولى هي مشاعر الطفولة، شجعني المعلمون على الكتابة، ولقد خلق لي الشعر المتاعب منذ البداية ودفعني إلى الصدام مع الحكم العسكري، حيث كتبت قصيدة واستدعيت إلى مكتب الحاكم العسكري، هددني وشتمني قائلاً إذا مضيت في كتابة مثل هذه الأشعار فلن نسمح لأبيك بالعمل في المحجر، وأثرت تلك التهديدات عليً تأثيراً سلبياً”.

الحنين لقريته..

عن حنينه لمكان طفولته، يقول “درويش”: “عندما عدت من لبنان حذرني أهلي من خطورة رغبتي في زيارة المكان الذي ولدت فيه وقضيت طفولتي، فإذا ألقى القبض عليَ هناك سأطرد إلى لبنان، وهكذا لم أزر المكان إلا عام 1963، كانت زيارة سرية لأن الدخول إلى تلك المنطقة ممنوع ولم أجد من كل القرية إلا مبنى الكنيسة الذي تحول إلى حظيرة مواشي، وقررت ألا أعود هناك ثانية”.

الانحباس داخل الوطن..

ظل “درويش” مقيد الحرية داخل وطنه، مثله مثل كل الفلسطينيين هناك، وقد عانى من الملاحقة المستمرة له, يقول: “الكثيرون من أصدقائي يتألمون لأجلي، هذه الملاحقات، الاعتقالات، وأوامر الإقامة الجبرية التي تحدد حرية تجولي في وطني، أصبحت جزء من حياتي اليومية، ولكنني أنظر إليها باستهتار يكاد يكون خبيثاً.. لست متوتراً ولا مندهشاً”.

دخل “درويش” سجون إسرائيل أكثر من مرة، المرة الأولى عام 1961 وكان قد انتقل من قرية “الجديدة” ليعيش وحده في قرية “حيفا” 1960، بعد أن أتم تعليمه الثانوي، وكان اعتقال البوليس الإسرائيلي له أول مرة بدون سبب، والسجن الثاني سنة 1965 بسبب سفره من حيفا إلى القدس بدون تصريح، وقد تعرض لكل ما يتعرض له العرب من ضغوط حتى لا يتموا تعليمهم الجامعي.

العمل بالكتابة..

بعد أن أتم دراسته الثانوية عاش على الكتابة في الصحف العربية التي تصدر في إسرائيل، بدخل ضئيل، وقد عمل في جريدة (الاتحاد) ومجلة (الجديد), وهما من صحف الحزب الشيوعي في إسرائيل، كذلك اشترك في تحرير مجلة (الفجر) وهي مجلة عربية أصدرها حزب “المابام” وكان يرأس تحريره يهودي مصري.

انتقاد إسرائيل لشعره..

بعض أشعار “درويش” ترجمت محرفة إلى العبرية حيث تعرض شعره لهجوم النقاد الإسرائيليين، باعتباره داعية إلى إثارة الجماهير وعاملاً على تدمير الدولة الإسرائيلية, يقول “درويش”: “إن الجهل التام بالأدب العربي في إسرائيل ينبع من اعتبارات وحسابات سياسية بحتة، إن أولئك الذين يسيطرون على أدوات الدعاية والنشر لا يريدون أن يقدموا للقارئ العبري حقيقة الأدب العربي في البلاد، إنهم يخافون مضمون هذا الأدب ويدركون أن وصوله إلى الجمهور الإسرائيلي سيحطم الحواجز، فالأدب العربي هنا هو أدب احتجاج على وضع غير عادل، القلائل جداً في المجتمع الإسرائيلي هم الذين يعرفون أسماءنا”.

الخروج من فلسطين..

عاش “درويش” في الأرض المحتلة شبه معدم، وقد سافر إلى موسكو للدراسة الجامعية في أوائل سنة 1970، واستطاع أن يحصل على هذه البعثة الدراسية بعد جهد كبير، من خلال الحزب الشيوعي الإسرائيلي، ثم جاء بعد ذلك إلى القاهرة عام 1971 حيث أقام وعمل بها فترة من الزمن”.

خصائص شعره..

يملك “درويش” معرفة واسعة باللغة العربية وبمفرادتها اللغوية والشعرية، ويمتاز بثرائه اللغوي، لديه قدرة واضحة على أن يجعل من قصيدته عملاً فنياً قادراً على استيعاب تجاربه النفسية والروحية، وقد توفرت له معرفة دقيقة بالشعر القديم والثقافات المختلفة، كما له ميزة أخرى هي “الموسيقى الشعرية” اللامعة في شعره، لقد استطاع أن يصل إلى توازن دقيق بين الموسيقى الخارجية والموسيقى الداخلية، فصوت قصيدته مسموع وهو في كثير من الاحيان يوازن بين الفن والإحساس الوجداني الصادق.

يقول عنه الكاتب المصري “رجاء النقاش”, “لم يظهر محمود درويش فجأة ولم تظهر مدرسته الشعرية بلا مقدمات، فدرويش ومدرسته يرتبطان أشد الارتباط بحركة النضال في فلسطين وبشعراء هذه الحركة النضالية، ولو عدنا إلى تاريخ الأدب العربي في فلسطين لوجدنا أن مدرسة محمود درويش تمتد جذورها إلى جيلين سابقين, هما جيل 1936 وجيل 1948، ومحمود درويش هو ابن المرحلة الجديدة في الشعر الفلسطيني مرحلة الأمل والتفاؤل والتمرد والثورة، وهو واحد من أجمل واصدق الأصوات الفنية المعبرة عن هذه المرحلة، إنه خلاصة نقية أصيلة لهذه المرحلة، مرحلة التفاؤل الثوري رغم أن صوته الشعري لم يرتفع إلا بعد 1960”.

1967..

عن ما حدث في 1967 يقول “درويش”, في حديث له في مجلة (الطريق) اللبنانية في 1968, “أدبياً لم تخلق حرب حزيران تأثيراً مفاجئاً ولم تقلب أفكاري رأساً على عقب، ولم تحطم قيمي كما فعلت، ومن الخير أنها فعلت، بالكثيرين من الشعراء خارج بلادي، لم أكن جالساً في برج حمام لكي تقنعني بمثل هذا الدليل الفادح على ضرورة النزول للشارع، ولكنها كانت مكاشفة جارحة، وأضافت، لمن لم يصدق حتى ذلك الحين، برهاناً جديداً على ضرورة ممارسة العمل والفكر الثوريين الحقيقيين، وعلى أن الأدب ليس سلعة أو متعة، وهذا ما كنا نؤمن به حتى النخاع قولاً وعملاً، ومازلنا بعد حزيران أشد إيماناً، ومن الضروري أن يستفيد منها أولئك الذين سودوا أطناناً من الورق ضد التزام الأديب بقضيته، وضد تسلح الأديب بفكر ثوري حقيقي”.

إبداع عظيم يشوبه القلق..

يقول عنه الكاتب “عبد الباري عطوان”: “محمود درويش كان دائماً يعيش حالة قلق كلما كتب قصيدة جديدة، وكأنها القصيدة الأولى التي يكتبها في حياته، يسأل عما إذا كانت جيدة، وتصلح للنشر، فننهره بمودة، ونستغرب أسئلته هذه، ولكنه يقسم، وهو صادق، أنه لا يعرف ما إذا كانت جيدة أم لا، ويريد رأينا قبل النشر وبعده، ثم بعد ذلك تدخل الطمأنينة إلى قلبه المتعب. لم نعرف أن الحكومة الأميركية أسدت إلينا معروفاً كبيراً عندما تلكأت في منحه الفيزا، فقد أبقته بيننا أربعة شهور، أنجز خلالها اثنتين من أعظم قصائده، وشارك في عدة أمسيات إحداها في رام الله، والثانية أقيمت في المسرح الروماني بمدينة (كرل) في جنوب فرنسا، ومحاضرة في باريس وسط نخبة من كبار الأدباء الفرنسيين، فقد يأتي الخير من باطن الشر الأميركي”.

الانعزال..

يقول “عبد الباري عطوان”: “لم يحدث أن أسيء فهم شخص في الثقافة العربية مثل “محمود درويش”، حيث ظلت تهمة الغرور تلاحقه من قبل الكثيرين، ولكنه لم يكن مغروراً ولا متكبراً، وإنما شخص “خجول” لا يفضل الاختلاط كثيراً بمن لا يعرف، ويتجنب الثناء والإطراء، وهو الذي يملك أرصدة ضخمة منهما على امتداد حياته الأدبية. فهو لا يستطيع، كما كان يقول لي دائماً، أن يكون صديقاً للملايين من معارفه ومحبيه، ويحتاج إلى الخصوصية التي يتقوقع في داخلها في لحظات حياته بعيداً عن الأضواء”.

علاقته بمنظمة التحرير..

يضيف “عطوان”: “عندما كان يقيم في باريس، وبالذات بعد استقالته من عضوية اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية احتجاجاً، ورفضاً، لاتفاقية أوسلو، واجه ظروفاً مالية صعبة جداً، فقد قرر الرئيس الراحل “ياسر عرفات” وفي خطوة مؤسفة، وقف الغالبية العظمى من مخصصاته المالية، ومن بينها أجرة الشقة المتواضعة التي كان يعيش فيها “غرفتان وصالة”، وكان بيننا اتصال هاتفي يومي في الساعة الثانية عشرة بتوقيت لندن، وفي إحدى المرات، ولظروف قاهرة تتعلق بمشاكل مادية لم أهاتفه كالعادة لمدة يومين فاتصل بي في اليوم الثالث غاضباً ومزمجراً بسبب انقطاعي عن الاتصال.

فاجأني عندما قال أنه يعيش على هذه المكالمة اليومية، فهو لم يعد يستقبل غير مكالمتين فقط، الأولى مكالمتي المعتادة، والثانية من شخص عابر سبيل، وتساءل هل طلبتني في أي يوم من الأيام ولم تجدني، قلت لا. قال معنى هذا أنني لا أخرج من البيت لأني لا أملك ما يجعلني أخرج إلى القهوة أو المطاعم فقطعاً سيلتف حولي المحبون، ولا أستطيع دفع الفاتورة. شعرت بالصدمة، فهذا الشاعر الكبير لا يجد من يهاتفه، وربما أحس بهذا التساؤل في ذهني، وقال: الأمر بسيط جداً: لا نقود.. ولا نفوذ.. ولا يهود.. وشرح لا نقود لأن الرئيس عرفات أوقف مخصصاته، ولا نفوذ أي لم يعد عضواً في اللجنة التنفيذية, وقريباً من الرئيس, مما يمكنه من حل مشاكل المحتاجين أو توظيف بعضهم، وأخيراً لا يهود.. أي أنه ليس منخرطاً في المفاوضات التي كانت على أشدها، حتى يكون في قلب الحدث الإعلامي والسياسي”.

ويواصل: “محمود درويش واجه “خيبات أمل” كثيرة في حياته، ولكن أبرزها في رأيي، خيبة أمله في الشعب الفلسطيني, عندما لم يثر غاضباً ضد اتفاقات أوسلو، فقد توقع هذه الغضبة، وأراد أن يكون مع الشعب، لا مع الموقعين عليها، ولكن هذا الشعب فاجأه عندما صدق “أكاذيب” قيادته بأن السلام قادم والدولة الفلسطينية المستقلة على بعد أربع سنوات فقط، خيبة الأمل هذه أجبرته على أن يخفف من معارضته، وأجبرته أن يعود إلى رام الله لأنه لم يعد يستطيع العيش في باريس، وحتى لا يتهم بأنه، وهو أحد المتشددين في الإصرار على حق العودة، رفض ممارسة هذا الحق عندما سنحت له الفرصة، وحرص أن يترك مسافة بينه وبين السلطة. أما خيبة الأمل الثانية فتمثلت في رأيه بالأداء الفلسطيني، والفشل الكامل في إقامة المؤسسات والحكم النموذجي الذي كان يأمله، وفوق كل هذا انهيار المشروع الوطني الفلسطيني الذي كانت تبشر به السلطة وقادتها واتساع دائرة الفساد المالي بصورة مرعبة، وقال لي في إحدى المرات أن أمنيته أن يهاجر مرة أخرى إلى باريس ويعيش في استديو صغير ويقضي بقية حياته هناك، ولكن ما يمنعه هو الخوف من الاتهام بأنه يرفض الوطن، والتضحية من أجله. محمود درويش استقال من كل مؤسسات منظمة التحرير، وأعاد إصدار مجلة (الكرمل)، ورفض كل ضغوط الرئيس الراحل “عرفات” لتوزيره في حكومة السلطة، وفضل أن تكون دائرته في رام الله صغيرة جداً، محصورة في مجموعة أصدقاء، بعضهم شعراء وكتاب، وأكثرهم من الناس العاديين البعيدين عن الوسط الثقافي”.

المرأة في حياته..

كتب “محمود درويش” شعراً عذباً عن المرأة والحب, يكاد لا يماثله أي شعر آخر في جماله وروعته، ورغم ذلك يحكي “عبد الباري عطوان” عن علاقته بالمرأة: “كان يكره القيود، ولهذا لم يتزوج مرة ثالثة، كان يكره أن تشاركه امرأة حياته، وكان يفضل دائماً أن يكون سريره مملكته، كنا نلتقي بصفة دورية في باريس، وكان يحب الحديث عن النساء ومغامراته، وفي إحدى المرات سألته كيف تطلق “فلانة” بعد ستة أشهر وبهذه السرعة، قال لي: وهل تعتقد أن ستة أشهر فترة قصيرة، لقد طوّلت أكثر من اللازم، محمود درويش لم يعش الشيخوخة مطلقاً وغادرنا وهو في قمة عطائه وعنفوانه وأناقته، وشخصيته المحببة، وتعليقاته الساخرة اللاذعة، شيء واحد لم يحققه، وهو الذي دخل قلوب وعقول الملايين، عدم حصوله على “جائزة نوبل” التي ترشح لها عدة مرات في السنوات الأخيرة. بعد محمود درويش لن يكون الشعر بالقوة نفسها أو بالسحر نفسه، سيكون شعراً مختلفاً، فبرحيله رحلت ظاهرة شعراء يملأون ملاعب كرة القدم بالمعجبين والمعجبات، ليس في الوطن العربي وإنما في المنافي الأوروبية”.

توفى في أميركا 9 آب/أغسطس 2008، بعد إجراءه لعملية القلب المفتوح في مركز تكساس الطبي في هيوستن، تكساس، التي دخل بعدها في غيبوبة أدت إلى وفاته بعد أن قرر الأطباء في مستشفى “ميموريال هيرمان” نزع أجهزة الإنعاش بناء على توصيته.

المصادر:

–        كتاب “محمود درويش شاعر الأرض المحتلة” – رجاء النقاش.

–        مقالة “محمود درويش الذي عرفت” – عبد الباري عطوان – القدس العربي.

–        ويكيبيديا.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة