16 نوفمبر، 2024 3:40 ص
Search
Close this search box.

العالم الذي صنعته أميركا

العالم الذي صنعته أميركا

عرض/ عمرو عبد العاطي
تنقسم الكتابات التي تتناول مستقبل القوة والمكانة الأميركية دوليًا وشكل النظام الدولي خلال العقود القادمة إلى تيارين رئيسيين:
التيار الأول: يرى أن الأحادية القطبية، والهيمنة الأميركية ما هي في حقيقة الأمر إلا نتيجة سقوط الاتحاد السوفيتي السابق؛ وعليه فإن مرحلة الأحادية القطبية ستكون مؤقتة وقصيرة. وهي في طريقها إلى الزوال والانهيار نظرًا للتمدد المفرط الذي تحدث عنه المؤرخ البريطاني “بول كنيدي” في كتابه المعنون بـ “سقوط وانهيار القوى العظمى”(1)، والذي ينطلق فيه من أن الالتزام والتوسع الخارجي يكون بداية انهيار القوى الكبرى مقارنة بالإمبراطوريات السابقة “الرومانية والبريطانية”. وأنصار هذا التيار يشيرون إلى أن التوسع الأميركي الخارجي أثقل كاهلها لاسيما بعد حربي أفغانستان (2001) والعراق (2003). وكثيرًا ما يقارن أنصار هذا التيار الوضع الأميركي الحالي بوضع الإمبراطورية البريطانية في نهاية القرن التاسع عشر، فيضعون حربي أفغانستان والعراق في وضع مقارن لحرب البوير البريطانية –الحروب الاستعمارية التي شنتها الإمبراطورية البريطانية في إفريقيا في نهاية القرن التاسع عشر– التي كانت شاقة ومدانة أخلاقيًا.

التيار الثاني: يرى أن الولايات المتحدة الأميركية سوف تكون فاعلاً في أي نظام دولي جديد رغم عديدٍ من الأزمات التي تواجهها على الصعيدين الداخلي والخارجي، مستندين إلى أن المجال ما زال أمامها للاستمرار وتعويض إخفاقاتها للحفاظ على هيمنتها وتفوقها على الصعد كافة. وأنصار هذا التيار يتحدثون عن “الاستثنائية” الأميركية من الحتمية التاريخية لانهيار القوى العظمى، متحدثين عن أن القيم والمبادئ في النظام السياسي الأميركي فريدة من نوعها وتستحق تهافت دول العالم على تبينها والإيمان بها.
يأتي كتاب روبرت كاغان المعنون بـ “العالم الذي صنعته أميركا”-الذي يقدم هذا التقرير قراءة نقدية له- ضمن التيار الثاني وتاليًا لكتابه “عودة التاريخ ونهاية الأحلام”(2) الذي يتناول فيه مستقبل القوة والمكانة الأميركية في ظل التحولات في شكل النظام الدولي.

يتحدث كاغان في كتابه الجديد عن أن الولايات المتحدة لعبت دورًا رئيسيًا في تشكيل نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو نظام اتسم بغياب الحروب بين القوى الدولية، ونمو الاقتصاد العالمي، وبتضاعف عدد الديمقراطيات، فهو يرى أنه لولا الولايات المتحدة ما حدثت تلك الإنجازات؛ لذا لا تزال القوة الأميركية مهمة للحفاظ على هذا النظام العالمي الذي شكّلته وعلى إنجازاته.

