5 نوفمبر، 2024 2:41 م
Search
Close this search box.

صراع اللغة واللهجات .. تناحر دائم بين الفلاسفة والشعوب !

صراع اللغة واللهجات .. تناحر دائم بين الفلاسفة والشعوب !

خاص : كتبت – ابتهال علي :

اشتد الجدال، طوال العقود الماضية، في وسائل الإعلام وبين قادة الفكر وأساتذة اللغويات في العالم عن “اللغة” و”اللهجات” وعمليات التفاعل المتبادلة بين اللغة والثقافة والفكر وتأثير اللهجات المختلفة على لغة الأدب والإعلام. وهو نقاش يتقاطع بالضرورة مع إشكالية اللهجات في عالمنا العربي وتأثيرها على لغة الفن والأدب ؟

ويتخذ هذا الجدال مناحي شتى حين يتطرق إلى عالم لهجات الأقليات العرقية واللهجات المندثرة.. وهل يمكن أن ينظر إليها باحترام أكاديمي ويعترف بها كلغة “قياسية” ؟.. خاصة مع الغزو الثقافي الذي تشهده الولايات المتحدة والعالم من قبل “لغة السود الأميركيين”.

تختلف مسميات لعبة اللغة ما بين “الفصحى مقابل العامية” و”اللغة القياسية مقابل اللغة الدارجة” و”اللغة الرسمية مقابل اللهجات” و”اللغة المكتوبة مقابل اللغة المنطوقة”.

ويدور في الآونة الأخيرة داخل العالم العربي جدال خطير عن تعريب أفلام “والت ديزني” إلى اللغة العربية, وهل يتم “دبلجتها” بالعامية المصرية أم باللغة العربية الفصحى. وهو صراع اتخذ من منصات وسائل التواصل الاجتماعي منابر يدافع فيه كل فريق عن موقفه.

واللغة القياسية أو المعيارية, هي اللغة التي توصل إليها مجتمع ما عبر ممارسات وعملية طويلة من التأصيل ووضع القواعد, وهي اللغة الرسمية التي تستخدم في المؤسسات الحكومية وقاعات الدرس.

نتناول في هذا التحليل مساهمات ثلاثة علماء أجانب في مجال اللغويات, هم مؤسسي علم اللغويات في العصر الحديث.. المفكر الأميركي “نعوم تشومسكي”, وعالم اللغويات الأميركي “جون ماكوهورتر”, وأخيرًا استاذ علم اللغويات بجامعة “مانشستر” البريطانية “غي ديوتشر”.

معضلة “لغة السود” في الولايات المتحدة..

نشر موقع “Literary Hub” مقالًا, عبارة عن مواجهة بين عالم اللغويات الأميركي “جون ماكوهورتر” وبين “كيا كوثرون” الكاتبة المسرحية الأميركية, تناولا فيها بالنقاش العوامل التي تجعل لغة ما تصنف بأنها “لغة قياسية” ومدى قبول العالم الثقافي للغة الإنكليزية المتداولة بين السود, وكما يطلق عليها “الإنكليزية السوداء”, وبوجه عام اللهجات في الحوار الأدبي وفي الحياة اليومية وعالم السينما و”دبلجة” الأفلام الوثائقية وأفلام الرسوم المتحركة, مثل أفلام “والت ديزني”.

قدم عالم اللغويات “جون ماكوهورتر”, الأستاذ بجامعة “كولومبيا” الأميركية, كتابًا بعنوان: “Talking Back, Talking Black”, دافع فيه عن لغة السود مطالبًا باعتبارها لغة لا “لهجة”. وقد تولى “ماكوهورتر” منصب رئيس الجمعية اللغوية الأميركية.

تعود المحاولات العلمية لتأصيل لغة السود إلى أكثر من نصف قرن منذ أن بدأ علماء اللغويات في دراسة ما أطلق عليه “الإنكليزية السوداء” باعتبارها تنوعًا مشروعًا في لغة الكلام تختلف عن اللغة الإنكليزية الأساسية وليست امتهانًا لها أو وسيلة للحط منها.

وطوال تلك الفترة ما زال الجدال محتدًا في وسائل الإعلام وبين الأكاديميين عن معنى لهجة الأميركيين السود, ومدى تقبلها في الصحافة والسينما والأدب.

يدرس “جون ماكوهورتر” تطور اللغة الإنكليزية السوداء والقضايا السياسية والثقافية التي قوضت الاعتراف بهذه اللهجة, التي يعتبرها السود لغة تمكين سياسي معقدة تجاوزت حدود الولايات الأميركية لتصبح قوة ديناميكية تؤثر على ثقافة الشباب في جميع أنحاء العالم في الوقت الراهن, عبر أغاني “الراب” على سبيل المثال.

يروي “جون ماكوهورتر” انه في دولة “هايتي”, في منطقة الكاريبي, تنتشر لغة عامية يطلق عليها “Creole” بجانب اللغة الفرنسية, وفي جزيرة “صقلية” بإيطاليا تنتشر لهجة تسمى “اللغة الصقلية” بالإضافة إلى اللغة الإيطالية القياسية, وهي لهجات مقبولة في الحياة اليومية بعكس الحال مع لغة السود في الولايات المتحدة.

ويطرح العالم إشكالية, هل يمكن أن تتطور هذه اللهجات المحلية، التي تعتبر أشبه بلغة الأم، بدورها لتصبح لغات قياسية ؟.. فيصبح لدى العالم لغة مغربية ولغة ليبية ولغة صقلية, وهكذا يمكن أن تتحول للغة تطبع في الكتب والصحافة وتستخدم في الجامعات والمدارس وينطق بها في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية.

لكن.. لماذا نحتاج للهجات في حياتنا ؟

يوضح عالم اللغويات “ماكوهورتر”, أن اللغات غير القياسية “اللهجات” تصبح مقبولة في مجتمع ما أو يتم إحياؤها من جديد لإبراز الاختلافات بين المجتمعات، وعلى سبيل المثال، يتواصل الإيطاليون في منازلهم بلهجة تختلف عن اللغة الإيطالية المعروفة، ورغم أن علماء اللغة ينظرون لهذه اللهجة الإيطالية الدارجة نظرة دونية، نوعًا ما، إلا أنها تعتبر وسيلة للتواصل الإنساني والدفء العاطفي لدى الإيطاليين، كما إنها جزء من الهوية المحلية للمناطق المختلفة ترتبط بالوعي العام لمنطقة ما أو سكانها المنتمين لقبيلة أو عرقية مختلفة. مثل اللهجات البدوية أو اللهجة الصعيدية في جنوب مصر.

وبوجه عام ينظر هؤلاء للغة الرسمية على أنها بعيدة عن احتياجات واقع الحياة اليومية, أي انها تأتي إليهم من أبراج عالية.

البيضة أم الدجاجة ؟

تبرز أمام علماء اللغة معضلة هامة أشبه بسؤال “البيضة والدجاجة”: وهي الإتجاه السائد لاعتبار لهجة ما “لغة” عندما تصبح “مكتوبة”, أي تخضع لقواعد النحو والصرف والبلاغة. وهو ما يصيب اللغويين بمشاعر الإحباط كثيرًا بسبب تصنيف كل اللغات المنطوقة، التي لم تدون كتابة، في خانة اللهجات مثل “اللغة النوبية” في جنوب مصر وشمال السودان.

وما يزيد من تعقيد الأمور، أن اللغات المنطوقة أكثر صعوبة وتعقيدًا من الناحية النحوية مقارنة باللغة الرسمية المكتوبة, والتي انتشر بعضها على خريطة العالم بسبب الغزو الاستعماري مثل الإنكليزية والفرنسية.

كذلك، تفرض اللغات المنطوقة “اللهجات” تحديات هائلة أمام المبدعين في مجال الأدب، وتوضح “كيا كورثرون”, الكاتبة المسرحية الأميركية, أن مؤلف النصوص المسرحية أو الروايات يجب أن يتمتع بمعرفة وثقافة موسوعية عن تطور اللهجات التي يستخدمها في حوار على لسان شخصيات عمله الأدبي. فمثلاً، كان عليها أن تدرك أن الأميركان السود يسقطون فعل “يكون To Be” في حوارهم, خاصة في فترات زمنية قبل الحرب العالمية الثانية عكس “البيض” القادمين من مناطق فقيرة.

و”كيا كورثرون” كاتبة مسرحية وتليفزيونية ولدت عام 1961, ومن أشهر مؤلفاتها رواية “The Castle Cross the Magnet Carter”.

اللغة “زجاج” يمتص البيئة المحيطة ويعكسها..

في تناول آخر لإشكالية اللغة واللهجات، عرض عالم اللغويات “غي ديوتشر Guy Deutscher”, بجامعة مانشستر البريطانية, في مؤلفه “عبر نافذة اللغة: لماذا يبدو العالم مختلفًا في لغات أخرى”, اللغة مثل المنشور الزجاجي بنت البيئة المحيطة بها وتعكس الظروف المحيطة بها ويؤثر على إدراكنا للعالم المحيط بنا.

ويخلص “ديوتشر” إلى أن المتحدثين للغات مختلفة يدركون ويفهمون الألوان الحسية بشكل مختلف، فما بالنا لتصوراتهم للعالم من خلال اللغة.

ويورد “دويتشر” أمثلة عدة منها إدراك من يتحدثون اللغة الروسية لدرجات اللون الأزرق بصورة أعمق ممن يتحدثون الإنكليزية، وهو في سبيل ذلك يدحض ما اتفق عليه علماء النفس واللغويون البارزون منذ سنوات طويلة أن اللغة الأم لا تؤثر على الطريقة التي ننظر بها للعالم وطريقة تفكيرنا.

ويورد مقولة أسطورية تنسب للإمبراطور الروماني “تشارلز الخامس”, أنه عندما يخاطب الآلهة يتحدث الإسبانية وعندما يخاطب النساء يتكلم بالإيطالية وعندما يحادث الرجال يلجأ إلى اللغة الفرنسية، بينما يكلم خيوله باللغة الألمانية.

ويقرر أن لغة ما هى انعكاس لثقافتها وبيئتها وطرق التفكير لدى ابنائها وعوامل نفسية عديدة،  مبررًا تأثير المناخ شديد الحرارة والرطوبة في المناطق الاستوائية على ميل سكان تلك المناطق للاسترخاء, ومن ثم يسقط نطق الحروف الساكنة كثيرًا عند الحديث.

وأيضًا، عند مقارنة بين لغتين من عائلة واحدة وهما البرتغالية والإسبانية, نشعر أن الأولى لغة تتسم بالقوة نتيجة للاختلافات بين الشعبين.

نظرة استعلائية للغة..

يعتبر البعض أن نظرة “غي ديوتشر” للغة تتسم بنظرة استعلاء وعنصرية نوعًا ما, فهي ترجع درجة النظام التي يتمتع بها الألمان إلى لغتهم التي تتميز بالدقة والقواعد النحوية المنمقة لدرجة أنه يعتبرها لغة تصلح للفلسفة.

ومن اهم النظريات المعارضة لأفكار “غي ديوتشر” أعمال عالم اللغويات والمفكر السياسي الأبرز “نعوم تشومسكي”, التي تطرح الرأي الرافض لهذه الشذرات العنصرية التي تفسر علاقة اللغات واللهجات المحلية بالعوامل المحيطة بمن يتحدث بها.

يعد “نعوم تشومسكي”، أستاذ اللغويات الفخري في قسم اللسانيات والفلسفة في معهد “ماساتشوستس” للتكنولوجيا بالولايات المتحدة، أبو علم اللسانيات الحديث وأحد أشهر اللغويين في العصر الجاري، وجاءت أبرز مساهماته في علم اللغة عبر “نظرية القواعد التحويلية التوليدية”.

اللغة كيان فطري ينمو مع الطفل..

ترتكز فلسفة “تشومسكي” في اعتبار اللغة – خاصة لغة الأم – تنظيمًا عقليًا فطريًا لا يخضع لعوامل خارجية وهذه الوحدة العضوية للغة لا تدرسها كمجموعة جذر منفصلة تتكون من الكلمات والقواعد النحوية والمقاطع الصوتية، بل كبحر يحتضن في أعماقه هذه الجذر ويسمح لها بالتفاعل فيما بينها في عمليات توليدية، ينجم عنها “اللغة”.

ويؤكد “تشومسكي” على أن عقل الطفل يتعلم اللغة بالفطرة, وليس عن طريق التجربة والخطأ والسلوك, وهو هنا يعارض النظرية السلوكية في اكتساب اللغات.

ووفقًا لنظرية “تشومسكي” يمتلك الطفل قدرات عقلية إبداعية فطرية تنمو وتتطور عبر التفاعل  مع البيئة المحيطة بالطفل لتتكون لدية لغة الأم. وبعدها تتطور لديه بنية اللغة المتكاملة ويستطيع تعلم لغات آخرى.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة