بعد أن تعود العراقيون طيلة حكم نظام البعث، على الأحكام الظالمة والاستبداد بالقرار الخاطئ، والبطش في تنفيذه بقسوة وغلظة ودموية، حل على العراقيين حكم ديمقراطي بسياسة فدرالية تعددية، وقطعا تحت تغيير كهذا تتبدل أمور البلد بمفاصله جميعها بشكل جذري، وتنقلب معاناة الشعب الى رخاء، وقلقه الى طمأنينة، وتدهور أوضاعه الى ازدهار ورقي كباقي الأمم. لكن، أتت الرياح بما لاتشتهي السفن. فقد تقهقر الحال الى مستوى لايحسد عليه مخلوق على وجه المعمورة، وآل مسير العراقيين الى موضع لايتقدم الأمم ولايتوسطها، وبالإمكان تشبيه مسيرتهم اليوم ببيت الدارمي القائل:
ناگة وعگرها البين واعمى بصرها
تمشي بتوالي النوگ وآنه بأثرها
وما أحداث العاشر من حزيران عام 2014 إلا أكبر دليل على الانكسار وتردي الأوضاع الإدارية والسياسية والاستخبارية والعسكرية. اليوم وبعد أن أوشكت الموصل على الشفاء التام من دائها العضال، ذاك الداء الذي تسبب به نفر من الخونة وبائعي الضمير والشرف وأشياء أخرى، بمخطط مدروس بأجندات داخلية وخارجية، وبعد مطالبات العراقيين الحثيثة بمحاسبة المقصرين في وقوع الأحداث المخزية -وهم كثر- صار لسان حال اللجان التحقيقية المسؤولة عن هذا يطول تارة ويقصر ثانية ويخرس ثالثة..! أما الاستدعاءات والاستضافات فهي الأخرى تعددت بأشكال وأسباب وأوقات، أوحت بما لايقبل الشك، بأن القائم بها يبتغي الإبطاء في إتمامها، ليضمن تأجيل استحصال النتائج الى حين، وهذا الحين قد يطول وقد يقصر وقد يميّع او يموّه تحت ذرائع عديدة، وهذا ماحدث بفعل فاعلين لافاعل واحد، وهدفهم جميعا طي عار ماحصل في الموصل طي النسيان.
وليس بجديد على لجان التحقيق -كما عودتنا اللجان السابقة- الإتيان بالأعذار والمبررات والمسوغات والمطيبات والحلويات بأصنافها، وقطعا سيكون هذا كله تحت رعاية السياسيين في الرئاسات الثلاث وبمباركة رؤسائها حتما، كذلك بتأييد أرباب الكتل. ومن باب الأحوط وجوبا لن يبخل علينا ساستنا -حاشاهم من البخل طبعا- وقادة الأحزاب والوزراء والمسؤولون، بتوفير البدائل التي تضمن انشغال العراقيين بها ليل نهار، صباح مساء، قياما قعودا وعلى جنوبهم، خشية مساءلتهم عن نتائج التحقيق الشافية والشفافة. من هذه البدائل مسلسلات تفوق بحبكتها وتأليفها مسلسل وادي الذئاب وضياع في حفر الباطن، وحتى الحاج متولي. إذ من المؤكد -كما هو حاصل دائما- أن يظهر لنا بين الحين والآخر، وجه عليه ملامح الـ (نغنغه) لانراه إلاعلى كرسي عاجي، تارة تحت قبة، وتارة على طاولة فخمة، وأخرى خلف مكتب خلفه علم وخلف العلم الله يعلم..! وأحيانا في استوديو يطل علينا في لقاء صحفي هام جدا، كانت قد مجدت فيه وكالات كثيرة على شاشات التلفاز، وقد يطل علينا غدا على شاشات المذياع او الثلاجة او الغسالة او الــ (أوتي) بوعيد وتهديد حار بامتلاكه قرصا مدمجا او مضغوطا (C.D) او(D.V.D) يحوي وثائق وأدلة دامغة وبالجرم المشهود وعين اليقين وعلم اليقين وحق اليقين، بالصوت والصورة والرائحة والطعم، وجميع الحواس المحسوسة والملموسة والمدسوسة، وبالاسم الصريح والتوقيع الحي والختم الحراري وبصمات الأصابع وبصمات القزحية، وبتصوير ثلاثي الأبعاد (3D) بالكاميرا الخفية ذات الـ (FISH EYE). يضاف الى هذا شهود آخرون كثيرون، وحسبنا بالشهود رجلان، او رجل وامرأتان. وبعد الأخذ والأخذ، ثم الأخذ والأخذ (حيث لاعطاء لدى القائمين بالتحقيق)..! تأتي النتائج ليطلع عليها المواطن المترقب والمنتظر على أحر من الجمر من يأخذ بحقه.
فهل ستأتي لجنة تحقيقنا بسقوط الموصل بمتهم ومدان ومتورط ومتلبس بدقة وحيادية حقيقيتين لينالوا جزاءهم العادل؟ أم ستكون النتائج مشابهة لنتائج التحقيق في جريمة القتل التي قام بها المقبور عدي ابن المقبور صدام، والتي كان المجنى عليه فيها “كامل حنا” المرافق الخاص للمقبور الثاني..! وهل نشهد في قادم الأيام مقبورين جددا بما يثبت عليهم من جرم وإدانة في مأساة الموصل، دون تستر ومحاباة وتنازلات ومقايضات؟