وتنبع أهمية الكتاب من مكانة كاتبه وتأثيره في أروقة صنع القرار الأميركي فهو أحد أبرز أعضاء تيار المحافظين الجدد، والباحث بمؤسسة بروكينغز وأحد مستشاري السياسة الخارجية بحملة المرشح الجمهوري “ميت رومني” للانتخابات الرئاسية عام 2012. وكانت مقالته التي كتبها بمجلة “نيو ريبوبلك”(3) بعنوان “لن تغيب”(4) ملخصًا لأفكار كتابه الجديد الذي أظهر الرئيس الأميركي “باراك أوباما” تأثره به في اجتماع غير مسجل كان يتحدث فيه عن مقالة كاغان(5). وفي خطابه لحالة الاتحاد في الرابع والعشرين من يناير/كانون الثاني 2012، أظهرت كلمات أوباما تأثره بأفكار كاغان حيث قال: “أي شخص يقول لك: إن أميركا في انحطاط أو إن قوتنا التأثيرية في تراجع فهو لا يعرف ما الذي يتحدث عنه”. ناهيك عن موضوع الكتاب وخلاصته التي تبلور أفكار تيار واسع الانتشار بين الكتّاب والمفكرين الأميركيين بأن الولايات المتحدة ستظل القوة الفعالة والمهيمنة على النظام الدولي رغم العقبات الجمة التي تواجهها عالميًا.

العالم الذي صنعته أميركا

ينطلق كاغان في حديثه عن شكل النظام الدولي تحت القيادة الأميركية من مقولة مركزية مفادها “أن النظام الدولي يعكس قيم ومبادئ ومصالح القوى العظمى المهيمنة والمسيطرة عليه”، لتشكّل تلك المقولة أساس أفكار الكتاب الذي يرى فيه أن النظام الدولي تحت القيادة الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى يومنا هذا جاء ليعكس قيم ومبادئ الولايات المتحدة، وليشهد انتشارًا للديمقراطيات وازدهارًا اقتصاديًا عالميًا رغم الأزمة الحالية، إضافة إلى تراجع عدد الحروب بين القوى الكبرى بعد حربين مدمرتين في النصف الأول من القرن العشرين.

يُرجع كاغان انتصار الديمقراطيات على ما عداها من أشكال الأنظمة السياسية ليس لرغبة الأنظمة السياسية في تبني القيم والمبادئ الديمقراطية، ولكن لأن الولايات المتحدة هي ذاتها دولة ديمقراطية، وأن انتشار الديمقراطيات عالميًا لم يحدث إلا بالدعم والتأثير الأميركي. وقد استمرت الديمقراطية واتسع نطاقها مع الدعم الأميركي المستمر لتوسيع رقعة انتشارها وتعزيز حرية التجارة في مواجهة الأفكار السوفيتية والأنظمة الديكتاتورية.

يتحدث كاغان عن أن التدخلات العسكرية في مناطق عدة لم تكن لرغبة الولايات المتحدة في الحروب لكنها كانت مفروضة عليها لحماية المجتمع الدولي من تهديدات تستهدف أمن واستقرار النظام الدولي الذي شكّلته، والحفاظ على المصالح الاقتصادية وحماية المواطنين من الأخطار ومحاربة “التطرف” والديكتاتوريات ونشر الديمقراطية. ويرى أن الحروب والتدخلات العسكرية التي خاضتها الولايات المتحدة شرعية وأنها أحد أدوات سياستها الخارجية. ويضيف: إن الهيمنة الأميركية واستخدام القوة العسكرية أضحت “مشرعنة”، ويقول: إنه لولا التدخل والدور الأميركي في تشكيل النظام الدولي لكنّا بصدد نظام دولي مختلف عما نشهده حاليًا.

يتجاهل كاغان هنا حقيقة أن الدعم الأميركي للديمقراطية ارتبط بالأساس بتحقيق المصلحة الأميركية؛ فقد تغافلت عن ديكتاتورية أنظمة منطقة الشرق الأوسط من أجل الحفاظ على استقرار المنطقة واستمرار تدفقات النفط إلى السوق الأميركية. فمع بداية الثورات وقفت الولايات المتحدة بجانب حلفائها التقليديين في المنطقة في وجه الثوار خوفًا من عدم الاستقرار وتولي قيادات جديدة تهدد المصالح الأميركية، ومن قبل رفضت التعامل مع حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين (حماس) رغم نجاحها في انتخابات ديمقراطية في عام 2006 باعتراف المجتمع الدولي. وحتى وقتنا هذا ما زالت واشنطن عاجزة عن دفع عملية التحول الديمقراطي في مصر وتونس، وعجزت عن دمقرطة العراق وأفغانستان رغم ارتفاع تكلفة العمليات العسكرية بالبلدين؛ فالدعم الأميركي للديمقراطية يرتبط بمدى خدمة النظام للمصالح الأميركية من عدمه.

إن حديث كاغان عن التدخل العسكري يتجاهل حقيقة أن كثيرًا من الحروب والتدخلات العسكرية الأميركية الخارجية لم تكن شرعية ولم يوافق عليها المجتمع الدولي كالحرب الأميركية على العراق في 2003، وأن كثيرًا من الحروب الأميركية لم تحقق الاستقرار العالمي خاصة في الأقاليم التي تتدخل فيها. فبعد سنوات من الحرب الأميركية في أفغانستان والعراق ما زالت الدولتان تتسمان بعدم الاستقرار الداخلي وكذا محيطهما الإقليمي. وكثير من التدخلات العسكرية الأميركية خارجيًا لم يكن هدفها حفظ الاستقرار والأمن الدوليين بل تحقيق مصلحة أميركية محضة في ظل سيطرة المركب الصناعي العسكري -المتحالف مع كبرى شركات الطاقة الأميركية- على مؤسسات صنع القرار الأميركي، وهو ما كان جليًا خلال إدارتي الرئيس الأميركي الأسبق “جورج دبليو بوش” (2000- 2008).

شكل النظام الدولي عقب الانهيار الأميركي

يرى كاغان أنه ليست هناك قوة واحدة قادرة على أن تحل محل المكانة الأميركية عالميًا، وركز على المقومات الاقتصادية للصعود الصيني وأشار إلى توقعات عديد من المحللين لسيطرة الاقتصاد الصيني على الاقتصاد العالمي خلال العقدين القادمين لكنه يفند دعاوى سيطرة الصين على النظام الدولي؛ فتحدث عن عديد من الصعوبات التي تواجه الصين منها عقبات جيوسترإتيجية؛ حيث تحاط بكين بقوى تنافسها على المكانة الدولية وتفرض عليها تحدي إيقاف تلك الدول عن منافستها عالميًا واحتوائها، لأنها إذا لم تفعل ذلك ستحاط بقوة منافسة لها على الصعيد الدولي.

ويعارض مقولات الصعود الصيني وسيطرته على الاقتصاد العالمي وتفوقه على نظيره الأميركي؛ فيرى أنه رغم النمو الاقتصادي الصيني إلا أن الصين ما زالت دولة فقيرة، ويشير إلى أنها كانت في عام 2010 في المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في الناتج المحلي الإجمالي، ولكن دخل الفرد بالنسبة للدخل الإجمالي يصل إلى أربعة آلاف دولار وهو معدل قريب من معدل دخل الفرد في الجزائر وأنغولا، بينما في الولايات المتحدة واليابان وألمانيا 40 ألف دولار. ومع توقع أن دخل الفرد الصيني سيصل في 2030 إلى نصف نظيره الأميركي فإن الصين ستكون في مرتبة سلوفينيا واليونان حاليًا. وهذا يأتي عكس الخبرة التاريخية: أن من يهيمن على النظام الدولي هو القوي الغني، وهو ما تجمع عليه معظم التحليلات الأميركية والغربية.

ويؤكد كاغان أن عدم تبني الصين سياسة عدوانية تجاه دول الجوار (الهند واليابان) وفي جنوب شرق آسيا، ليس بسبب عدم رغبة بكين ولكن بسبب الردع الأميركي الذي يمنعها من تبني سياسات عدوانية في محيطها الإقليمي. ومع الانهيار الأميركي ستتبنى الصين سياسات معادية لجوارها الإقليمي في وقت تعزز فيه من قوتها البحرية لمواجهة النفوذ الأميركي في القارة الآسيوية.

يعارض كاغان الرؤى التي تذهب إلى أن القوى التي ستحل محل الولايات المتحدة في قيادة النظام الدولي ستستمر في دعم انتشار الديمقراطية؛ لأن من سيحكم النظام الدولي من القوى الصاعدة (روسيا والصين) ذات أنظمة ديكتاتورية متوجسة من انتشار الديمقراطية لتأثيرها على أنظمتها الديكتاتورية؛ فتكون أكثر دعمًا للأنظمة الديكتاتورية، وستعوق من استمرار انتشار الديمقراطية واتساع رقعتها. ويشير إلى رفض الدولتين لمشاريع أميركية في الأمم المتحدة لفرض عقوبات على دول ديكتاتورية، مثل: السودان، زيمبابوي، سوريا، إيران، كوريا الشمالية. ويتحدث عن الدعم المالي والسياسي الصيني لديكتاتوريات بالقارة الإفريقية من أجل الحصول على مواردها، وكان هذا الرأي محور كتابه “عودة التاريخ ونهاية الأحلام”.

هناك رؤى تدعم ما يذهب إليه كاغان بشأن تبني بكين سياسة عدوانية في محيطها الإقليمي وتذهب إلى أن بكين ستسعى لترجمة ثروتها الاقتصادية إلى قوة عسكرية في المستقبل، وأنها ستحاول مع تزايد قوتها العسكرية حماية محيطها الإقليمي وتحدي الدور الأميركي الحالي في آسيا. وستسعى الصين بكافة الطرق (سلمية وغير سلمية) إلى فك تحالفات الولايات المتحدة مع عدد من دول الجوار للصين، وبالمقابل ستحاول واشنطن أن تقاوم مثل هذه الجهود وبالتالي ستنشب منافسة أمنية كبرى بين الطرفين.

هل الولايات المتحدة في مرحلة تراجع؟

في هذا الجزء يطرح كاغان تساؤلين رئيسيين مفادهما: هل القوة الأميركية في تراجع؟ وهل هذا التراجع حتمي؟ ويجيب على هذين التساؤلين بأن القوة الأميركية ما زالت المهيمنة عالميًا داعمًا رأيه بالحديث عن “قوة الدولة” التي تستند إلى ثلاثة مؤشرات رئيسية تتمثل في: أولاً: حجم وتأثير اقتصادها مقارنة بالقوى الصاعدة. ثانيًا: حجم وقدرة القوة العسكرية مقارنة بمنافسيها. وثالثًا: التأثير السياسي عالميًا ودورها في حل المشكلات العالمية. واستنادًا إلى تلك المؤشرات يرى أن الولايات المتحدة ما زالت القوة المهيمنة والمسيطرة عالميًا.

ويفند مقولات التيار القائل بتراجع القوة الاقتصادية الأميركية بأن الولايات المتحدة الأميركية واجهت أزمات اقتصادية في ثلاثينيات وسبعينيات القرن العشرين لكنها مع كل أزمة تخرج أكثر قوة وازدهارًا عما قبل. فرغم الأزمة الاقتصادية وتراجع معدل النمو الأميركي إلا أن مكانة الولايات المتحدة الاقتصادية لم تتغير فما زالت نسبة مساهمة الولايات المتحدة في الناتج العالمي مستقرة ليس خلال العقد الماضي فقط ولكن خلال العقود الأربعة الماضية؛ ففي عام 1969 أنتجت الولايات المتحدة حوالي ربع الإنتاج العالمي واليوم ما زالت تنتج الربع تقريبًا، والاقتصاد الأميركي ليس الاقتصاد الأقوى عالميًا فحسب لكنه الأغنى، ويرى أن صعود القوى الاقتصادية الصاعدة: الهند والصين لا يأتي على حساب الولايات المتحدة بل على حساب أوروبا واليابان اللتين تراجع نصيبهما في الاقتصاد العالمي.

وعن القوة العسكرية الأميركية لا يرى كاغان أن هناك تراجعًا في القوة العسكرية الأميركية فما زال الإنفاق العسكري الأميركي الأعلى عالميًا، فهي تنفق 600 بليون دولار سنويًا على الدفاع وهو ما يفوق باقي القوى الكبرى مجتمعة وبما يمثل 4% من ناتجها المحلي الإجمالي وهي نسبة أكبر من تلك التي لباقي الدول الكبرى، إلا أنها أيضًا الأقل أميركيًا مقارنة بما كان الحال عليه في السابق حيث كان 10% في منتصف الخمسينيات و7% في الثمانينيات. ويضيف كاغان بُعدًا آخر للقوة العسكرية الأميركية يتمثل في التقدم التكنولوجي الذي تتمتع به المؤسسة العسكرية الأميركية وسيطرة وانتشار الأسطول الأميركي في المياه والمحيطات الدولية الرئيسية.

يحاول كاغان في كتابه دحض فكرة “التمدد المفرط” التي تحدث عنها “بول كنيدي” في كتابه “صعود وسقوط القوى العظمي”. ورأى في الحديث عن التمدد الأميركي المفرط مبالغة لا أكثر، ويدعم فكرته بالحديث عن عدد القوات الأميركية المنتشرة خارج الأراضي الأميركية فيقول: إنها كانت في عام 1953 مليون جندي أميركي وأصبحت عام 2011 -مع خوض الولايات المتحدة حربين خارج أراضيها في أفغانستان والعراق- نصف مليون جندي أميركي، منهم 200 ألف في العراق و160 ألفًا في أفغانستان، وهو عدد أقل مما كان عليه خلال الحرب الباردة حيث كان التنافس مع الاتحاد السوفيتي السابق محتدمًا.

ويرى أنه رغم العديد من الإخفاقات الأميركية عالميًا فقد كانت هناك إنجازات أميركية تفوقها بالمقابل، من ذلك مشروع “مارشال” لإنقاذ الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، وتوسيع حلف شمال الأطلنطي شرقًا، ونظام بريتون وودز الذي لا يزال يشكّل النظام الاقتصادي حتى وقتنا هذا. ويضيف: نجاح الولايات المتحدة في حرب الخليج الثانية، وفرض السلام في البلقان، والحفاظ على “إجماع واشنطن”(6)، وتمتعها بشبكة قوية من الحلفاء في أوروبا وآسيا.

حديث كاغان عن شكل النظام الدولي ومستقبل القوة الأميركية يغفل أن هناك تحولاً في النظام الدولي يلازمه انتشار للقوة -الاقتصادية، والعسكرية، والناعمة- دوليًا بحيث لم تعد متمركزة في الولايات المتحدة الأميركية، وإنما أصبحنا أمام تدرج هرمي للقوة. يأتي في قمة الهرم القوة العسكرية، وهذا النوع من القوة يتسم بالأحادية في ظل السيطرة الأميركية وتوقع استمرارها لسنوات قادمة. وفي منتصف الهرم تأتي القوة الاقتصادية؛ وهنا نشهد تعددًا قطبيًا حيث تشارك الولايات المتحدة في القوة الاقتصادية مجموعة من الدول، مثل: أوروبا واليابان والصين. وفي أسفل هرم القوة نشهد تعددًا للقوة لا يمكن وصفة بالتعددية ولكن الوصف المناسب له هو ما ذهب إليه “ريتشارد هاس” من “عالم بلا أقطاب” حيث تتوزع القوة بين قوى متعددة مثل الشركات متعددة الجنسيات والتنظيمات الإرهابية والشبكات الإخبارية العالمية….. إلخ.

ويغفل كاغان أيضًا أن هناك تراجعًا في قوة التأثير الأميركية وكذا النموذج الأخلاقي الأميركي الذي يُعد أحد مصادر قوة الولايات المتحدة الناعمة عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، وحربها على الإرهاب، وانتهاكات حقوق الإنسان في معتقل غوانتانامو. وتراجعت الصورة والمكانة الأميركية مع دخول الولايات المتحدة في حربين -أفغانستان والعراق- أكبر من قدراتها العسكرية ما قوض من نفوذ وتأثير قوتها العسكرية عالميًا، وهو ما دحض مقولة: إن الولايات المتحدة قادرة على أن تخوض حربين متزامنتين في منطقتين مختلفتين بنجاح.

ويضاف إلى الإخفاقات الأميركية الإخفاق في إحراز تقدم في عملية السلام بين إسرائيل والدول العربية رغم جهود الرؤساء الأميركيين في حل الصراع العربي-الإسرائيلي، واستمرار كوريا الشمالية وإيران في مساعيهما النووية، ورفض الصين أن ترفع سعر عملتها؛ وهو الأمر الذي يضع كثيرًا من العراقيل أمام انتشار القوة الناعمة الأميركية وقدرتها على جذب الآخرين إلى وجهة نظرها، ويُظهر أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على قيادة العالم وفرض سيطرتها.

ورغم تأثر أوباما بكتاب كاغان ومناقشة أفكاره إلا أن سياساته تختلف مع كثير من الأفكار التي تحدث عنها كاغان؛ فقد تولى أوباما حكم الولايات المتحدة الأميركية وهو على يقين بتراجع القوة الأميركية وأن هناك تحولاً في شكل النظام الدولي، وأن أميركا ليست الدولة الوحيدة المؤثرة. فعلى عكس تيار المحافظين الجدد المسيطر إبان فترتي بوش الابن -الذي تعامل مع النظام الدولي حسب رؤيتهم لما يجب أن يكون عليه انطلاقًا من مشروعهم بأن القرن الحادي والعشرين هو قرن أميركي بامتياز- تعامل أوباما مع النظام الدولي وقضاياه كما هو باعتباره يشهد تغييرات في موازين القوى مع صعود قوى دولية جديدة وليس من منظور ما يجب أن يكون عليه هذا النظام.

وانطلاقًا من رؤيته لتراجع القوة الأميركية عالميًا وأنها لم تعد الدولة الوحيدة المؤثرة لكنها في الوقت ذاته الأكثر فاعلية والأكثر تأثيرًا، يعد أوباما بإصلاح أوجه القصور في مصادر القوة الأميركية التي تغافل عنها كاغان في كتابه. بداية من إعادة تحالفات أميركا الخارجية التي انهارت مع سنوات بوش الثماني، مع التركيز على الداخل الأميركي باعتباره الضمانة الحقيقية لاستمرار قوة التأثير الأميركي عالميًا والتي كانت محور تركيز إستراتيجيته للأمن القومي الأميركي الصادرة في مايو/أيار 2010. فأولى أوباما اهتمامه لقضايا التعليم والبحث العلمي والرعاية الصحية حتى تتمكن الولايات المتحدة من الحفاظ على اقتصادها الإبداعي وتفوقها التكنولوجي، إضافة إلى ضخ ملايين الدولارات في الاقتصاد الأميركي لضمان نموه على المدى الطويل وزيادة الاستثمارات الأجنبية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معلومات الكتاب
اسم الكتاب: العالم الذي صنعته أميركا – The World America Made”
المؤلف: روبرت كاغان – Robert kagan
لغة الكتاب: الإنكليزية
سنة الصدور: 2012
عدد الصفحات: 149
عرض: عمرو عبد العاطي – متخصص في الشؤون الأميركية، وباحث بالمركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية بالقاهرة.
الهوامش
1. The Rise and Fall of the Great Powers, 1987
2. The Return of History and the End of Dreams
3. Not Fade Away
http://www.newrepublic.com/article/politics/magazine/99521/america-world-power-declinism
4. New Republic
5. Obama embraces Romney advisor’s theory on ‘The Myth of American Decline’، للاطلاع إضغط هنا.
6. “إجماع واشنطن” Washington Consensus”: مسودة من عشرة بنود طرحها عالم الاقتصاد الأميركي جون وليامسون عام 1989 وهي بمثابة الشروط التي يجب على المؤسسات المالية التي أنشأتها الولايات المتحدة (صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي) تبنيها عند تقديمها الدعم للدول النامية لخروجها من أزماتها الاقتصادية.
مركز الجزيرة للدراسات

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة