بالرغم من ان السلطة الحاكمة للحزبين الحاكمين برئاسة مسعود البرزاني وجلال طالباني وحكومة اقليم كردستان لا تستمع ولا تصغي لاصوات العاقلين والحكماء والناصحين بالخير والنعيم، ولكن مع هذا نرتأي التعقل منهم هذه المرة، وطوال السنوات الماضية لو استمع هؤلاء الى منطق العقل والنصح الرشيد، لما وصل حال الشعب المقهور الى ما وصل اليه اليوم، وللتأكيد على قولنا هذا نذكر الحكومة باحدى المقترحات الاستراتيجية الهامة التي عرضناها قبل أكثر من عشر سنوات على السلطة عدة مرات من خلال هذا المنبر الحر ومن خلال قنوات كردية وعراقية، والمقترح كان المطالبة بتخصيص نسبة 5% من مجموع الميزانية السنوية العامة للاقليم في صندوق خاص بالاحتياط النقدي وذلك تحسبا لاحترازات وحالات وتوقعات طارئة مستقبلية، وتخصيص نسبة 5% اخرى كل سنة لصندوق الأجيال كاستحقاق مبدئي لضمان حقوق الأجيال اللاحقة، ولو تم التطبيق في وقته سنة 2004 الى 2014 لتجمع أكثر من 12 مليار دولار من اجمالي 120 مليار دولار مجموع ايرادات الاقليم من بغداد بتلك السنوات، ولكان من الممكن بهذا الرصيد الاحتياطي حل الأزمة المالية التي يمر بها الأقليم من سنوات وضمان دفع الرواتب بكل سهولة.
هذا اضافة الى طرح مبادرات ومشاريع ومقترحات استراتيجية اخرى خلال سنوات العقد المنصرم، ولكن السلطة المافوية التي تتحكم بمصير الشعب منذ عقدين لم تاخذ بها بل حاربتها وتعاملت بالاستبداد والتسلط والقمع مع صاحبها وقلمه المعارض بثقافة مدنية، ومازال الوضع قائما على حاله، ولكن مع هذا وبسبب طرح مسألة الاستفتاء والاستقلال من قبل بعض الاحزاب السياسية، نعود الى نفس الموقف من خلال طرح مبادرة جديدة للاستفادة منها من قبل أهل السلطة.
والمبادرة هي الدعوة الى تأجيل الاستفتاء الى موعد اخر لا تزيد عن سنة، وذلك لضرورات ومعطيات كردستانية وعراقية واقليمية ودولية، ودوافع طرح هذه الدعوة متأتية من الاستقراءات والتحليلات والاستنتاجات المستنبطة من الاحداث التي تمر بها المنطقة، ومن خلال استقراء مشاهد القيادة والاطراف التي تتزعم عملية الاستفتاء ان كانت لنوايا وطنية أو شخصية أو ذاتية أو حزبية أوعائلية، ودعوة التأجيل نطرحها للأسباب والضرورات التالية:
(1) التداخل المتشابك للمصالح الاقليمية داخل المنطقة والتي سمحت بزرع أذرع من خلال الشركات والتنظيمات الاستخبارية ووكالات بالنيابة عن الدول النافذة مثل تركيا وايران والسعودية والخليج، وبمساعدة ومشاركة من اطراف داخلية مقندرة وحاكمة سهلت ومنحت هذه الجهات الاجنبية مساحة ودورا في التأثير على القرار المحلي، وهذا الدور مكشوف لدى الحزبين الحاكمين، وهذا لا يسمح بأن يكون قرار الاستفتاء والاستقلال وطنيا خالصا.
(2) التأكيدات المستمرة لاعضاء في المكتبين السياسيين للحزبين حول الاستفتاء بان العملية لا تعني الانفصال ولا الاستقلال، بينما في الداخل يستعمل خطاب مخادع للمواطنين وهذا الفعل فيه ازدواجية خبيثة، وهذا يعني ان الأمر مجرد لعبة سياسية مفبركة للاستهلاك الداخلي وذلك بالاتفاق بين الحزبين، وقد تكون الغاية منها اطالة ولاية الرئيس المنتهية ولايته، وحجب الاضواء عن الفساد والنهب الجاري للموارد والثروات من قبل سلطة الاقليم.
(3) عدم توحيد البيت الكردي وعدم توافق الموقف العام للاحزاب الكردستانية الرئيسية من الناحية السياسية والبرلمانية والتوافقية، وما يلجأ اليه في اجتماعات اللجنة العليا للاستفتاء (والتي تعقد بغير الاحكام والقواعد المرعية في بروتوكولات الاجتماعات الاصولية) من تجميع وحشر لمكونات حزبية صغيرة هي بالاساس ملحق لهذا الطرف الحاكم وذاك لاعتبارات مالية وامتيازات شخصية وذاتية، نفاق سياسي مفضوح وعمل مهين للطبقة السياسية الكردية.
(4) التخوف من اقامة امارة قبرص الكردية بعد الاستفتاء بدعم من الرئيس التركي أردوغان وحكومته المستبدة، وتسليم مقاليد امور الاقليم الى أنقرة لادامة حكم ورئاسة البرزاني وعائلته الحاكمة، وذلك لغرض ادامة سيطرة تركيا على موارد الطاقة من النفط والغاز في الاقليم وتامين احتياجاتها من الوقود والبترول الكردي، وعلى مدى مستقبل بعيد متفق عليه بنصف قرن.
(5) وجود أكثر من ربع مليون كردي فيلي في بغداد، وتعرض البعض منهم الى المخاطر والتهديدات بفعل دعوة الاستفتاء، وعدم تقدير واحتساب اي أهمية سياسية واتسراتيجية وحياتية لهذا الوجود البشري والانساني الكردي في العاصمة الاتحادية من قبل سلطة الاقليم، ومقتضيات الضرورة تقضي بتحديد وضمان مصير ومستقبل هذا المكون في التفاهمات بين الطرفين.
(6) مراعاة الدعوات الأمريكية والدولية الداعية الى اعظاء الأولوية لمحاربة تنظيم داعش الارهابي والقضاء على عناصره التكفيرية، وتأجيل الاستفتاء الى اشعار اخر للبت فيه في وقت مناسب من خلال تفاهمات مستقبلية كردية وعراقية وأمريكية، وبهذه الحالة فان العملية ستكون مضمونة النتائح وبعيدة عن اي احتمالات سلبية وستكون مؤيدة ومكفلة بدعم عراقي ودولي.
(7) تطور وتحول ردود الأفعال العراقية الرسمية وخاصة للسيد حيدر العبادي رئيس الوزراء من الاحتجاج المرن والاستنكار الناعم والرفض الهاديء الى تصلب شديد ووصف خطوة الاستفتاء بالخرق الدستوري وتوصيف تبعاته بالخطورة على العراق نتيجة عدم التفاهم مع الحكومة الاتحادية، هذا التطور يعقد الامور ويخلق احتمال التعرض الى مخاطر غير متوقعة.
(8) حاجة البيت الكردي الى تفاعل سياسي ملموس بين الاحزاب الكردستانية ذات الكتل النيابية لتكوين رؤية مشتركة عن عملية الاستفتاء وترتيب خطوات الاستقلال، وخاصة التفاعل مع رؤية حركة “كوران” التغيير المعارضة والجماعة الاسلامية ضرورة ملحة، وعدم تحقيق توافق داخل البيت بهذا المجال فان عملية الاستفتاء ستكون فارغة من جوهرها.
(9) تعرض العملية السياسية العراقية الى هزات وتغييرات غير متوقعة للاستعداد والتحضير والاعداد للانتخابات النيابية المقبلة، وخااصة داخل التحالف الوطني الشيعي، وهذا ما يمهد لتطورات جديدة واحتمالات قد تكون غير محسوبة، والخروج المفاجيء للسيد عمار الحكيم من المجلس الاسلامي الاعلى وتشكيل تيار الحكمة الوطني بداية لمستحقات سياسية جديدة.
(10) تطور العلاقات العراقية السعودية وازالة السبات والركود منها واعادة االحياة اليها قد تمهد الطريق لاعادة تشكيل تحالفات اقليمية جديدة في المنطقة، وزيارة السيد مقتدى الصدر الى المملكة بدعوة رسمية وطرح رؤية سعودية جديدة عن الشيعة العراقية بأنها تختلف عن الشيعة الخمينية نظرة جديدة بحاجة الى قراءة تحليلية، لأنها تمثل نقلة نوعية في الرؤية السعودية والخليجية من النواحي السياسية والدينية والمذهبية تجاه العراق وقضاياه ودوره الاستراتيجي في المنطقة.
(11) اختيار هوشيار زيباري على رأس هيئة استفتاء الاقليم ومشاركته او رئاسته لوفد التفاوض مع الحكومة الاتحادية سيضعف من الموقف الكردي في المفاوضات بسبب الملابسات الحاصلة من وراء عملية سحب الثقة منه في مجلس النواب.
(12) استقراء طابع المغامرة والمجازفة بمصير الشعب الكردي من دعوة البرزاني للاستفتاء والاستقلال، والاستخفاف والاستهانة بالنداءات الموجهة للسلطة والداعية الى ضمان خزين استراتيجي غذائي ومالي ولمستلزمات حياتية ومعيشية أساسية لفترة لا تقل عن نصف سنة على أقل تقدير، وترك مصير شعب الاقليم الى المجهول.
باختصار، هذه الضرورات الكردستانية والعراقية والاقليمية والدولية هي معطيات آنية عاجلة تلزم التفكير بجدية ورؤية جديدة وعلمية منهجية وبطريقة تحليلية صائبة، وذلك لاعادة القراءة بقرار الاستفتاء وبدقة شديدة لتجنب اي احتمال للعواقب الوخيمة التي قد تلحق بمثل هذه الخطوة المطروحة بطريقة لاعقلانية وبدون دراسة دقيقة.
ولا شك ان الطرح الوارد قد يسهل التريث بالقرار وقد يدفع بالمسؤولين الى التفكير باعادة تحديد الوقت المناسب للعملية، واختيار خيار التأجيل لمدة سنة واحدة باتفاق ضمني بين اربيل وبغداد وواشنطن يمهد الطريق لضمان كل مقومات نجاح الاستفتاء من كل النواحي السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والعلاقات الدولية، وسيضمن تحقيق حق تقرير مصير الشعب الكردي، وكل ذلك من خلال اعادة ترتيب البيت الكردستاني وفق اسس صحيحة، وكذلك من خلال الاستناد الى تفاهم كردي عراقي مع ضمان دعم الولايات المتحدة الامريكية للاستفتاء وما سيترتب عليه من استقلال للاقليم.
ومن خلال هذا الاطار المنطقي والعقلاني والاستراتيجي في العمل والتفاهم المشترك يمكن لكرد الاقليم وللشعب العراقي ان يكونا نواة حقيقية وأساسا متينا لارساء أفضل جيرة في العالم، لأن ما يجمع وما يربط بينهما من أواصر وعلاقات انسانية أكثر من ما يجمع بين اي شعبين في أرجاء المعمورة، وتفرد العراقيين بعربه وكرده بلقب الشعب الاكرم عالميا بالعام الأخير دليل على قولنا هذا، وفي الختام أقول قولي هذا وما لنا من دعاء الا خير نعيم لكل الكرد ولكل العراقيين، والله من وراء القصد.