ما أكثر المهن والحرف والصنعات في عالمنا! وما أكثر مزاوليها ومحترفيها! ولا أظنني أشط عن الصواب إن قلت ان أرباب الكتل والأحزاب، ومتبوئو المناصب العليا في البلد، يمتهنون صياغة العبارات واصطفاء المفردات بدقة منقطعة النظير، وأنهم يحترفونها أكثر من اتقانهم تفاصيل واجباتهم ودقائق مامنوط بهم من مسؤوليات والتزامات مهنية تجاه الوطن والمواطن. وما رأيي هذا بجديد آتي به، ولاابتكار استحق عليه براءة اختراع، فهي بديهة تراكمت في قناعاتنا نحن العراقيين مذ كان يحكمنا دكتاتور، بعض صفاته أنه ظالم، سفيه، صفيق، أخرق، ومع هذا وذاك وإن شئنا أم أبينا! فقد مسك أركانا من البلاد بأسلوب لم يمسكه من أتى خلفه في سدة الحكم، وأحكم السيطرة عليها بقبضة أو بأخرى، بطريقة أو بثانية، بشكل أو بآخر. ومايؤسف حقا أن الدكتاتورية والظلم لم تمت بموته، ولم تتبدل بتبدل نظامه الحاكم، وكذا الحال في باقي صفاته المذكورة، فقد توارث خلفه جميع سلبياته، وأهملوا النزر اليسير من إيجابياته، والتي كما قلت أنها حقيقة شئنا أم أبينا!.
هناك عبارات كثيرة لطالما سمعها المواطن العراقي، اليوم وأمس وأمس الأول، وقبل أربع سنوات، وقبلها بأربعة أعوام أيضا، على لسان ساسة الساحة العراقية الجديدة، ومن رؤساء الكتل والقوائم، ومن الشخصيات القيادية في البلد، وذلك في الأوقات التي تسبق كل دورة برلمانية، وتشكيلة حكومية، أو تلك التي يحلو لبعضهم تسميتها أعراسا انتخابية، ولست أدري كيف أضحت المآتم أعراسا، إذ ماكان جني أعراس العمليات الانتخابية غير انتشار الفساد بأشكاله وأصنافه وأحجامه الفلكية، في كل مفاصل البلاد التي مرت بهذا العرس المزعوم. فالعبارات التي يرددها السياسيون والمسؤولون، وتترى على أسماع العراقيين بشكل دوري قسرا، إنما هي عبارات سامية في ظاهرها، تهدف الى تحقيق النتائج المجدية من اجتماعات الرؤوس، لاسيما حين يكون المرؤوسون على أحر من الجمر، انتظارا لما تجود به كف أحدهم، وهو في حقيقة الأمر ليس جودا، بل واجب منوط بالرأس، ماعليه إلا إتمامه وإتقانه، وهو حق للمرؤوس عليه، إلا أن المعطيات على أرض الواقع مغايرة تماما لما عرض وطرح وقيل ووُعِد به وعُوّل عليه.
من تلك العبارات؛ تقارب وجهات النظر.. تلاقح الأفكار.. توحيد الآراء.. توافق الرؤى.. رأب الصدع.. لم الشمل.. حلحلة الأزمة.. تفتيت الصراعات، تلطيف الأجواء وغيرها مما يستخدمه المتكلم من السياسيين والمتحدث من المسؤولين. وبلدنا في ظرفنا الحالي بأمس الحاجة الى تفعيل مثل هذه العبارات، وترجمتها الى سلوك ونهج واقعي معمول به، لاسيما وأن الواقع اليوم بدا مريرا من جراء الخلافات والاختلافات التي لها أول وليس لها آخر، فلايكفي التلويح بها في اللقاءات الإعلامية او الخطب الرنانة في اجتماعات ومؤتمرات هي أصلا خارج نطاق خدمة البلاد وملايين العباد. وبعد التجارب المحبطة التي مُرر المواطن في حلقاتها الضيقة، بات يصعب عليه الوثوق 100 % بمصداقية تلك العبارات، فهو بين مصدق -من وحي الأمل- ومكذب -من واقع الحال- لها. وماتزعزع ثقته هذا إلا نتاج سنين عجاف طوال، مرت عليه خلالها جميع أفانين الضحك على الذقون، وأساليب التحايل وطرائق الالتفاف ووسائل الخديعة وأدوات المكر. وما يؤلم أنها حيكت عليه من أبناء جلدته وأبناء محلته او مدينته او محافظته، بعد أن رشحوا أنفسهم خدمة له وللبلد، فاستحدثوا عبارات ومصطلحات عصرية امتطوها مغرضين، متخذين منها جسرا للعبور، والعبور هنا قطعا لن يكون إلا على أكتاف المواطن.
فهل يظن ساستنا أن مستلزمات القيادة الحكيمة ومقومات القائد الحكيم، هي تحليه بالمفردات الوطنية وترديده العبارات الطنانة ليغرد بها هنا وهناك، لإثبات وطنيته ومهنيته دون الالتفات الجدي الى مصالح بلده؟ فلو كان هذا ظنهم، فإن بيتي الشاعر الأندلسي أبو بكر بن عمار الملقب بذي الوزارتين ينطبق عليهم تماما، حيث قال:
مما يزهدني في أرض أندلـس
أسـمـاء معتضـد فيها ومعتـمـد
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد